خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ
٢٨
-الحج

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ }.
اللام في قوله: ليشهدوا: هي لام التعليل: وهي متعلقة بقوله تعالى:
{ وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ } [الحج: 27] الآية: أي إن تؤذن فيهم يأتوك مشاة وركباناً، لأجل أن يشهدوا: أي يحضروا منافع لهم، والمراد بحضورهم المنافع: حصولها لهم.
وقوله: { مَنَافِعَ } جمع منفعة، ولم يبين هنا هذه المنافع ما هي. وقد جاء بيان بعضها في بعض الآيات القرآنية، وأن منها ما هو دنيوي، وما هو أخروي، أما الدنيوي فكأرباح التجارة، إذا خرج الحاج بمال تجارة معه، فإنه يحصل له الربح غالباً، وذلك نفع دنيوي.
وقد أطبق علماء التفسير على أن معنى قوله تعالى:
{ { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [البقرة: 198] أنه ليس على الحاج إثم ولا حرج، إذا ابتغى ربحاً بتجارة في أيام الحج، إن كان ذلك لا يشغله عن شيء، من أداء مناسكه كما قدمنا إيضاحه.
فقوله تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } فيه بيان لبعض المنافع المذكورة في آية الحج هذه وهذا نفع دنيوي.
ومن المنافع الدنيوية ما يصيبونه من البدن والذبائح كما يأتي تفصيله إن شاء الله قريباً كقوله في البدن:
{ { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } [الحج: 33] على أحد التفسيرين.
وقوله: { فَكُلُواْ مِنْهَا } في الموضعين، وكل ذلك نفع دنيوي، وفي ذلك بيان أيضاً لبعض المنافع المذكورة في آية الحج هذه.
وقد بينت آية البقرة على ما فسرها به جماعة من الصحابة ومن بعدهم، واختاره أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره، ووجه اختياره له، بكثرة الأحاديث الدالة عليه: أن من المنافع المذكورة في آية الحج: غفران ذنوب الحاج، حتى لا يبقى عليه إثم إن كان متقياً ربه في حجه بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.
وذلك أنه قال: إن معنى قوله تعالى:
{ { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 203] أن الحاج يرجع مغفوراً له، ولا يبقى عليه إثم سواء تعجل في يومين، أو تأخر إلى الثالث، ولكن غفران ذنوبه هذا مشروط بتقواه ربه في حجه، كما صرح به في قوله تعالى: { { لِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [البقرة: 203] الآية: أي وهذا الغفران للذنوب، وحط الآثام إنما هو لخصوص من اتقى.
ومعلوم أن هذه الآية الكريمة فيها أوجه من التفسير غير هذا.
وممن نقل عنهم ابن جرير أن معناها: أنه يغفر للحاج جميع ذنوبه، سواء تعجل في يومين، أو تأخر: علي وعبدالله بن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وإبراهيم، وعامر، ومعاوية بن قرة.
ولما ذكر أقوال أهل العلم فيها قال وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: تأويل ذلك: فمن تعجل من أيام منى الثلاثة، فنفر في اليوم الثاني، فلا إثم عليه، يحط الله ذنوبه إن كان قد اتقى في حجه، فاجتنب فيه ما أمر الله باجتنابه، وفعل فيه ما أمر الله بفعله، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدوده، ومن تأخر إلى اليوم الثالث منهن، فلم ينفر إلى النفر الثاني، حتى نفر من غد النفر الأول، فلا إثم عليه، لتكفير الله ما سلف من آثامه، وإجرامه إن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده.
وإنما قلنا إن ذلك أولى تأويلاته: لتظاهر الأخبار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وأنه قال "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة" وساق ابن جريررحمه الله بأسانيده أحاديث دالة على ذلك ففي لفظ له أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة" وفي لفظ له، عن عمر يبلغ به النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "تابعوا بين الحج والعمرة فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير الخبث أو خبث الحديد" وفي لفظ له عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قضيت حجك فأنت مثل ما ولدتك أمك" وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكر جميعها الكتاب مما ينبئ عن أن من حج، فقضاه بحدوده على ما أمره الله، فهو خارج من ذنوبه كما قال جل ثناؤه { { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [البقرة: 203] الله في حجه فكان في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يوضح أن معنى قوله جل وعز { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } أنه خارج من ذنوبه، محطوطة عنه آثامه، مغفورة أجرامه إلى آخر كلامه الطويل في الموضوع.
وقد بين فيه أنه لا وجه لقول من قال: إن المعنى لا إثم عليه في تعجله ولا إثم عليه في تأخره، لأن التأخر إلى اليوم الثالث، لا يحتمل أن يكون فيه إثم، حتى يقال فيه
{ { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 203] وأن قول من قال: إن سبب النزول أن بعضهم كان يقول: التعجل لا يجوز، وبعضهم يقول: التأخر لا يجوز.
فمعنى الآية: النهي عن تخطئة المتأخر المتعجل كعكسه: أي لا يؤثمن أحدهما الآخر أن هذا القول خطأ، لمخالفته لقول جميع أهل التأويل.
والحاصل: أنه أعني الطبري بين كثيراً من الأدلة على أن معنى الآية: هو ما ذكر من أن الحاج يخرج مغفوراً له، كيوم ولدته أمه، لا إثم عليه، سواء تعجل في يومين، أو تأخر، وقد يظهر للناظر أن ربط نفي الإثم في قوله: { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } بالتعجل والتأخر في الآية ربط الجزاء بشرطه يتبادر منه، أن نفي الإثم إنما هو في التعجل والتأخر، ولكن الأدلة التي أقامها أبو جعفر الطبري، على المعنى الذي اختار فيها فيه مقنع، وتشهد لها أحاديث كثيرة، وخير ما يفسر به القرآن بعد القرآن سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم.
فقوله في آية البقرة هذه { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم
"رجع كيوم ولدته أمه" وقوله: { { لِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [البقرة: 203] هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق" لأن من يرفث، ولم يفسق، هو الذي اتقى.
ومن كلام ابن جرير الطويل الذي أشرنا إليه أنه قال: ما نصه: فإن قال قائل ما الجالب للام في قوله: { لِمَنِ ٱتَّقَىٰ } وما معناها؟
قيل: الجالب لها معنى قوله: { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ }، لأن في قوله: { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } معنى: حططنا ذنوبه، وكفرنا آثامه، فكان في ذلك معنى: جعلنا تكفير الذنوب لمن اتقى الله في حجه، وترك ذكر جعلنا تكفير الذنوب اكتفاء بدلالة قوله:
{ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 203]، وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة، فقد أخبر عن أمر فقال: { { لِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [البقرة: 203] أي هذا لمن اتقى، وأنكر بعضهم ذلك من قوله: وقد زعم أن الصفة لا بد لها من شيء تتعلق به: لأنها لا تقوم بنفسها، ولكنها فيما زعم من صلة قول متروك.
