خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ
٤٧
-الأنبياء

أضواء البيان في تفسير القرآن

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يضع الموازين القسط ليوم القيامة. فتوزن أعمالهم وزناً في غاية العدالة والإنصاف: فلا يظلم الله أحداً شيئاً، وأن عمله من الخير أو الشر، وإن كان في غاية القلة والدقة كمثقال حبة من خردل، فإن الله يأتي به. لأنه لا يخفى عليه شيء وكفى به جل وعلا حاسباً. لإحاطة علمه بكل شيء.
وبين في غير هذا الموضع: أن الموازين عند ذلك الوزن منها ما يخف، ومنها ما يثقل. وأن من خفت موازينه هلك، ومن ثقلت موازينه نجا. كقوله تعالى:
{ { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } [الأعراف: 8-9] وقوله تعالى: { { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [المؤمنون: 101-103]، وقوله تعالى: { { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } [القارعة: 6-9] إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره جل وغلا في هذه الآية الكريمة: من أن موازين يوم القيامة موازين قسط ـ ذكره في "الأعراف" في قوله:
{ { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ } [الأعراف: 8] لأن الحق عدل وقسط. وما ذكره فيها: من أنه لا تظلم نفس شيئاً ـ بينه في مواضع أخر كثيرة، كقوله: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [النساء: 40]، وقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [يونس: 44]، وقوله تعالى: { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف: 49] وقد قدمنا الآيات الدالة على هذا في سورة "الكهف".
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من كون العمل وإن كان مثقال ذرة من خير أو شر أتى به جل وعلا ـ أوضحه في غير هذا الموضع، كقوله عن لقمان مقرراً له:
{ { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [لقمان: 16]، وقوله تعالى: { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة: 7-8] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة: { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِين } جمع ميزان. وظاهر القرآن تعدد الموازين لكل شخص، لقوله:
{ { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } [الأعراف: 8]، وقوله: { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } [الأعراف: 9] فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله، كما قال الشاعر:

ملك تقوم الحادثات لعدله فلكل حادثة لها ميزان

والقاعدة المقررة في الأصول: أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه. وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة: الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه. وقد قدمنا في آخر سورة "الكهف" كلام العلماء في كيفية وزن الأعمال، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله في هذه الآية { ٱلْقِسْطَ } أي العدل، وهو مصدر، وصف به، ولذا لزم إفراده كما قال في الخلاصة:

ونعتوا بمصدر كثيراً فالتزموا الإفراد والتذكيرا

كما قدمناه مراراً. ومعلوم أن النعت بالمصدر يقول فيه بعض العلماء: إنه للمبالغة. وبعضهم يقول: هو بنية المضاف المحذوف، فعلى الأول كأنه بالغ في عدالة الموازين حتَّى سماها القسط الذي هو العدل. وعلى الثاني فالمعنى: الموازين ذوات القسط.
واللام في قوله: { لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } فيها أوجه معروفة عند العلماء:
(منها) أنها للتوقيت، أي الدلالة على الوقت، كقول العرب: جئت لخمس ليال بقين من الشهر، ومنه قول نابغة ذبيان:

توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع

(ومنها) أنها لام كي، أي نضع الموازين القسط لأجل يوم القيامة، أي لحساب الناس فيه حساباً في غاية العدالة والإنصاف.
(ومنها) أنها بمعنى في، أي نضع الموازين القسط في يوم القيامة.
والكوفيون يقولون: إن اللام تأتي بمعنى في، ويقولون: إن من ذلك قوله تعالى: { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } أي في يوم القيامة، وقوله تعالى:
{ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأعراف: 187] أي في وقتها. ووافقهم في ذلك ابن قتيبة من المتقدمين، وابن مالك من المتأخرين، وأنشد مستشهداً لذلك قول مسكين الدارمي:

أُولئك قومي قد مَضوا لسبيلهم كما قد مَضَى من قَبل عاد وتبَّع

يعني مضوا في سبيلهم. وقول الآخر:

وكل أب وابن وإن عَمَّرا معاً مقيمَيْن مفقود لوقتٍ وفاقد

أي في وقت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } يجوز أن يكون { شَيْئاً } هو المفعول الثاني لـ { تُظْلَمُ } ويجوز أن يكون ما ناب عن المطلق. أي شيئاً من الظلم لا قليلاً ولا كثيراً. ومثقال الشيء: وزنه. والخردل: حب في غاية الصغر والدقة. وبعض أهل العلم يقول: هو زريعة الجرجير. وأنث الضمير في قوله { بِهَا } هو راجع إلى المضاف الذي هو { مِثْقَالَ } وهو مذكر لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه الذي هو { حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } على حد قوله في الخلاصة:

وربما أكسب ثان أولا تأنيثاً إن كان لحذف مؤهّلا

ونظير ذلك من كلام العرب قول عنترة في معلقته:

جاد عليه كل عين ثرة فتركن كل قرارة كالدرهم

وقول الراجز:

طول الليالي أسرعت في نقضي نقضن كلي ونقضن بعضي

وقول الأعشى:

وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم

وقول الآخر:

مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم

فقد أنث في البيت الأول لفظة "كل" لإضافتها إلى "عين". وأنث في البيت الثاني لفظة "طول" لإضافتها إلى "الليالي" وأنث في البيت الثالث الصدر لإضافته إلى "القناة" وأنث في البيت الرابع "مر" لإضافته إلى "الرياح". والمضافات المذكورة لو حذفت لبقي الكلام مستقيماً. كما قال في الخلاصة:

... ... إن كان لحذف مؤهلا

وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا نافعاً { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ } بنصب { مِثْقَالَ } على أنه خبر { كَانَ } أي وإن كان العمل الذي يراد وزنه مثقال حبة من خردل. وقرأ نافع وحده { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ } بالرفع فالع { كَانَ } على أنها تامة. كقوله تعالى: { { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [البقرة: 280] الآية.