خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً
٧٨
كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً
٧٩
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً
٨٠
-مريم

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً كَلاَّ }.
اعلم أن الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة رد على العاص بن وائل السهمي قوله: إنه يؤتى يوم القيامة مالاً وولداً، بالدليل المعروف عند الجدليين بالتقسيم والترديد، وعند الأصوليين بالسير والتقسيم. وعند المنطقيين بالشرطي المنفصل.
وضابط هذا الدليل العظيم أنه متركب من أصلين: أحدهما - حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحصر، وهو المعبر عنه بالتقسيم عند الأصوليين والجدليين، وبالشرطي المنفصل عند المنطقيين.
والثاني - هو اختيار تلك الأوصاف المحصورة، وإبطال ما هو باطل منها وإبقاء ما هو صحيح منها كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى. وهذا الأخير هو المعبر عنه عند الأصوليين "بالسبر"، وعند الجدليين "بالترديد"، وعند المنطقيين، بالاستثناء في الشرطي المنفصل. والتقسيم الصحيح في هذه الآية الكريمة يحصر أوصاف المحل في ثلاثة، والسبر الصحيح يبطل اثنين منها ويصحح الثالث, وبذلك يتم إلقام العاص بن وائل الحجر في دعواه: أنه يؤتى يوم القيامة مالاً وولداً.
أما وجه حصر أوصاف المحل في ثلاثة فهو أنا نقول: قولك إنك تؤتي مالاً وولداً يوم القيامة لا يخلو مستندك فيه من واحد من ثلاثة أشياء:
الأول - أن تكون اطلعت على الغيب، وعلمت أن إيتاءك المال والولد يوم القيامة مما كتبه الله في اللوح المحفوظ.
والثاني - أن يكون الله أعطاك عهداً بذلك، فإنه إن أعطاك عهداً لن يخلفه.
الثالث - أن تكون قلت ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب.
وقد ذكر تعالى القسمين الأولين في قوله: { أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } مبطلاً لهما بأداة الإنكار. ولا شك أن كلا هذين القسمين باطل. لأن العاص المذكور لم يطلع الغيب. ولم يتخذ عند الرحمن عهدا. فتعين القسم الثالث وهو أنه قال ذلك افتراءً على الله. وقد أشار تعالى إلى هذا القسم الذي هو الواقع بحرف الزجر والردع وهو قوله، { كَلاَّ } أي لأنه يلزمه ليس الأمر كذلك، لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهداً، بل قال ذلك افتراءً على الله، لأنه لو كان أحدهما حاصلاً لم يستوجب الردع عن مقالته كما ترى. وهذا الدليل الذي أبطل به دعوى ابن وائل هذه هو الذي أبطل به بعينه دعوى اليهود: أنهم لن تمسَّهم النار إلا أياماً معدودة في سورة "البقرة" قسم اطلاع الغيب المذكور في "مريم" لدلالة ذكره في "مريم" على قصده في "البقرة" كما أن كذبهم الذي صرح به في "البقرة" لم يصرح به في "مريم" لأن ما في "البقرة" يبين ما في "مريم" لأن القرآن العظيم يبين بعضه بعضاً. وذلك في قوله تعالى:
{ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 80] فالأوصاف هنا هي الأوصاف الثلاثة المذكورة في "مريم" كما أوضحنا، وما حذف منها يدل عليه ذكره في "مريم" فاتخاذ العهد ذكره في "البقرة ومريم" معاً والكذب في ذلك على الله صرح به في "البقرة" بقوله: { أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 80] وأشار له في "مريم" بحرف الزجر الذي هو { كَلاَّ } واطلاع الغيب صرح به في "مريم" وحذفه في "البقرة" لدلالة ما في "مريم" على المقصود في "البقرة" كما أوضحنا.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة.
المسألة الأولى
اعلم أن هذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم تكرر وروده في القرآن العظيم، وقد ذكرنا الآن مثالين لذلك أحدهما في "البقرة" والثاني في "مريم" كما أوضحناه آنفاً. وذكر السيوطي في الإتقان في كلامه على جدل القرآن مثالاً واحداً للسبر والتقسيم، ومضمون المثال الذي ذكره باختصار، هو ما تضمنه قوله تعالى:
{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ } [الأنعام: 143] الآيتين، فكأن الله يقول للذين حرموا بعض الإناث كالبحائر والسوائب دون بعضها، وحرموا بعض الذكور كالحامي دون بعضها: لا يخلو تحريمكم لبعض ما ذكر دون بعضه من أن يكون معللاً بعلة معقولة أو تعبدياً. وعلى أنه معلل بعلة فإما أن تكون العلة في المحرم من الإناث الأنوثة، ومن الذكور الذكورة. أو تكون العلة فيهما معاً التخلق في الرحم، واشتمالها عليهما، هذه هي الأقسام التي يمكن ادعاء إناطة الحكم بها. ثم بعد حصر الأوصاف بهذا التقسيم نرجع إلى سبر الأقسام المذكورة. أي اختبارها ليتميز الصحيح من الباطل فنجدها كلها باطلة بالسبر الصحيح، لأن كون العلة الذكورة يقتضي تحريم كل ذكر وأنتم تحلون بعض الذكور، فدل ذلك على بطلان التعليل بالذكورة لقادح النقض الذي هو عدم الاطراد.
وكون العلة الأنثوية يقتضي تحريم كل أنثى كما ذكرنا فيما قبله. وكون العلة اشتمال الرحم عليهما يقتضي تحريم الجمع. وإلى هذا الإبطال أشار تعالى بقوله:
{ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ } [الأنعام: 143] أي فلو كانت العلة الذكورة لحرم كل ذكر. ولو كانت الأنوثة لحرمت كل أنثى. ولو كانت اشتمال الرحم عليهما لحرم الجميع. وكون ذلك تعبدياً يقتضي أن الله وصاكم به بلا واسطة. إذ لم يأتكم منه رسول بذلك. فدل ذلك على أنه باطل أيضاً، وأشار تعالى إلى بطلانه بقوله: { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَاَ } [الأنعام: 144] ثم بين أن ذلك التحريم بغير دليل من أشنع الظلم، وأنه كذب مفترى وإضلال بقوله: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِين } [الأنعام: 144] ثم أكد عدم التحريم في ذلك بقوله: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } [الأنعام: 145].
والحاصل - أن إبطال جميع الأوصاف المذكورة دليل على بطلان الحكم المذكور كما أوضحنا. ومن أمثلة السبر والتقسيم في القرآن قوله تعالى:
{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } [الطور: 35] فكأنه تعالى يقول: لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح. الأولى - أن يكونوا خُلقوا من غير شيء أي بدون خالق أصلاً. الثانية - أن يكونوا خلقوا أنفسهم. الثالثة - أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم. ولا شك أن القسمين الأولين باطلان، وبطلانهما ضروري كما ترى، فلا حاجة إلى إقامة الدليل عليه لوضوحه. والثالث - هو الحق الذي لا شك فيه، وهو جل وعلا خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا.
واعلم أن المنطقيين والأصوليين والجدليين كل منهم يستعملون هذ الدليل في غرض ليس هو غرض الآخر من استعماله، إلا أن استعماله عند الجدليين أعم من استعماله عند المنطقيين والأصولين.
المسألة الثانية
اعلم أن مقصود الجدليين من هذا الدليل معرفة الصحيح والباطل من أوصاف محل النزاع، وهو عندكم يتركب من أمرين: الأول - حصر أوصاف المحل. والثاني - إبطال الباطل منها وتصحيح الصحيح مطلقاً، وقد تكون باطلة كلها فيتحقق بطلان الحكم المستند إليها، كآية
{ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ } [الأنعام:143] المتقدمة. وقد يكون بعضها باطلاً وبعضها صحيحاً: كآية "مريم والبقرة، والطور" التي قدمنا إيضاح هذا الدليل في كل واحدة منها. وهذا الدليل أعم نفعاً، وأكثر فائدة على طريق الجدليين منه على طريق الأصوليين والمنطقيين.
المسألة الثالثة
اعلم أن السبر والتقسيم عند الأصوليين يستعمل في شيء خاص، وهو استنباط علة الحكم الشرعي بمسلك السبر والتقسيم. وضابط هذا المسلك عند الأصوليين أمران: الأول - هو حصر أوصاف الأصل المقيس عليه بطريق من طرق الحصر التي سنذكر بعضها إن شاء الله تعالى. والثاني - إبطال ما ليس صالحاً للعلة بطريق من طرق الإبطال التي سنذكر أيضاً بعضها إن شاء الله تعالى. وزاد بعضهم أمراً ثالثاً - وهو الإجماع على أن حكم الأصل معلل في الجملة لا تعبدي، والجمهور لا يشترطون هذا الأخير، والحاصل - أن هذا الدليل يتركب عند الأصوليين من أمرين. الأول - حصر أوصاف المحل. والثاني - إبطال ما ليس صالحاً للعلة، فإن كان الحصر والإبطال معاً قطعيين فهو دليل قطعي، وإن كانا ظنيين أو أحدهما ظنياً فهو دليل ظني. ومثال ما كان الحصر والإبطال فيه قطعيين قوله تعالى:
{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } [الطور: 35] لأن حصر أوصاف المحل في الأقسام الثلاثة قطعي لا شك فيه، لأنهم إما إن يخلقوا من غير شيء أو يخلقوا أنفسهم أو يخلقهم خالق غير أنفسهم. لا رابع ألبتة. وإبطال القسمين الأولين قطعي لا شك فيه: فيتعين أن الثالث حق لا شك فيه. وقد حذف في الآية لظهوره. فدلالة هذا السبر والتقسيم على عبادة الله وحده قطعية لا شك فيها، وإن كان المثال بهذه الآية للقطعي من هذا الدليل إنما يصح على المراد به عند الجدليين دون الأصوليين، لأن المراد التمثيل للقطعي من هذا الدليل ولو بمعناه الأعم، والقطعي منه لا يمكن الاختلاف فيه. وأما الظني فإن العلماء يختلفون فيه لاختلاف ظنون المجتهدين عند نظرهم في المسائل. وقد اختلفوا في الربا في أشياء كثيرة كالتفاح ونحوه. والنورة ونحوها بسبب اختلافهم في إبطال ما ليس بصالح فيقول بعضهم: هذا وصف يصح إبطاله، ويقول الآخر: هو ليس بصالح فيلزم إبطاله كقولهم مثلاً في حصر أوصاف البر الذي هو الأصل مثلاً المحرم فيه الربا إذا أريد قياس الذرة عليه مثلاً، أما أن يكون علة تحريم الربا في البر الكيل أو الطعم أو الاقتيات والادخار أوهما وغلبة العيش به أو المالية والملكية فيقول المالكي غير الاقتيات والادخار باطل، ويدعى أن دليل بطلانه عدم الاطراد الذي هو النقض. ويقول الحنفي والحنبلي غير الكيل من تلك الأوصاف باطل، والكيل هو العلة التي هي مناط الحكم، ويستدل على ذلك بأحاديث كحديث حيان بن عبيد الله عند الحاكم، وفيه بعد ذكر الستة التي يمنع فيها الربا. وكذلك كل ما يكال أو يوزن وبالحديث الصحيح الذي فيه. وكذلك الميزان كما قدمناه مستوفى في سورة البقرة في الكلام على آية الربا. ويقول الشافعي غير الطعم باطل، والعلة في تحريم الربا في البر الطعم، ويستدل بحديث معمر بن عبد الله عند مسلم "الطعام بالطعام مثلاً بمثل" الحديث كما تقدم إيضاحه أيضاً في البقرة. وهذا النوع من القياس الذي يختلف المجتهدون في العلة فيه هو المعروف عند أهل الأصول بمركب الأصل، وأشار إليه في مراقي السعود بقوله:

