خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً
٨٥
وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً
٨٦
-مريم

أضواء البيان في تفسير القرآن

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين الذين كانوا يتقونه في دار الدنيا بامتثال أمره واجتناب نهيه يحشرون إليه يوم القيامة في حال كونهم وفداً. والوفد على التحقيق: جمع وافد كصاحب وصحب. وراكب وركب. وقدمنا في سورة "النحل" أن التحقيق أن الفعل بفتح فسكون من صيغ جموع الكثرة للفاعل وصفاً، وبينا شواهد ذلك من العربية، وإن أغفله الصرفيون. والوافد: من يأتي إلى الملك مثلاً في أمر له شأن. وجمهور المفسرين على أن معنى قوله { وفداً } أي ركباناً. وبعض العلماء يقول: هم ركبان على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة. وبعضهم يقول: يحشرون ركباناً على صور من أعمالهم الصالحة في الدنيا في غاية الحسن وطيب الرائحة.
قال ابن كثيررحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحاً، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد طيب ريحك، وحسن وجهك، فيقول: أنا عملك الصالح، وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني. فذلك قوله { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } قال: ركباناً". وقال ابن جرير: حدثني ابن المثنى، حدثني ابن مهدي عن سعيد عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة "{ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } قال: على الإبل:". وقال ابن جريج: على النجائب. وقال الثوري: على الإبل النوق. وقال قتادة { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } قال: إلى الجنة. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا سويد بن سعيد، أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق، حدثنا النعمان بن سعيد قال: كنا جلوساً عند علي رضي الله عنه فقرأ هذه الآية { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } قال: والله ما على أرجلهم يحشرون. ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق لم يرَ الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة!!" وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به، وزاد عليها: "رحائل من ذهب، وأزمتها الزبرجد..""، والباقي مثله. وروى ابن أبي حاتم هنا حديثاً غريباً جداً مرفوعاً عن علي قال: حدثنا أبي، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي، حدثنا سلمة بن جعفر البجلي، سمعت أبا معاذ البصري يقول: إن علياً كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } فقال: ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم:
"وَالذي نفسي بيده، إِنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون أو يؤتون بنوق بيضٍ لها أَجنحة وعليها رحائل الذهب، شرك نعالهم نور يتلألأ، كل خطوة منها مد البصر، فينتهون إلى شجرةٍ ينبعُ من أصلها عينان فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم في دنس، ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبداً، وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون أو فيأتون باب الجنة فإذا حلقة من ياقوت حمراء على صفائح الذهب. فيضربون بالحلقة على الصفحة فيسمع لها طنين يا علي. فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتبعث قيمها ليفتح له فإذا رآه خر له (قال سلمة: أراه قال ساجداً) فيقول ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك، فيتبعه ويقفوا أثره فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه.." إلى آخر الحديث بطوله. وفي آخر السياق: هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعاً. وقد رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه، وهو أشبه بالصحة. والله أعلم. وركوبهم المذكور إنما يكون من المحشر إلى الجنة، أما من القبر فالظاهر أنهم يحشرون مشاة. بدليل حديث ابن عباس الدال على أنهم يحشرون حفاة عراة غرلاً. هذا هو الظاهر وجزم به القرطبي. والله تعالى أعلم.
وقوله في هذه الآية الكريمة: { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } السوق معروف. والمجرمون: جمع تصحيح للمجرم، وهو اسم فاعل الإجرام. والإجرام: ارتكاب الجريمة، وهي الذنب الذي يستحق صاحبه به النكال والعذاب. ولم يأت الإجرام في القرآن إلا من أَجرم الرباعي على وزن أَفعل. ويجوز إتيانه في اللغة بصيغة الثلاثي فتقول: جَرم يجْرمُ كضرب يضرِب. والفاعل منه جارم، والمفعول مجْروم، كما هو ظاهر، ومنه قول عمرو بن البراقة النهمي:

وننصر مولانا ونعلم أنه كما الناس مجروم عليه وجارمُ

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { ورداً } أي عطاشاً. وأصل الورد: الإتيان إلى الماء، ولما كان الإتيان إلى الماء لا يكون إلا من العطش أطلق هنا اسم الورد على الجماعة العطاش، أعاذنا الله والمسلمين من العطش في الآخرة والدنيا. ومن إطلاق الورد على المسير إلى الماء قول الراجز يخاطب ناقته:

ردي ردي ورد قطاة صما كدرية أعجبها برد الما

واختلف العلماء في العامل الناصب لقوله { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ } فقيل منصوب بـ { يَمْلِكُونَ } [مريم: 87] بعده. أي لا يملكون الشفاعة يوم نحشر المتقين. واختاره أبو حيان في البحر. وقيل: منصوب بـ "اذكر" أو احذر مقدراً. وفيه أقوال غير ذلك.
وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبيناً في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة "الزمر":
{ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ قِيلَ ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبِّرِينَ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر: 72-73].