فكان معنى الكلام عنده ما قلنا: من أن من تأخر لا إثم عليه لمن اتقى، وقال قوله:
{ { وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 203] مقام القول. انتهى محل الغرض من كلام ابن جرير.
وعلى تفسير هذه الآية الكريمة بأن معنى { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } في الموضعين: أن الحاج يغفر جميع ذنوبه، فلا يبقى عليه إثم، فغفران جميع ذنوبه هذا الذي دل عليه هذا التفسير من أكبر المنافع المذكورة في قوله: { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ } وعليه فقد بينت آية البقرة هذه بعض ما دلت عليه آية الحج، وقد أوضحت السنة هذا البيان بالأحاديث الصحيحة التي ذكرنا كحديث
"من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" وحديث "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن حديث "إن الله يباهي بأهل عرفة أهل السماء" الحديث كما تقدم. ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن تيسر اجتماع المسلمين من أقطار الدنيا في أوقات معينة، في أماكن معينة ليشعروا بالوحدة الإسلامية، ولتمكن استفادة بعضهم من بعض، فيما يهم الجميع من أمور الدنيا والدين، وبدون فريضة الحج، لا يمكن أن يتسنى لهم ذلك، فهو تشريع عظيم من حكيم خبير، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ }.
قوله: ويذكروا منصوب بحذف النون، لأنه معطوف على المنصوب، بأن المضمرة بعد لام التعليل أعني قوله: { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ }.
وإيضاح المعنى: وأذن في الناس بالحج يأتوك مشاة وركباناً، لأجل أن يشهدوا منافع لهم، ولأجل أن يتقربوا إليه بإراقة دماء ما رزقهم من بهيمة الأنعام، مع ذكرهم اسم الله عليها عند النحر والذبح، وظاهر القرآن يدل على أن هذا التقرب بالنحر في هذه الأيام المعلومات، إنما هو الهدايا لا الضحايا، لأن الضحايا لا يحتاج فيها إلى الأذان بالحج، حتى يأتي المضحون مشاة وركباناً، وإنما ذلك في الهدايا على ما يظهر، ومن هنا ذهب مالك، وأصحابه إلى أن الحاج بمنى لا تلزمه الأضحية ولا تسن له، وكل ما يذبح في ذلك المكان والزمان، فهو يجعله هدياً لا أضحية.
وقوله: { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ } أي على نحر وذبح ما رزقهم { مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } ليتقربوا إليه بدمائها، لأن ذلك تقوى منهم، فهو يصل إلى ربهم كما في قوله تعالى:
{ { لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ } [الحج: 37] وقد بين في بعض المواضع أنه لا يجوز الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه منها كقوله: { { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام: 121] الآية. وقوله: { { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام: 119] وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل الحرم المكي منسكاً تراق فيه الدماء تقرباً إلى الله، ويذكر عليها عند تذكيتها اسم الله، ولم يبين في هذه الآية، هل وقع مثل هذا لكل أمة أو لا، ولكنه بين في موضع آخر: أنه جعل مثل هذا لكل أمة من الأمم، وذلك في قوله تعالى: { { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } [الحج: 34].
وإذا علمت أن من حكم الأذان في الناس بالحج، ليأتوا مشاة، وركباناً تقربم إلى ربهم بدماء الأنعام، ذاكرين عليها اسم الله عند تذكيتها، وأن الآية أقرب إلى إرادة الهدي من إرادة الأضحية، فدونك تفصيل أحكام الهدايا التي دعوا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم منها.
اعلم أولاً: أن الهدي قسمان: هدي واجب، وهدي غير واجب بل تطوع به صاحبه تقرباً لله تعالى، والأيام المعلومات التي ذكر الله عز وجل أنه يذبح فيها، ويذكر عليه اسم الله فيها، للعلماء فيها أقوال كثيرة. والتحقيق إن شاء الله تعالى: أن غير اثنين من تلك الأقوال الكثيرة باطل لا يعول عليه، وأن المعول عليه منها اثنان، لأن القرآن دل على أن الأيام المعلومات: هي أيام النحر، بدليل قوله: { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } وذكرهم الله عليها يعني: التسمية عند تذكيتها. فاتضح أنها أيام النحر، والقولان المعول عليهما دون سائر الأقوال الأخرى أحدهما: أنها يوم النحر: ويومان بعده، وعليه فلا يذبح الهدي، ولا الأضحية في اليوم الأخير من أيام منى، الذي هو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.
قال ابن قدامة في المغني: وهذا القول نص عليه أحمد وقال: وهو عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك والثوري، ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: أيام النحر: يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده. وبه قال الحسن، وعطاء، والأوزاعي، والشافعي، وابن المنذر. انتهى محل الغرض منه.
وقال أبو عبدالله القرطبي في تفسير هذه الآية: اختلفوا كم أيام النحر. فقال مالك: ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد بن حنبل. وروي ذلك عن أبي هريرة، وأنس بن مالك، من غير اختلاف عنهما.
وقال الشافعي: أربعة أيام، يوم النحر، وثلاثة بعده، وبه قال الأوزاعي، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم. وروى عنهم أيضاً مثل قول مالك وأحمد. ا هـ محل الغرض منه.
وقال أيضاً: قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على أن يوم النحر: يوم أضحى. وأجمعوا على ألا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان:
أحدهما: قول مالك والكوفيين.
والآخر: قول الشافعي، والشاميين، وهذان القولان مرويان عن الصحابة، فلا معنى للاشتغال بما خالفهما، لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة، ولا في قول الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك لهما ا هـ.
وقال النووي في شرح المهذب: في وقت ذبح الهدي طريقان: أصحهما وبه قطع العراقيون وغيرهم: أنه يختص بيوم النحر وأيام التشريق، والثاني: فيه وجهان أصحهما: هذا، والثاني: لا يختص بزمان كدماء الجبران. فعلى الصحيح لو أخر الذبح، حتى مضت هذه الأيام، فإن كان الهدي واجباً: لزمه ذبحه، ويكون قضاء، وإن كان تطوعاً فقد فات الهدي.
قال الشافعي والأصحاب: فإن ذبحه كان شاة لحم لا نسكاً. ا هـ محل الغرض منه.