وإن يكن لعلتين اختلفا تركب الأصل لدى من سلفا

وأشار إلى مركب الوصف بقوله:

مركب الوصف إذا الخصم منع وجود ذا الوصف في الأصل المتبع

والقياس المركب بنوعة المذكورين لا تنهض الحجة به على الخصم خلافاً لبعض الجدليين. وإلى كون رده بالنسبة للخصم المخالف هو المختار. أشار في مراقي السعود بقوله:

ورده انتفى وقيل يقبل وفي التقدم خلاف ينقل

والضمير في قوله "ورده" راجع إلى المركب بنوعيه وهذا هو الحق. فلا تنهض الحجة بقول الشافعي إن العلة في تحريم الربا في البر الطعم - على الحنفي والحنبلي القائِلينِ إنها الكيل كالعكس وهكذا. أما في حق المجتهد ومقلِّديه فظنه المذكور حجة ناهضة له ولمقلديه. واعلم أن لحصر أوصاف المحل طِرقاً. منها أنْ يكون الحصر عقلياً كما قدمنا في آية { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } [الطور: 35]. وكقولك: إما أنْ يكون النَّبي صلى الله عليه وسلم عالماً بهذا الأمر الذي تدعو الناس إليه أو غير عالم به: كما يأتي إيضاحه. فأوصاف المحل محصورة في الأمرين المذكورين إذا لا ثالث ألبتة. أنه لا واسطة بين الشيء ونقيضه كما هو معروف. ومنها أن يدل على الحصر المذكور إجماع. ومثل له بعض الأصوليين بإجبار البكر البالغة على النكاح عند من يقول به. فإن علة الإجبار إما الجهل بالمصالح، وإما البكارة: فإن قال المعترض: أين دليل حصر الأوصاف في الأمرين؟ أجيب - بأنه الإجماع على عدم التعليل بغيرهما، فلو ادعى المستدل حصر أوصاف المحل، فقال المعترض: أين دليل الحصر؟ فقال المستدل: بحثتُ بحثاً تاماً عن أوصاف المحل فلم أجد غير ما ذكرت، أو قال: الأصل عدم غير ما ذكرت، فالصحيح أن هذا يكفيه في إثبات الحصر. فإن قال المعترض: أنا أعلم وصفاً زائداً لم تذكره. قيل له: بينه، فإن لم يبينه سقط اعتراضه. وإن بيَّن وصفاً زائداً على الأوصاف التي ذكرها المستدل بطل حصر المستدل بمجرد إبداء المعترض الوصفَ الزائد. إلا أن يبين المستدل أنه لا يصلح العلية فيكون إذاً وجوده وعدمه سواءً. وقول من قال: إنه لا يكفيه قوله: بحثتُ فلم أجد غير هذا - خلاف التحقيق. وأشار في مراقي السعود إلى هذا المسلك من مسالك العلة بقوله:

والسبر والتقسيم قسم رابع أن يحصر الأوصاف فيه جامع
ويبطل الذي لها لا يصلح فما بقي تعيينه متضح
معترض الحصر في دفعه يرد بحثت ثم بعد بحثي لم أجد
أو انعقاد ما سواها الأصل وليس في الحصر لظن حظل
وهو قطعي إذا ما نميا للقطع والظني سواه وعيا
حجية الظني عند الأكثر في حق ناظر وفي المناظر
إن يبد وصفاً زائداً معترض وفي به دون البيان الغرض
وقطع ذي السبر إذاً منحتم والأمر في إبطاله منبهم

وقوله في هذه الأبيات "في حق ناظر وفي المناظر" محله ما لم يدع المناظر علة غير اعلته، وإن ادعاها فلا تكون علة أحدهما حجة على الآخر، كما أوضحناه آنفاً، وكما أشار له بقوله المذكور آنفاً "ورده انتفى.." الخ.
وإذا حصل حصر أوصاف المحل فإبطال غير الصالح منها له طرق معروفة:
(منها) بيان أو الوصف طردي محض، إما بالنسبة إلى جميع الأحكام كالطول والقصر، والبياض والسواد، أو بالنسبة إلى خصوص الحكم المتنازع في ثبوته أو نفيه، كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى باب العتق، فإنه لا فرق في أحكام العتق بين الذكر والأنثى، لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إليه وصفان طرديان, وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالإرث والشهادة، والقضاء وولاية النكاح. فإن الذكر في ذلك ليس كالأنثى. ويعرف كون الوصف طردياً (أي لا مدخل له في التعليل أصلاً) باستقراء موارد الشرع ومصادره، إما مطلقاً، وإما في بعض الأبواب دون بعضها كما قدمناه آنفاً.
ومثال إبطال الطردي في جميع الأحكام - ما جاء في بعض روايات الحديث في المجامع في رمضان. فإن في بعض الروايات أنه أعرابي. وفي بعضها أنهُ جاء ينتف شعره ويضرب صدره. والقاعدة المقّرَّرة في الأصول: أن المثال لا يعترض. لأن المراد منه بيان القاعدة. ويكفي فيه الفرض ومطلق الاحتمال، كما أشار له في مراقي السعود بقوله:

والشأن لا يعترض المثال إذ قد كفى الغرض والاحتمال

فإذا عرفت ذلك فاعلم: أن كونه أعرابياً، وكونه جاء يضرب صدره وينتف شعره من أوصاف المحل في هذا الحكم وهي أوصاف يجب إبطالها وعدم تعليل وجوب الكفارة بها. لأنها أوصاف طردية لا تحصل من إناطة الحكم بها فائدة أصلاً، فالأعرابي وغيره في ذلك سواء. ومن جاء في سكينة ووقار، ومن جاء يضرب صدره وينتف شعره في ذلك سواء أيضاً. ومثال الإبطال يكون الوصف طردياً في الباب الذي فيه النزاع دون غيرهِ وحديث "من أعتق شركاً له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبدِ قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد.." الحديث، وهو متفق عليه من حديث ابن عمر، وقد قدمنا في سورة "الإسراء والكهف" فلفظُ العبد الذكر في هذا الحديث وصف طردي. فمن أعتق شركاً له في أمة فكذلك. لأنه عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تناط بهما أحكام العتق، وإن كانت الذكورة والأنوثة غير طرديين في غير العتق كالميراث والشهادة كما تقدم، والوصف الطردي في اصطلاح أهل الأصول: هو ما عُلمَ من الشرع إلغاؤه وعدم اعتباره، لأنه ليس في إناطة الحكم به مصلحة أصلاً فهو خالٍ من المناسبة، ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر ألا تظهر للوصف مناسبة. والمناسبة في اصطلاح أهل الأصول: هي كون إناطة الحكم بالوصف تترتب عليها مصلحة فعدم المناسبة المذكورة من طرق إبطاله في مسلك السبر، وإن كان عدم ظهور المناسبة في الوصف لا يبطله في بعض المسالك غير السبر كالإيماء على الأصح والدوران.
فالأحوال ثلاثة:
الأول: أن تظهر المناسبة، وظهورها لا بد منه في مسلك السبر ومسلك المناسبة والإخالة.
الثاني: ألا تظهر المناسبة ولا عدمها. وهذا يكفي في الدوران والإيماء على الصحيح.
الثالث: أن يظهر عدم المناسبة، فيكون الوصف طردياً كما تقدم قريباً.
ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر - كون الوصف ملغي وإن كان مناسباً للحكم المتنازع فيه، ويكون الإلغاء باستقلال الوصف المستبقي بالحكم دونه في صورة مجمع عليها. حكاه الفهري. ومثاله - قول الشافعي: إن الكيل والاقتيات ونحو ذلك أوصاف ملغاة بالنسبة إلى تحريم الربا في ملء كفٍّ من البُرِّ. لأنه لا يُكال ولا يُقات لقلته. فعلة تحريم الربا فيه الطعم لاستقلال علة الطعم بالحكم دون غيرها من الأوصاف في هذه الصورة، والقصد مطلق التمثيل، لا مناقشه الأمثلة.
ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر - كونُ الوصف الذي أبقاهُ المستدل متعدياً من محل الحكم إلى غيره، والوصفُ الَّذي يريد المعترض إبقاءَه قاصرٌ على محل الحكم. قال صاحب (الضياء اللامع): وذلك يشبه تعارضَ العلة المتعدية والقاصرة، وهو كما قال، ومثاله: اختلاف الأئَّمة رحمهم الله في علة الكفارة في الإفطار عمداً في نهار رمضان. فبعضهم يقول: العلة في ذلك خصوص الجماع. وبعضهم يقول: العلة في ذلك انتهاك حرمة رمضان. فكونُ الوصف المعلل به في هذا الحكم الجماع يقتضي عدم التعدي عن محل الحكم إلى غيره، فلا تكون كفارة إلا في الجماع خاصة. وكونه في هذا الحكم انتهاكُ حرمة رمضان يقضي التعدي من محل الحكم إلى غيره، فتلزم الكفارة في الأكل والشرب عمداً في نهار رمضان بجامع انتهاك حرمة رمضان في الجميع من جمَاع وأكلٍ وشُربٍ، فيترجح هذا الوصف بكونه متعدياً على الآخر لقصوره على حمل الحكم وقصدنا التمثيل لا مناقشة الأمثلة، ولا ينافي ما ذكرنا أنه يأتي من يقول: العلة الجِمَاع بمرجحات أخر لعلته، وأشار في مراقي السعود إلى طرق الإبطال المذكورة بقوله:

أبطل لما طردا يرى ويبطل غير مناسب له المنخرل
كذلك بالإلغا وإن قد ناسيا ويتعدى وصفه الذي اجتبى

