خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ
٤٩
قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ
٥٠
-طه

أضواء البيان في تفسير القرآن

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى وهارون لما بلغا فرعون ما أُمرا إياه قال لهما: من ربكما الذي تزعمان أنه أرسلكما إلي!؟ زاعماً أنه لا يعرفه. وأنه لا يعلم لهما إلهاً غير نفسه، كما قال: { { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [القصص: 38]، وقال: { { قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } [الشعراء: 29]. وبين جلا وعلا في غير هذا الموضع أن قوله { فَمَن رَّبُّكُمَا } تجاهل عارف بأنه عبد مربوب لرب العالمين، وذلك في قوله تعالى: { { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ } [الإسراء: 102] الآية، وقوله: { { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [النمل: 13-14] كما تقدم إيضاحه. وسؤال فرعون عن رب موسى، وجواب موسى له جاء موضحاً في سورة "الشعراء" بأبسط مما هنا، وذلك في قوله: { { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِين } [الشعراء: 23-33]َ إلى آخر القصة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } فيه للعلماء أوجه لا يكذب بعضها بعضاً، وكلها حق، ولا مانع من شمول الآية لجميعها. منها ـ أن معنى { أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } أنه أعطى كل شيء نظير خلقه في الصورة والهيئة، كالذكور من بني آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجاً. وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها في صورتها وهيئتها من الإناث أزواجاً. فلم يعط الإنسان خلاف خلقه فيزوجه بالإناث من البهائم، ولا البهائم بالإناث من الإنس، ثم هدى الجميع لطريق المنكح الذي منه النسل والنماء، كيف يأتيه، وهدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم والمشارب وغير ذلك.
وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق علي بن أبي طلحة، وعن السدي وسعيد بن جبير، وعن ابن عباس أيضاً: { ثُمَّ هَدَىٰ } أي هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة.
وقال بعض أهل العلم { أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } أي: أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه، وهذا مروي عن الحسن وقتادة.
وقال بعض أهل العلم { أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ }: أي أعطى كل شيء صورته المناسبة له. فلم يجعل الإنسان في صورة البهيمة، ولا البهيمة في صورة الإنسان، ولكنه خلق كل شيء على الشكل المناسب له فقدره تقديراً، كما قال الشاعر:

وله في كل شيء خلقة وكذاك الله ما شاء فعل

يعني بالخلقة: الصورة، وهذا القول مروي عن مجاهد ومقاتل وعطية وسعيد بن جبير { ثُمَّ هَدَىٰ } كل صنف إلى رزقه وإلى زوجه.
وقال بعض أهل العلم { أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ }: أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع. وكذلك الأنف والرجل واللسان وغيرها، كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه. وهذا القول روي عن الضحاك. وعلى جميع هذه الأقوال المذكورة فقوله تعالى { كُلَّ شَيءٍ } هو المفعول الأول لـ "أَعْطَى"، و "خلقه" هو المفعول الثاني.
وقال بعض أهل العلم: إن "خلقه" هو المفعول الأول، و "كل شيء" هو المفعول الثاني. وعلى هذا القول فالمعنى: أنه تعالى أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه، ثم هداهم إلى طريق استعماله. ومعلوم أن المفعول من مفعولي باب كسا ومنه "أَعْطى" في الآية لا مانع من تأخيره وتقديم المفعول الأخير إن أمن اللبس، ولم يحصل ما يوجب الجري على الأصل كما هو معلوم في علم النحو. وأشار له في الخلاصة بقوله:

ويلزم الأصل لموجب عرا وترك ذاك الأصل حتما قد يرى

قال مقيده عفا الله عنه: ولا مانع من شمول الآية الكريمة لجميع الأقوال المذكورة. لأنه لا شكّ أن الله أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به. ولا شكّ أنه أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه في المناكحة والألفة والاجتماع. وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به فسبحانه جل وعلا؟ ما أعظم شأنه وأكمل قدرته؟!
وفي هذه الأشياء المذكورة في معنى هذه الآية الكريمة براهين قاطعة على أنه جلا وعلا رب كل شيء، وهو المعبود وحده جل وعلا:
{ { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص: 88].
وقد حرر العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيميةرحمه الله في رسالته في علوم القرآن: أن مثل هذا الاختلاف من اختلاف السلف في معاني الآيات ليس اختلافاً متضاداً يكذب بعضه بعضاً، ولكنه اختلاف تنوعي لا يكذب بعضه بعضاً، والآيات تشمل جميعه، فينبغي حملها على شمول ذلك كله، وأوضح أن ذلك هو الجاري على أصول الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، وعزاه لجماعة من خيار أهل المذاهب الأربعة. والعلم عند الله تعالى.