وذكر النووي عن الرافعي: أنه في بعض المواضع من كتابه في باب صفة الحج، جزم بأنه لا يختص بيوم النحر، وأيام التشريق، وأنه ذكر المسألة على الصواب في باب الهدي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: القول بعدم الاختصاص بيوم النحر ويومين أو ثلاثة بعده ظاهر البطلان، لأن عدم الاختصاص يجعل زمن النحر مطلقاً، ليس مقيداً بزمان، وهذا يرده صريح قوله { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } فجعل ظرفه أياماً معلومات يرد الإطلاق في الزمن رداً لا ينبغي أن يختلف فيه كما ترى.
وقال النووي أيضاً في شرح المهذب: اتفق العلماء على أن الأيام المعدودات هي: أيام التشريق، وهي ثلاثة بعد يوم النحر ا هـ.
ولا وجه للخلاف في ذلك، مع أنه يدل عليه قوله تعالى متصلاً به:
{ { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 203] الآية، والمراد بذلك: أيام الرمي التي هي أيام التشريق كما ترى، ثم قال النووي: وأما الأيام المعلومات فمذهبنا: أنها العشر الأوائل من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر. انتهى محل الغرض منه. وعزا ابن كثير هذا القول لابن عباس قال: وعلقه عنه البخاري بصيغة الجزم، ونقله ابن كثير أيضاً عن أبي موسى الأشعري، ومجاهد، وقتادة، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، وعطاء الخراساني، وإبراهيم النخعي، قال: وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن أحمد بن حنبل، ثم شرع يذكر الأحاديث الدالة على فضل الأيام العشرة الأول من ذي الحجة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: تفسير الأيام المعلومات في آية الحج هذه: بأنها العشر الأول من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر، لا شك في عدم صحته، وإن قال به من أجلاء العلماء، وبعض أجلاء الصحابة من ذكرنا.
والدليل الواضح على بطلانه أن الله بين أنها أيام النحر بقوله: { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } وهو ذكره بالتسمية عليها عند ذبحها تقرباً إليه كما لا يخفى، والقول: بأنها العشرة المذكورة، يقتضي أن تكون العشرة كلها أيام نحر، وأنه لا نحر بعدها، وكلا الأمرين باطل كما ترى، لأن النحر في التسعة التي قبل يوم النحر لا يجوز والنحر في اليومين، بعده جائز. وكذلك الثالث عند من ذكرنا، فبطلان هذا القول واضح كما ترى. ثم قال النووي متصلاً بكلامه الأول، وقال مالك: هي ثلاثة أيام: يوم النحر، ويومان بعده فالحادي عشر، والثاني عشر عنده من المعلومات، والمعدودات.
وقال أبو حنيفة المعلومات: ثلاثة أيام: يوم عرفة والنحر والحادي عشر. وقال علي رضي الله عنه: المعلومات أربعة: يوم عرفة والنحر ويومان بعده.
وفائدة الخلاف: أن عندنا يجوز ذبح الهدايا والضحايا في أيام التشريق كلها، وعند مالك، لا يجوز في اليوم الثالث. هذا كلام صاحب البيان انتهى من النووي. وقد سكت على كلام صاحب البيان: وهو باطل بطلاناً واضحاً، لأن القول بأن الأيام المعلومات هي العشرة الأول، لا يدل على جواز الذبح فيما بعد يوم النحر لأنه آخرها، وقد يدل على جواز الذبح قبل يوم النحر في جميع التسعة الأول، لأن القرآن دل على أن الأيام المعلومات، هي ظرف الذبح كما بينا مراراً فإن كانت هي العشرة كانت العشرة هي ظرف الذبح. فلا يجوز فيما قبلها ولا ما بعدها، ولكنه يجوز في جميعها، وبطلان هذا واضح كما ترى، ثم قال النووي متصلاً بكلامه السابق.
وقال العبدري: فائدة وصفه بأنه معلوم جواز النحر فيه، وفائدة وصفه بأنه معدود انقطاع الرمي فيه.
وقال: وبمذهبنا قال أحمد، وداود، وقال الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره: قال أكثر المفسرين الأيام المعلومات: هي عشر ذي الحجة. قال: وإنما قيل لها معلومات للحرص على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها.
قال: وقال مقاتل: المعلومات أيام التشريق. وقال محمد بن كعب: المعلومات والمعدودات واحد.
قلت: وكذا نقل القاضي أبو الطيب والعبدري، وخلائق إجماع العلماء على أن المعدودات: هي أيام التشريق. وأما ما نقله صاحب البيان عن ابن عباس فخلاف المشهور عنه.
فالصحيح المعروف عن ابن عباس: أن المعلومات: أيام العشر كلها كمذهبنا، وهو مما احتج به أصحابنا، كما سأذكره قريباً إن شاء الله. واحتج لأبي حنيفة، ومالك بأن الله تعالى قال: { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } وأراد بذكر اسم الله في الأيام المعلومات: تسمية الله تعالى على الذبح، فينبغي أن يكون ذكر اسم الله تعالى في جميع المعلومات، وعلى قول الشافعي: لا يكون ذلك إلا في يوم واحد منها، وهو يوم النحر. واحتج أصحابنا بما رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قال: الأيام المعلومات: أيام العشر، والمعدودات: أيام التشريق. رواه البيهقي بإسناد صحيح.
واستدلوا أيضاً بما استدل به المزني في مختصره: وهو أن اختلاف الأسماء، يدل على اختلاف المسميات، فلما خولف بين المعدودات والمعلومات في الاسم دل على اختلافهما، وعلى ما يقول المخالفون يتداخلان في بعض الأيام، والجواب عن الآية من وجهين:
أحدهما: جواب المزني: أنه لا يلزم من سياق الآية: وجود الذبح في الأيام المعلومات، بل يكفي وجوده في آخرها وهو يوم النحر.
قال المزني والأصحاب: ونظيره قوله تعالى:
{ { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } [نوح: 16] وليس هو نوراً في جميعها، بل في بعضها.
الثاني: أن المراد بالذكر في الآية الذكر على الهدايا، ونحن نستحب لمن رأى هدياً أو شيئاً من بهيمة الأنعام في العشر أن يكبر، والله أعلم. انتهى كلام النووي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن مذهب الشافعية في الأيام المعلومات، خلاف الصواب، وإن قال به من قال من أجلاء العلماء، وأن الأجوبة التي أجابوا بها عن الاعتراضات الواردة عليه، لا ينهض شيء منها لما قدمنا من أن الله بين في كتابه، أن الأيام المعلومات هي ظرف الذبح والنحر، فتفسيرها بأنها العشرة الأول، يلزمه جواز الذبح في جميعها، وعدم جوازه بعد غروب شمس اليوم العاشر، وهذا كله باطل كما ترى.