هذا هو حاصل كلام أهل الأصول في المقصود عندهم بهذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم.
المسألة الرابعة
اعلم أن المقصود من هذا الدليل المذكور عند المنطقيين يخالف المقصود منه عند الأصوليين والجدليين. فالتقسم عند المنطقيين لا يكون إلا في الأوصاف التي بينها تنافٍ وتنافر، وهذا التقسيم هو المعبَّر عنه عندهم بالشرطي المنفصل. ومقصودهم من ذكر تلك الأوصاف المتنافية هو أنْ يستدلوا بوجود بعضها على عدم بعضها، أو بعدمه على وجوده، وهذا هو المعبر عنه عندهم (بالاستثناء في الشرطي المنفصل) وحرف الاستثناء عندهم هو "لكن" والتنافي المذكور بين الأوصاف المذكورة يحصره العقل في ثلاثة أقسام:
لأنه إما أن يكون في الوجود والعدم معاً، أو الوجود فقط، أو العدم فقط، ولا رابع ألبتة.
فإن كان في الوجود والعدم معاً فهي عندهم الشرطية المنفصلة المعروفة بالحقيقية، وهي مانعة الجميع والخلو معاً، ولا تتركب إلا من النقيضين، أو من الشيء ومساوي نقيضيه, وضابطها أن طرفيها لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً. بل لا بد من وجود أحدهما وعدم الآخر، وعدم اجتماعها لما بينهما من المنافرة والعناد في الوجود، وعدم ارتفاعهما لما بينهما من المنافرة والعناد في العدم، وضروبها الأربعة منتجة، كما لو قلت: العدد إما زوج وإما فرد. فلو قلت: لكنه زوج أنتج فهو غير فرد. ولو قلت: لكنه فرد أنتج فهو غير زوج. ولو قلت: ولكنه غير زوج أنتج فهو فرد. ولو قلت: لكنه غير فرد أنتج فهو زوج. وضابط قياسها أنه يرجع إلى الاستدلال بعدم النقيض، أو مساويه على وجود النقيض، أو مساويه كعكسه.
وإن كان التنافر والعناد بين طرفيها في الوجود فقط - فهي مانعة الجمع المجوزة للخلو، ولا يلزم فيها حصر الأوصاف، ولا تتركب إلا من قضية وأخص من نقيضها، وضابطها: أن طرفيها لا يجتمعان لما بينهما من المنافرة والعناد في الوجود، ولا مانع من ارتفاعهما لعدم العناد والمنافرة بينهما في العدم، ومانعة الجمع المذكورة ينتج من قياسها ضربان، ويعقم منه ضربان. ومثالها قولك: الجسم إما أبيض، وإما أسود، فإن استثناء عين كل واحد من الطرفين ينتج نقيض الآخر. بخلاف استثناء نقيض أحدهما فلا ينتج شيئاً. فلو قلت: الجسم إما أبيض، وإما أسود لكنه أبيض، أنتج فهو غير أسود. وإن قلت: لكنه أسود أنتج فهو غير أبيض. بخلاف ما لو قلت: لكنه غير أبيض فلا ينتج كونه أسود. لأن غير الأبيض صادق بالأسود وغيره. وكذلك لو قلت: لكنه غير أسود فلا ينتج كونه أبيض لصدق غير الأسود بالأبيض وغيره، فلا مانع من انتفاء الطرفين وكون جسم غير أبيض وغير أسود. لأن مانعة الجميع تجوز الخلو من الطرفين بأن يكونا معدومين معاً. وإنما جاز فيها الخلو من الطرفين معاً لواحد من سببين.
الأول - وجود واسطة أخرى غير طرفي القضية المذكورة. فقولنا في المثال السابق: الجسم إما أبيض، وإما أسود يجوز فيه الخلو عن البياض والسواد لوجود واسطة أخرى من الألوان غير السواد والبياض. كالحمرة والصفرة مثلاً. فالجسم الأحمر مثلاً غير أبيض ولا أسود.
السبب الثاني - ارتفاع المحل، كقولك: الجسم إما متحرك، وإما ساكن، فإنه إن انعدم بعض الأجسام التي كانت موجودة ورجع إلى العدم بعد الوجود فإنه يرتفع عنه كل من طرفي القضية المذكورة، فلا يقال للمعدوم: هو ساكن ولا متحرك، لأن المعدوم ليس بشيء، بدليل قوله تعالى:
{ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [مريم:9]، وقوله { { أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } [مريم:68].
وإن كان العناد والمنافرة بين طرفيها في العدم فقط - فهي مانعة الخلو المجوزة للجمع. وهي عكس التي ذكرنا قبلها تصوراً وإنتاجاً، ولا تتركب إلا من قضية وأعم من نقيضها. وضابطها - أن طرفيها لا يرتفعان لما بينهما من المنافرة والعناد في العدم، ولا مانع من اجتماعهما لعدم المنافرة والعناد بينهما في الوجود. ومثالها: الجسم إما غير أبيض، وإما غير أسود، فإن هذا المثال قد يجتمع فيه الطرفان فلا مانع من وجود جسم موصوف بأنه غير أبيض وغير أسود، كالأحمر فإنه غير أبيض وغير أسود، ولكنه لا يمكن بحال وجود جسم خالٍ من طرفي هذه القضية التي مثلنا بها، فيكون خالياً من كونه غير ابيض وغير أسود. لأنك إذا نفيت غير أبيض أثبت أنه أبيض، لأن نفي النفي إثبات. وإذا أثبت أنه أبيض استحال ارتفاع الطرف الثاني الذي هو غير أسود لأن الأبيض موصوف ضرورة بأنه غير أسود، وهكذا في الطرف الآخر. لأنك إذا نفيت غير أسود أثبت أنه أسود، وإذَا أثبت أنه أسود لزم ضرورة أنه غير أبيض، وهو عين الآخر من طرفي القضية المذكورة، وقياس هذه ينتج منه الضربان العقيمان في قياس التي قبلها، ويعقم منه الضربان المنتجان في قياس التي قبلها. فتبين أن استثناء نقيض كل واحد من الطرفين في قياس هذه الأخيرة ينتج عين الآخر، وأن استثناء عين الواحد منهما لا ينتج شيئاً.
فقولنا في المثال السابق: الجسم إما غير أبيض وإما غير أسود لو قلت فيه لكنه أبيض أنتج، فهو غير أسود. ولو قلت: لكنه أسود أنتج فهو غير أبيض، بخلاف ما لو قلت: لكنه غير أبيض فلا ينتج نفي الطرَف الآخر ولا وجوده، لأن غير الأبيض يجوز أن يكون أسود، ويجوز أن يكون غير أسود بل أحمر أو أصفر. وكذلك لو قلت: لكنه غير أسود لم يلزم منه نفي الطرف الآخر ولا إثباته، لأن غير الأسود يجوز أن يكون أبيض وغير أبيض لكونه أحمر مثلاً - هذه خلاصة موجزة عن هذا الدليل المذكور في نظر المنطقيين.
المسألة الخامسة
اعلم أن لهذا الدليل آثاراً تاريخية، وسنذكر هنا إن شاء الله بعضها.
فمن ذلك - أن هذا الدليل العظيم جاء في التاريخ: أنه أول سبب لضعف المحنة العظمى على المسلمين في عقائدهم بالقول بخلق القرآن العظيم. وذلك أن محنة القول بخلق القرآن نشأت في أيام المأمون، واستفحلت جداً في أيام المعتصم، واستمرت على ذلك في أيام الواثق. وهي في جميع ذلك التاريخ قائمة على ساق وقدم.