وزعم المزنيرحمه الله : أن الآية كقوله { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } ظاهر السقوط، لأن كون القمر كوكباً واحداً والسموات سبعاً طباقاً قرينة دالة على أنه في واحدة منها دون الست الأخرى.
وأما قوله تعالى: { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } فظاهره المتبادر منه أن جميع الأيام المعلومات ظرف لذكر الله على الذبائح، وليس هنا قرينة تخصصه ببعضها دون بعض. فلا يجوز التخصيص ببعضها، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وليس موجوداً هنا وتفسيرهم ذكر اسم الله عليها، بأن معناه: أن من رأى هديا أو شيئاً من بهيمة الأنعام في العشر استحب له أن يكبر، وأن ذلك التكبير هو ذكر الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ظاهر السقوط كما ترى، لأنه مخالف لتفسير عامة المفسرين للآية الكريمة، والتحقيق في تفسيرها ما هو مشهور عند عامة أهل التفسير، وهو ذكر اسم الله عليها عند التذكية، كما دل عليه قوله بعده مقترناً به { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ } الآية. وقوله:
{ { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام: 121] الآية. وقوله: { { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام: 119] الآية وتداخل الأيام لا يمنع من مغايرتها، لأن الأعمين من وجه متغايران إجماعاً مع تداخلهما في بعض الصور.
ومما يبطل القول بأن الأيام المعلومات هي العشرة المذكورة أن كونها العشرة المذكورة يستلزم عدم جواز الذبح بعد غروب شمس اليوم العاشر، وهو خلاف الواقع لجواز الذبح في الحادي عشر والثاني عشر، بل والثالث عشر عند الشافعية. والتحقيق إن شاء الله في هذه المسألة: أن الأيام المعدودات: هي أيام التشريق التي هي أيام رمي الجمرات. وحكى عليه غير واحد الإجماع، ويدل عليه قوله تعالى متصلاً به
{ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 203] الآية، وأن الأيام المعلومات: هي: أيام النحر، فيدخل فيها يوم النحر واليومان بعده، والخلاف في الثالث عشر، هل هو منها كما مر تفصيله، وقد رجح بعض أهل العلم أن الثالث عشر منها. ورجح بعضهم: أنه ليس منها.
وقد قال ابن قدامة في المغني في ترجيح القول بأنه ليس منها: ما نصه: ولنا
"أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل من النسك، فوق ثلاث" وغير جائز أن يكون الذبح مشروعاً في وقت يحرم فيه الأكل، ثم نسخ تحريم الأكل، وبقي وقت الذبح بحاله، ولأن اليوم الرابع: لا يجب فيه الرمي، فلم يجز فيه الذبح كالذي بعده.
ومما رجح به بعضهم أن اليوم الرابع منها: أنه يؤدي فيه بعض المناسك: وهو الرمي، إذا لم يتعجل فهو كسابقيه من أيام التشريق، والعلم عند الله تعالى.
ومما يوضح أن الأيام المعلومات، هي: أيام النحر، سواء قلنا إنها ثلاثة، أو أربعة: أن الله نص على أنها هي التي يذكر فيها اسم الله: أي عند التذكية، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، كما قدمنا إيضاحه.
وإذا عرفت كلام أهل العلم في الأيام المعلومات، التي هي زمن الذبح.
فاعلم: أن العلماء اختلفوا في ليالها، هل يجوز فيها الذبح؟ فذهب مالك، وأصحابه: إلى أنه لا يجوز ذبح النسك ليلاً، فإن ذبحه ليلاً لم يجز، وتصير شاة لحم لا نسك، وهو رواية عن أحمد، وهي ظاهر كلام الخرقي. وذهب الشافعي، وأصحابه: إلى جواز الذبح ليلاً قال النووي: وبه قال أبو حنيفة، وإسحاق، وأبو ثور والجمهور وهو الأصح عن أحمد.
وحجة من قال لا يجوز الذبح ليلاً: أن الله خصصه بلفظ الأيام في قوله { فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } قالوا: وذكر اليوم يدل على أن الليل ليس كذلك.
وحجة من أجازه: أن الأيام تطلق لغة على ما يشمل الليالي، وتخصيصه بالأيام أحوط، لمطابقة لفظ القرآن والعلم عند الله تعالى.
وإذا علمت وقت نحر الهدي وأن الهدي نوعان: واجب، وغير واجب، وهو هدي التطوع، فهذه تفاصيل أحكام كل منهما.
أما الهدي الواجب فهو بالتقسيم الأول نوعان.
أحدهما: هدي واجب بالنذر، وسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله في الكلام على قوله تعالى
{ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [الحج: 29]. وهدي واجب بغير النذر، وهو أيضاً ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: الهدي المنصوص عليه.
والثاني: الهدي المسكوت عنه، ولكن العلماء قاسوه على الهدي المنصوص عليه.
أما المنصوص عليه فهو أربعة أقسام:
الأول: هدي التمتع، ويدخل فيه القران، لأن الصحابة رضي الله عنهم جاء عنهم التصريح، بأن اسم التمتع في الآية، صادق بالقران، كما قدمناه واضحاً عن ابن عمر، وعمران بن حصين، وغيرهما، والصحابة هم أعلم الناس بلغة العرب وبدلالة القرآن.
وهدي التمتع المذكور منصوص في قوله تعالى:
{ { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196].
الثاني: دم الإحصار المنصوص عليه في قوله:
{ { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196].
الثالث: دم جزاء الصيد المنصوص عليه بقوله تعالى:
{ { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [المائدة: 95] الآية.
الرابع: دم فدية الأذى المذكور في قوله:
{ { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة: 196]، وهذه الدماء الأربعة اثنان منها على التخيير، وهما: دم الفدية في قوله: { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } كما قدمنا إيضاحه.
والثاني: جزاء الصيد فهو على التخيير أيضاً كما قدمنا إيضاحه مستوفى في الكلام على قوله:
{ { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } [المائدة: 95] الآية.
وقد أوضحنا الكلام على التخيير فيهما غاية الإيضاح بما أغنى عن إعادته هنا، وواحد من الدماء الأربعة المذكورة على الترتيب إجماعاً، وهو دم التمتع الشامل للقران، لأن الله بين أنه على الترتيب بقوله:
{ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196] ثم قال مبيناً الترتيب: { { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [البقرة: 196].