ومعلوم ما وقع فيها من قتل بعض أهل العلم الأفاضل وتعذيبهم، واضطرار بعضهم إلى المداهنة بالقول خوفاً.
ومعلوم ما وقع فيها لسيد المسلمين في زمنه "الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل" تغمده الله برحمته الواسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً من الضرب المبرح أيام المعتصم. وقد جاء أن أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة وكبح جماحها هو هذا الدليل العظيم.
قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الكلام على ترجمة "أحمد بن أبي دَؤَاد": أخبرنا محمد بن الفرج بن علي البزار، أخبرنا عبد الله بن إبراهيم بن ماسي، حدثنا جعفر بن شعيب الشاشي، حدثني محمد بن يوسف الشاشي، حدثني إبراهيم بن منبه قال: سمعت طاهر بن خلف يقول: سمعت محمد بن الواثق الذي يقال له المهتدي بالله يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرنا ذلك المجلس، فأتى بشيخ مخضوب مقيد فقال أبي: ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه (يعني ابن أبي دؤاد) قال: فأدخل الشيخ والواثق في مصلاه فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال له: لا سلم الله عليك! فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدبك مؤدبك! قال الله تعالى:
{ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } [النساء:86] والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها. فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، الرجل متكلم. فقال له: كلمه. فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن؟ قال الشيخ: لم تنصفني (يعني ولي السؤال) فقال له: سل: فقال له الشيخ: ما تقول في القرآن؟ فقال مخلوق: فقال: هذا شيء عَلِمه النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون؟ أم شيء لم يعلَموه؟ فقال: شيء لم يعلموه. فقال سبحان الله! شيء لم يعلمه النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت!؟ قال: فخجل. فقال: أقلني والمسألة بحالها. قال نعم. قال: ما تقول في القرآن؟ فقال مخلوق. فقال: هذا شيء علمه النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أو لم يعلموه؟ فقال: علموه ولم يدعوا الناس إليه قال: أفلا وسعك ما وسعهم!؟ قال: ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: هذا شيء لم يعلمه النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت! سبحان الله! شيء علمه النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، والخلفاء الراشدون ولم يدعوا الناس إليه، أفلا وسعك ما وسعهم؟؟ ثم دعا عماراً الحاجب، فأمر أن يرفع عنه القيود ويعطيه أربعمائة دينار، ويأذن له في الرجوع، وسقط من عينه ابن أبي داؤد، ولم يمتحن بعد ذلك أحداً. اهـ منه. وذكر ابن كثير في تاريخه هذه القصة عن الخطيب البغدادي، ولما انتهى من سياقها قال: ذكره الخطيب في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا يعرف اهـ.
ويستأنس لهذه القصة بما ذكره الخطيب وغيره: من أن الواثق تاب من القول بخلق القرآن.
قال ابن كثير في البداية والنهاية: قال الخطيب: وكان ابن أبي داؤد استولى على الواثق وحمله على التشديد في المحنة، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن: قال: ويقال إن الواثق رجع عن ذلك قبل موته. فأخبرني عبد الله بن أبي الفتح، أنبأ أحمد بن إبراهيم بن الحسن، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، حدثني حامد بن العباس، عن رجل عن المهتدي: أن الواثق مات وقد تاب من القول بخلق القرآن. وعلى كل حال فهذه القصة لم تزل مشهورة عند العلماء، صحيحة الاحتجاج فيها إلقام الخصم الحجر.
وحاصل هذه القصة التي ألقمَ بها هذا الشيخ الذي كان مكبلاً بالقيود يراد قتله أحمد بن أبي دؤاد حجراً، هو هذا الدليل العظيم الذي هو السبر والتقسيم: فكان الشيخ المذكور يقول لابن أبي دؤاد: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد الأمرين: إما أن يكون النَّبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو غير عالمين بها ولا واسطة بين العلم وغيره. فلا قسم ثالث ألبتة. ثم إنه رجع بالسبر الصحيح إلى القسمين المذكورين فبين أن السبر الصحيح يظهر أن أحمد بن أبي دؤاد ليس كل تقدير من التقديرين.
أما على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً بها هو وأصحابه، وتركوا الناس ولم يدعوهم إليها - فدعوة ابن أبي دؤاد إليها مخالفة لما كان عليه النَّبي وأصحابه من عدم الدعوة لها، وكان يسعه ما وسعهم.
وأما على كون النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه غير عالمين بها فلا يمكن لابن أبي دؤاد أن يدعي أنه عالم بها مع عدم علمهم بها. فظهر ضلاله على كل تقدير، ولذلك سقط من عين الواثق، وترك الواثق لذلك امتحان أهل العلم. فكان هذا الدليل العظيم أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة الكبرى. حتى أزالها الله بالكلية على يد المتوكلرحمه الله ، وفي هذا منقبة تاريخية عظيمة لهذا الدليل المذكور.
ومن آثار هذا الدليل التاريخي - ما ذكره بعض المؤرخين: من أن عبد الله بن همام السلولي وشى به واشٍ إلى عبيد الله بن زياد. فأدخل ابن زياد الواشي في محل قريب من مجلسه، ثم نادى ابن همام السلولي وقال له: ما حملك على أن تقول في كذا وكذا..؟! فقال السلولي: أصلح الله الأمير! والله ما قلت شيئاً من ذلك!! فأخرج ابن زياد الواشي، وقال: هذا أخبرني أنك قلت ذلك. فسكت ابن همام هنيهة ثم قال مخاطباً للواشي:

وأنت امرؤ ائتمنتك خالياً فخنت وإما قلت قولان بلا علم
فأنت من الأمر الذي كان بيننا بمنزلة بين الخيانة والإثمِ

فقال ابن زياد: صدقت! وطرد الواشي. وحاصل هذين البيتين الَّذين طرد بهما ابن زياد الواشي ولم يتعرض للسلولي بسوء بسببهما - هو هذا الدليل العظيم المذكور. فكأنه يقول له: لا يخلو قولك هذا من أحد أمرين: إما أن أكون ائتمنتك على سرٍّ فأفشيته. وإما أن تكون قلته علي كذباً. ثم رجع بالسبر إلى القسمين المذكورين فبين أن الواشي مرتكب ما لا ينبغي على كل تقدير من التقديرين، لأنه إذا كان ائتمنه على سر فأفشاه فهو خائن له، وإن كان قال عليه ذلك كذباً وافتراءً فالأمر واضح.
المسألة السادسة
اعلم أن بين الدليل التاريخي العظيم يوضح غاية الإيضاح موقف المسلمين الطبيعي من الحضارة الغربية. وبذلك الإيضاح التام يتميز النافع من الضار، والحسن من القبيح، والحق من الباطل. وذلك أن الاستقراء التام القطعي دل على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار: أما النافع منها - فهو من الناحية المادية وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن أبينه. وما تضمنته من المنافع للإنسان أعظم مما كان يدخل تحت التصور، فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة من حيث أنه جسد حيواني. وأما الضار منها. فهو إهمالها بالكلية للناحية التي هي رأس كل خير، ولا خير ألبتة في الدنيا بدونها، وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه. وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السَّماوي الذي يوضح للإنسان طريق السعادة، ويرسم له الخطط الحكمية في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة، ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته.
فالحضارة الغربية غنية بأنواع المنافع من الناحية الأولى، مفلسة إفلاساً كلياً من الناحية الثانية.
ومعلوم أن طغيان المادة على الروح يهدد العالم أجمع بخطر داهمٍ، وهلاك مستأصل، كما هو مشاهد الآن. وحل مشكلته لا يمكن ألبتة إلا بالاستضاءة بنور الوحي السماوي الذي هو تشريع خالق السماوات والأرض، لأن من أطغته المادة حتى تمرد على خالقه ورازقه لا يفلح أبداً.
والتقسيم الصحيح يحصر أوصاف المحل الذي هو الموقف من الحضارة الغربية في أربعة أقسام لا خامس لها، حصراً عقلياً لا شك فيه.
الأول ترك الحضارة المذكورة نافعها وضارها.
الثاني أخذها كلها وضارها ونافعها.
الثالث أخذ ضارها وترك نافعها.
الرابع أخذ نافعها وترك ضارها. فنرجع بالسبر الصحيح إلى هذه الأقسام الأربعة، فنجد ثلاثةً منها باطلة بلا شك، وواحداً صحيحاً بلا شك.
أما الثلاثة الباطلة: فالأول منها تركها كلها، ووجه بطلانه واضح، لأن عدم الاشتغال بالتقدم المادي يؤدي إلى الضعف الدائم، والتواكل والتكاسل، ويخالف الأمر السماوي في قوله جل وعلا:
{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } [الأنفال: 60] الآية.