والرابع: من الدماء المذكورة اختلف فيه فمن قال: له بدل عند العجز عنه قال: هو على الترتيب، ومن قال: لا بدل له فالأمر على قوله واضح، لأنه ليس هناك تعدد، يقتضي الترتيب أو عدمه، وهذا القسم هو دم الإحصار وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة البقرة في الكلام على قوله:
{ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196] الآية.
والحاصل: أن ثلاثة من الدماء الأربعة المذكورة، قد قدمنا الكلام على كل واحد منها، بغاية الإيضاح، والاستيفاء فدم الفدية قدمناه في مبحث آية الحج التي هي:
{ { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } [الحج: 27] الآية. في جملة مسائل الحج، التي ذكرنا في الكلام عليها.
ودم جزاء الصيد قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في المائدة في الكلام على قوله تعالى:
{ { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } [المائدة: 95] الآية.
ودم الإحصار قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في البقرة، في الكلام على قوله { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ }.
وأما هدي التمتع، فلم يتقدم لنا فيه إيضاح، وسنبينه الآن.
أما التمتع بالعمرة فمعلوم: أن كل من اعتمر في أشهر الحج، ثم حل من عمرته، ثم حج من عامه، ولم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أنه متمتع.
وقد بينا أن الصحابة بينوا أنه يشمل القران من حيث إن كلاً منهما عمرة في أشهر الحج مع الحج، وإن كان بين حقيقتيهما اختلاف كما هو واضح.
اعلم أولاً: أن العلماء اشترطوا لوجوب هدي التمتع شروطاً.
منها: ما هو مجمع عليه.
ومنها: ما هو مختلف فيه.
الأول: أن يعتمر في أشهر الحج فإن اعتمر في غير أشهر الحج، لم يلزمه دم، لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، فلم يلزمه دم كالمفرد، ولا يخفى سقوط قول طاوس: إنه متمتع، كما لا يخفى سقوط قول الحسن: إن من اعتمر بعد النحر فهو متمتع.
وقال ابن المنذر: لا نعلم أحداً قال بواحد من هذين القولين. قاله في المغني فإن أحرم بها في غير أشهر الحج، ولكنه أتى بأفعالها في أشهر الحج، ففي ذلك للعلماء قولان:
أحدهما: يجب عليه الدم نظراً إلى أفعال العمرة الواقعة في أشهر الحج.
والثاني: لا يجب عليه دم نظراً إلى وقوع الإحرام، قبل أشهر الحج، وهو نسك لا تتم العمرة بدونه، ولكليهما وجه من النظر، ولا نص فيهما، وممن قال بأنه لا دم عليه، وأنه غير متمتع: الإمام أحمد.
قال في المغني: ونقل معنى ذلك، عن جابر، وأبي عياض، وهو قول إسحاق، وأحد قولي الشافعي، وقال طاوس عمرته: في الشهر الذي يدخل فيه الحرم. وقال الحسن، والحكم، وابن شبرمة، والثوري، والشافعي في أحد قوليه: عمرته في الشهر الذي يطوف فيه. وقال عطاء: عمرته في الشهر الذي يحل فيه، وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: إن طاف للعمرة أربعة أشواط، قبل أشهر الحج فليس بمتمتع، وإن طاف الأربعة في أشهر الحج، فهو متمتع. لأن العمرة صحت في أشهر الحج، بدليل أنه لو وطئ أفسدها، فأشبه إذا أحرم بها في أشهر الحج. قاله في المغني والله تعالى أعلم.
الشرط الثاني: أن يحج في نفس تلك السنة، التي اعتمر في أشهر الحج منها. أما إذا كان حجه في سنة أخرى: فلا دم عليه.
قال صاحب المهذب: وذلك لما روى سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك، لم يهدوا، قال: ولأن الدم إنما يجب لترك الإحرام بالحج من الميقات وهذا لم يترك الإحرام بالحج من الميقات، فإنه إن أقام بمكة صارت مكة ميقاته، وإن رجع إلى بلده، وعاد فقد أحرم من الميقات. وقال النووي في الأثر المذكور: المروي عن ابن المسيب حسن رواه البيهقي بإِسناد حسن، ولا يخفى سقوط قول الحسن: إنه متمتع وإن لم يحج من عامه.
الشرط الثالث: أن لا يعود إلى بلده، أو ما يماثله في المسافة. وقال بعضهم: يكفي في هذا الشرط، أن يرجع إلى ميقاته فيحرم بالحج منه، وبعضهم يكتفي بمسافة القصر بعد العمرة، ثم يحرم للحج من مسافة القصر.
والحاصل: أن الأئمة الأربعة متفقون على أن السفر بعد العمرة، والإحرام بالحج من منتهى ذلك السفر مسقط لدم التمتع، إلا أنهم مختلفون في قدر المسافة، فمنهم من يقول: لا بد أن يرجع بعد العمرة في أشهر الحج، إلى المحل الذي جاء منه، ثم ينشئ سفراً للحج ويحرم من الميقات. وبعضهم يقول: يكفيه أن يرجع إلى بلده أو يسافر مسافة مساوية لمسافة بلده، وبعضهم يكفي عنده سفر مسافة القصر، وبعضهم يقول: يكفيه أن يرجع لإحرام الحج إلى ميقاته، وقد قدمنا أقوالهم مفصلة، ودليلهم في ذلك ما فهموه من قوله تعالى
{ ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 196] قالوا: لا فرق بين حاضري المسجد الحرام، وبين غيرهم، إلا أن غيرهم ترفهوا بإسقاط أحد السفرين الذي هو السفر للحج، بعد السفر للعمرة، وإن سافر للحج بعد العمرة زال السبب، فسقط الدم بزواله، وعضدوا ذلك بآثار رووها، عن عمر وابنه رضي الله عنهما، وقد قدمنا قولي العلماء في الشيء الذي ترجع إليه الإشارة في قوله: { ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } وناقشنا أدلتهما، وبينا أنه على القول الذي يراه البخاريرحمه الله ، ومن وافقه: أن الإشارة راجعة إلى نفس التمتع وأن أهل مكة لا متعة لهم أصلاً، فلا دليل في الآية على أقوال الأئمة التي ذكرنا، وعلى القول الآخر أن الإشارة راجعة إلى حكم التمتع وهو لزوم ما استيسر من الهدي، والصوم عند العجز عنه لا نفس التمتع فاستدلال الأئمة بها على الأقوال المذكورة له وجه من النظر كما ترى.
والحاصل: أن استدلالهم بها إنما يصح على أحد التفسيرين في مرجع الإشارة في الآية، وقد قدمنا الكلام على ذلك مستوفى.
والأحوط عندي: إراقة دم التمتع، ولو سافر لعدم صراحة دلالة الآية، في إسقاطه، وللاحتمال الآخر الذي تمسك به البخاري والحنفية كما تقدم إيضاحه. وممن قال بذلك الحسن واختاره ابن المنذر لعموم الآية قاله في المغني. والعلم عند الله تعالى.
الشرط الرابع: أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام، فأما إذا كان من حاضري المسجد الحرام فلا دم عليه لقوله تعالى:
{ { ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 196].
وأظهر أقوال أهل العلم عندي في المراد بحاضري المسجد الحرام: أنهم أهل الحرم ومن بينه وبينه مسافة لا تقصر فيها الصلاة، لأن المسجد الحرام، قد يطلق كثيراً ويراد به الحرم كله، ومن على مسافة دون مسافة القصر، فهو كالحاضر، ولذا تسمى صلاته إن سافر من الحرم، إلى تلك المسافة صلاة حاضر، فلا يقصرها لا صلاة مسافر، حتى يشرع له قصرها فظهر دخوله في اسم حاضري المسجد الحرام، بناء على أن المراد به جميع الحرم، وهو الأظهر خلافاً لمن خصه بمكة، ومن خصه بالحرم، ومن عممه في كل ما دون الميقات، وقد علمت أن هذا الشرط إنما يتمشى على أحد القولين في الآية.
الشرط الخامس: ما قال به بعض أهل العلم: من أنه يشترط نية التمتع بالحج إلى العمرة عند الإحرام بالعمرة. قال: لأنه جمع بين عبادتين في وقت إحداهما، فافتقر إلى نية الجمع كالجمع بين الصلاتين، وعلى الاشتراط المذكور، فمحل نية التمتع هو وقت الإحرام بالعمرة. وقال بعضهم: له نيته ما لم يفرغ من الصلاة الأولى، هكذا قاله بعض أهل العلم، وعليه فلو اعتمر في أشهر الحج، وهو لا ينوي الحج في تلك السنة، ثم بعد الفراغ من العمرة بدا له أن يحج في تلك السنة، فلا دم تمتع عليه، واشتراط النية المذكور عزاه صاحب الإنصاف للقاضي، وأكثر الحنابلة، وحكي عدم الاشتراط بقيل ثم قال: واختاره المصنف، والشارح، وقدمه في المحرر والفائق، والظاهر سقوط هذا الشرط، وأنه متى حج بعد أن اعتمر في أشهر الحج من تلك السنة: فعليه الهدي، لظاهر عموم الآية الكريمة، فتخصيصه بالنية تخصيص القرآن، بلا دليل يجب الرجوع إليه: ويؤيده أنهم يقولون: إن سبب وجوب الدم: أنه ترفه بإسقاط سفر الحج، وتلك العلة موجودة في هذه الصورة، والعلم عند الله تعالى.
الشرط السادس: هو ما اشترطه بعض أهل العلم من كون الحج والعمرة المذكورين عن شخص واحد كأن يعتمر بنفسه ويحج بنفسه، وكل ذلك عن نفسه لا عن غيره أو يحج شخص، ويعتمر عن شخص واحد. أما إذا حج عن شخص، واعتمر عن شخص آخر، أو اعتمر عن شخص، وحج عن نفسه، أو اعتمر عن نفسه، وحج عن شخص آخر، فهل يلزم دم التمتع نظراً إلى أن مؤدي النكسين شخص واحد أو لا يلزم، نظراً إلى أن الحج وقع عن شخص والعمرة وقت عن شخص آخر فهو كما لو فعله شخصان فحج أحدهما، واعتمر الآخر، وإذن فلا تمتع على أحدهما، وكلاهما له وجه من النظر، ومذهب الشافعي الذي عليه جمهور الشافعية: هو عدم اشتراط هذا الشرط نظراً إلى اتحاد فاعل النسك، ومقابله المرجوح عدم وجوب الدم نظراً إلى أن الحج عن شخص، والعمرة عن آخر، ومذهب مالك في هذا قريب من مذهب الشافعي في وجود الخلاف. وترجيح عدم الاشتراط.
قال الشيخ المواق في شرح قول خليل في مختصره، في عده شروط وجوب دم التمتع، وفي شرط كونهما عن واحد تردد ما نصه: ذكر ابن شاس من الشروط التي يكون بها متمتعاً: أن يقع النسكان عن شخص واحد: ابن عرفة لا أعرف هذا، بل في كتاب محمد من اعتمر عن نفسه، ثم حج من عامه عن غيره فتمتع. وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل المذكور ما نصه: أشار بالتردد لتردد المتأخرين في النقل، فالذي نقله صاحب النوادر وابن يونس، واللخمي عدم اشتراط ذلك. وقال ابن الحاجب: الأشهر اشتراط كونهما عن واحد، وحكى ابن شاس في ذلك قولين قال في التوضيح: لم يعزهما ولم يعين المشهور منهما، ولم يحك صاحب النوادر وابن يونس، إلا ما وقع في الموازية أنه تمتع. انتهى. وقال في مناسكه بعد أن ذكر كلام ابن الحاجب خليل: ولم أر في ابن يونس وغيره، إلا القول بوجوب الدم.
وقال ابن عرفة: وشرط ابن شاش كونهما عن واحد، ونقل ابن حاجب: لا أعرفه، بل في كتاب محمد من اعتمر عن نفسه، ثم حج من عامه عن غيره متمتع فما ذكره المصنف من التردد صحيح. لكن المعروف: عدم اشتراط ذلك وعادته أن يشير بالتردد لما ليس فيه ترجيح.
وقال ابن جماعة: الشافعي في منسكه الكبير: لا يشترط أن يقع النسكان عن واحد عند جمهور الشافعية، وهو قول الحنفية ورواية ابن المواز، عن مالك، وعلى ذلك جرى جماعة من أئمة المالكية منهم الباجي، والطرطوشي، ومن الشافعية من شرط ذلك. قوال ابن الحاجب: إنه الأشهر من مذهب مالك، وتبع ابن الحاجب في اشتراط ذلك صاحب الجواهر، وقوله: إنه الأشهر غير مسلم، فإن القرافي في الذخيرة ذكر ما سوى هذا الشرط، وقال: إن صاحب الجواهر زاد هذا الشرط، ولم يعزه لغيره. انتهى كلام الحطاب، والظاهر من النقول التي نقلها أن عدم اشتراط كون النسكين عن واحد: هو المعروف في مذهب مالك، وهو كذلك، ومذهب أحمد قريب من مذهب مالك والشافعي، ففيه خلاف أيضاً، هل يشترط كون النسكين عن واحد أو لا يشترط؟ وعدم اشتراطه عليه الأكثر من الحنابلة، وعزاه في الإنصاف لبعض الأصحاب قال منهم المصنف، والمجد، قاله الزركشي، واقتصر عليه في الفروع وعزا مقابله لصاحب التلخيص، وقد قدمنا في كلام ابن جماعة الشافعي: أن عدم اشتراط كون النسكين، عن شخص واحد هو مذهب الحنفية أيضاً، فظهر أن المشهور في المذاهب الأربعة عدم اشتراط هذا الشرط، وقول من اشترطه له وجه من النظر. والعلم عند الله تعالى.