لا يسلم الشرف الرفيع من الأَذى حتَّى يراق على جوانبهِ الدم

القسم الثاني من الأقسام الباطلة - أخذها، لأن ما فيها من الانحطاط الخلقي وضياع القيم الروحية والمثل العليا للإنسانية - أوضح من أن أبينه. ويكفي في ذلك ما فيها من التمرد على نظام السماء، وعدم طاعة خالق هذا الكون جل وعلا { ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس: 59]. { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّه } [الشورى: 21]. والقسم الثَّالث من الأقسام الباطلة - هو أخذ الضار وترك النافع، ولا شك أن هذا لا يفعله من له اقل تمييز. فتعينت صحة القسم الرابع بالتقسيم والسبر الصحيح، وهو أخذ النافع وترك الضار.
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل، فقد انتفع بحفر الخندق في غزوة الأحزاب، مع أن ذلك خطة عسكرية كانت للفرس، أخبره بها سلمان فأخذ بها. ولم يمنعه من ذلك أن أصلها للكفار. وقد هم صلى الله عليه وسلم بأن يمنع وطء النساء المراضع خوفاً على أولادهن، لأن العرب كانوا يظنون أن الغيلة (وهي وطء المرضع) تضعف ولدها وتضره، ومن ذلك قول الشاعر:

فوارس لم يغالوا في رضاع فتتبوا في أكفهم السيوف

فأخبرته صلى الله عليه وسلم فارس والروم بأنهم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم، فأخذ صلى الله عليه وسلم منهم تلك الخطة الطبية، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها من الكفار.
وقد انتفع صلى الله عليه وسلم بدلالة ابن الأُريقط الدؤلي له في سفر الهجرة على الطريق، مع أنه كافر.
فاتضح من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة الغربية - هو أن يجتهدوا في تحصيل ما أنتجته من النواحي المادية، ويحذروا مما جنته من التمرد على خالق الكون جل وعلا فتصلح لهم الدنيا والآخرة. والمؤسف! أن أغلبهم يعكسون القضية، فيأخذون منها الانحطاط الخلقي، والانسلاخ من الدين، والتباعد من طاعة خالق الكون، ولا يحصلون على نتيجة مما فيها من النفع المادي, فخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.

وما أحسن الدين والدنيا إذا أجمعا وأَقبح الكفر والإفلاس بالرجل

وقد قدمنا طرفاً نافعاً في كون الدين لا ينافي التقدم المادي في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: { { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9] فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقد عرف في تاريخ النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - أنهم كانوا يسعون في التقدم في جميع الميادين مع المحافظة على طاعة خالق السموات والأرض جل وعلا.
وأظهر الأقوال عندي في معنى العهد في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } أن المعنى: أم أعطاه الله عهداً أنه سيفعل له ذلك، بدليل قوله تعالى في نظيره في سورة البقرة:
{ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ } [البقرة: 80]. وخير ما يفسر به القرآن القرآن. وقيل: العهد المذكور: العمل الصالح. وقيل شهادة أن لا إله إلا الله.
قوله تعالى: { سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً }.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه سيكتب ما قاله ذلك الكافر افتراء عليه. من أنه يوم القيامة يؤتى مالاً وولداً مع كفره بالله، وأنه يمد له من العذاب مداً. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً }: أي يزيده عذاباً فوق عذاب. وقال الزمخشري في الكشاف: { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً } أي نطول له من العذاب ما يستأهله. ونعذبه بالنوع الذي يعذب به المستهزؤون. أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد، يقال: مده وأمده بمعنى. وتدل عليه قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه { وتمد له } بالضم وأكد ذلك بالمصدر. وذلك من فرط غضب الله. نعوذ به من التعرض لما يستوجب غضبه اهـ.
وأصل المدد لغة: الزيادة، ويدل لذلك المعنى قوله تعالى في أكابر الكفار الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله:
{ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [النحل: 88]، وقوله في الأتباع والمتبوعين: { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 38].
وقوله في هذه الآية: { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي ما يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من مال وولد، أي نسلبه منه في الدنيا ما أعطيناه من المال والولد بإهلاكنا إياه. وقيل: نحرمه ما تمناه من المال والولد في الآخرة، ونجعله للمسلمين. ويدل للمعنى الأول قوله تعالى:
{ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [مريم: 40]، وقوله: { وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ ٱلْوَارِثُونَ } [الحجر: 23] كما تقدم إيضاحه في هذه السورة الكريمة.
وقوله: { وَيَأْتِينَا فَرْداً } أي منفرداً لا مال له ولا ولد ولا خدم ولا غير ذلك، كما قال تعالى:
{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام: 94]، والآية، وقال تعالى: { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَرْداً } [مريم: 95] كما تقدم إيضاحه.
فإن قيل: كيف عبر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بحرف التنفيس الدال على الاستقبال في قوله { سنكتب ما يقول } مع أن ما يقوله الكافر يكتب بلا تأخير. بدليل قوله تعالى:
{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18]؟
فالجواب أن الزمخشري في كشافه تعرض للجواب عن هذا السؤال بما نصه: قلت فيه وجهان: أحدهما: سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله: على طريقة قول زائد بن صعصعة الفقعسي:

إذ ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري بها بدا

أي تبين وعلم بالانتساب أني لست بابن لئيمة. والثاني - أن المتوعّد يقول للجاني: سوف أنتقم منك. يعني أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأجر، فجردها هنا لمعنى الوعيد اهـ منه بلفظه. إلا أنا زدنا اسم قائل البيت وتكملته.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أنه يكتب ما يقول هذا الكافر ذكر نحوه في مواضع متعددة من كتابه، كقوله تعالى:
{ قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } [يونس: 21]، وقوله تعالى: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [الزخرف: 80]، وقوله تعالى: { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية: 29]، وقوله تعالى: { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [الزخرف: 19]. وقوله تعالى: { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } [آل عمران: 181]، وقوله تعالى: { كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار: 9-12] وقوله تعالى: { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49]. وقوله تعالى: { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ٱقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 13-14]: إلى غير ذلك من الآيات.