الشرط السادس: أن يحل من العمرة قبل إحرامه بالحج، فإن أحرم قبل حله منها صار قارناً، كما وقع لعائشة رضي الله عنها في حجة الوداع على التحقيق كما تقدم إيضاحه.
الشرط السابع: هو ما اشترطه بعض أهل العلم من كونه لا يعد متمتعاً، حتى يحرم بالعمرة من الميقات، فإن أحرم بها من دون الميقات صار غير متمتع، لأنه كأنه من حاضري المسجد الحرام، ولا يخفى سقوط هذا الشرط.
قال صاحب الإنصاف: لما ذكر هذا الشرط ذكره أبو الفرج والحلواني وجزم به ابن عقيل في التذكرة، وقدمه في الفروع. وقال القاضي وابن عقيل: وجزم به في المستوعب والتلخيص والرعاية وغيرهم: إن بقي بينه، وبين مكة مسافة قصر، فأحرم منه لم يلزمه دم المتعة لأنه من حاضري المسجد الحرام، بل دم مجاوزة الميقات. واختار المصنف والشارح وغيرهما، أنه إذا أحرم بالعمرة من دون الميقات: يلزمه دمان دم المتعة، ودم الإحرام من دون الميقات، لأنه لم يقم ولم ينوها به، وليس بساكن وردوا ما قال القاضي. انتهى منه وهذا الأخير هو الظاهر. والله تعالى أعلم.
وقال صاحب الإنصاف بعد كلامه: هذا متصلاً به.
قال المصنف والشارح: ولو أحرم الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة واعتمر من التنعيم، فهو متمتع نص عليه، وفي نصه على هذه الصورة تنبيه على إيجاب الدم في الصورة الأولى بطريق الأولى ا هـ منه. ولا ينبغي أن يختلف في واحدة منهما لدخولهما صريحاً في عموم آية التمتع، كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
واعلم أن من يعتد به من أهل العلم: أجمعوا على أن القارن يلزمه المتمتع من الهدي، والصوم عند العجز عن الهدي، وقد قدمنا الروايات الصحيحة الثابتة عن بعض أجلاء الصحابة، بأن القران داخل في اسم التمتع، وعلى هذا فهو داخل في عموم الآية، وكلا النسكين فيه تمتع لغة، لأن التمتع من المتاع أو المتعة، وهو الانتفاع أو النفع ومنه قوله:

وقفت على غبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق

جعل استئناسه بقبره متاعاً لانتفاعه بذلك الاستئناس، وكل من القارن والمتمتع، انتفع بإسقاط أحد السفرين وانتفع القارن عند الجمهور باندراج أعمال العمرة في الحج.
وقال جماعة من أهل العلم: إن القران لم يدخل في عموم الآية بحسب مدلول لفظها، وهو الأظهر، لأن الغاية في قوله
{ { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ } [البقرة: 196] تدل على ذلك، والذين قالوا هذا قالوا: هو ملحق به في حكمه لأنه في معناه. وعلى أن القارن يلزمه ما يلزم المتمتع عامة العلماء منهم: الأئمة الأربعة، إلا من شذ شذوذاً لا عبرة به.

وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له وجه من النظر

قال في الإنصاف: وسأله يعني الإمام أحمد بن مشيش القارن يجب عليه الدم وجوباً؟ فقال: فكيف يجب عليه وجوباً، وإنما شبهوه بالمتمتع قال في الفروع، فتتوجه منه رواية لا يلزمه دم. ا هـ منه.
ولا يخفى أن مذهب أحمد مخالف لما زعموه رواية، وأن القارن كالمتمتع في الحكم. وقال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم في وجوب الدم على القارن خلافاً إلا ما حكي عن داود أنه لا دم عليه. وروي ذلك عن طاوس. وحكى ابن المنذر: أن ابن داود لما دخل مكة، سئل عن القارن هل يجب عليه دم؟ فقال: لا، فجر برجله، وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم. ا هـ منه. وذكر النووي: أن العبدري حكى هذا القول، عن الحسن بن علي بن سريج. والتحقيق خلافه، وأنه يلزمه ما يلزم المتمتع.
ومن النصوص الدالة على ذلك.
"حديث عائشة المتفق عليه، وفيه فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ فقيل نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه" متفق عليه.
قال المجد في المنتقى: وفيه دليل على الأكل من دم القران، لأن عائشة كانت قارنة. ا هـ منه. وهو يدل على أن القارن عليه دم. والله أعلم.
ومن أصرح الأدلة في ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه، عن جابر بلفظ
"ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة بقرة يوم النحر" ومعلوم أنها كانت قارنة، على التحقيق فتلك البقرة دم قران، وذلك دليل على لزومه، وما ذكره ابن قدامة في المغني، من أنه روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرن بين حجه وعمرته فليهرق دماً" لم أعرف له أصلاً، والظاهر أنه لا يصح مرفوعاً. والله تعالى أعلم.
وأكثر أهل العلم: على أن القارن إن كان أهله حاضري المسجد الحرام، أنه لا دم عليه، لأنه متمتع أو في حكم المتمتع، والله يقول
{ { ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 196].
وقال ابن قدامة في المغني، وهو قول جمهور العلماء: وقال ابن الماجشون: عليه دم، لأن الله تعالى أسقط الدم عن المتمتع، وهذا ليس متمتعاً، وليس هذا بصحيح، فإننا ذكرنا أنه متمتع، وإن لم يكن متمتعاً، فهو مفرع عليه، ووجوب الدم على القارن، إنما كان بمعنى النص على التمتع، فلا يجوز أن يخالف الفرع أصله. انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: حاصل هذا الكلام: أن القارن كالمتمتع في أن كلا منهما إن كان في حاضري المسجد الحرام، لا دم عليه، وذكر صاحب المغني: أن ابن الماجشون خالف في ذلك، وقال: عليه دم، وله وجه قوي من النظر على قول الجمهور: أنه يكفيه طواف واحد وسعي واحد لحجه، وعمرته. فقد انتفع بإسقاط عمل أحد النسكين، ولزوم الدم في مقابل ذلك، له وجه من النظر كما ترى.
وقال النووي في شرح المهذب: قال أصحابنا: ولا يجب على حاضري المسجد الحرام دم القران، كما لا يجب على المتمتع، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى الحناطي والرافعي وجهاً: أنه يلزمه. انتهى محل الغرض منه. وهذا الوجه عند الشافعية هو قول ابن الماجشون من المالكية، كما ذكره صاحب المغني، ومذهب مالك، وأصحابه، كمذهب الشافعي وأحمد، في أن القارن إن كان من حاضري المسجد الحرام، لا دم عليه، وحاضروا المسجد عند مالك وأصحابه أهل مكة، وذي طوى.
قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره: وشرط دمهما عدم إقامته بمكة أو ذي طوى الخ ما نصه: وذو طوى هو ما بين الثنية التي يهبط منها إلى مقبرة مكة المسماة بالمعلاة، والثنية الأخرى التي إلى جهة الزاهر وتسمى عند أهل مكة بين الحجونين ا هـ. محل الغرض منه.
وقد قدمنا أن مذهب أبي حنيفة، وأصحابه: أن أهل مكة ونحوهم ممن دون الميقات: لا تشرع لهم العمرة أصلاً فلا تمتع لهم ولا قران، بناء على رجوع الإشارة في قوله
{ { ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 196] لنفس التمتع كما تقدم إيضاحه، مع أنهم يقولون: إنهم إن تمتعوا أو قرنوا أساؤوا وانعقد إحرامهم، ولزمهم دم الجبر، وهذا الدم عندهم دم جناية لا يأكل صاحبه منه، بخلاف دم التمتع والقران من غير حاضري المسجد الحرام، فهو عندهم دم نسك، يجوز لصاحبه الأكل منه، ونقل بعض الحنفية، عن ابن عمر وابن عباس، وابن الزبير: أن أهل مكة لا متعة لهم. وقد قدمنا أنه رأي البخاري.
واعلم: أنا قدمنا أن من شروط وجوب دم التمتع: ألا يرجع بعد العمرة إلى بلده أو مسافة مثله، أو يسافر مسافة القصر على ما بينا هناك من أقوال الأئمة في ذلك، وأردنا أن نذكر هنا حكم القارن إذا أتى بأفعال العمرة، ثم رجع إلى بلده، ثم حج من عامه، أو سافر مسافة قصر، ثم أحرم بالحج من الميقات، هل يسقط عنه الدم بذلك كالمتمتع أو لا. ومذهب أبي حنيفة: أن الدم لا يسقط عنه برجوعه إلى بلده بعد إتيانه بأفعال العمرة، إن رجع، وحج لأنه لم يزل قارناً.
وقال صاحب الإنصاف في الكلام على القارن: لا يلزم الدم حاضري المسجد الحرام، كما قال المصنف: وقاله في الفروع وغيره، وقال: والقياس أنه لا يلزم من سافر سفر قصر أو إلى الميقات، إن قلنا به، كظاهر مذهب الشافعي، وكلامهم يقتضي لزومه، لأن اسم القران باق بعد السفر، بخلاف التمتع ا هـ. منه.
وحاصل كلامه: أن ظاهر كلام الحنابلة: أن السفر بعد وصول مكة، لا يسقط دم القران، وأن مقتضى القياس أنه يسقط إلحاقاً له بالتمتع، وقال النووي في شرح المهذب: لو دخل القارن مكة قبل يوم عرفة، ثم عاد إلى الميقات، فالمذهب: أنه لا دم عليه في الإملاء، وقطع به كثيرون أو الأكثرون، وصححه الحناطي وآخرون. وقال إمام الحرمين: إن قلنا المتمتع إذا أحرم بالحج ثم عاد إليه لا يسقط عنه الدم فهنا أولى، وإلا فوجهان: والفرق أن اسم القران، لا يزول بالعود، بخلاف التمتع، ولو أحرم بالعمرة من الميقات، ودخل مكة، ثم رجع إلى الميقات قبل طوافه فأحرم بالحج، فهو قارن.
قال الدارمي في آخر باب الفوات: إن قلنا إذا أحرم بهما جميعاً، ثم رجع سقط الدم فهنا أولى، وإلا فوجهان. انتهى منه.
وظاهر كلام خليل في مختصره المالكي: أن السفر لا يسقط دم القران والحاصل: أنا بينا اختلاف أهل العلم في السفر بعد أفعال العمرة أو بعد دخول مكة، هل يسقط دم القران أو لا؟ وبينا قول صاحب الإنصاف: أن سقوطه بالسفر، هو مقتضى قياسه على التمتع.
وأقرب الأقوال عندي للصواب: أن دم القران لا يسقطه السفر، وقد بينا أن الأحوط عندنا: أن دم التمتع لا يسقطه السفر، لتصريح القران بوجوب الهدي على المتمتع، وعدم صراحة الآية في سقوطه بالسفر. وقد ذكرنا أن لزوم الدم للقارن الذي هو من حاضري المسجد الحرام له وجه من النظر، لأنه اكتفى عن النكسين بعمل أحدهما على قول الجمهور، كما تقدم.
وأظهر قولي أهل العلم عندنا: أن المكي إذا أراد الإحرام بالقران، أحرم به من مكة، لأنه يخرج في حجه إلى عرفة، فيجمع بين الحل والحرم، خلافاً لمن قال: يلزم المكي القارن إنشاء إحرامه من أدنى الحل وكذلك الآفاقي، إذا كان في مكة، وأراد أن يحرم قارناً، فالأظهر أنه يحرم بالقران من مكة خلافاً لمن قال: يحرم به من أدنى الحل لما بينا. والعلم عند الله تعالى.
وإذا عرفت الشروط التي بها يجب دم التمتع والقران، فاعلم أنا أردنا هنا أن نبين ما يجزئ فيه ووقت ذبحه، أما ما يجزئ فيه، فالتحقيق أنه ما تيسر من الهدي، وأقله شاة تجزئ ضحية، وأعلاه: بدنة وأوسطه: بقرة، والتحقيق: أن سبع بدنة أو بقرة يكفي، فلو اشترك سبعة من المتمتعين في بدنة أو بقرة وذبحوها أجزأت عنهم، للنصوص الصحيحة الدالة على ذلك،
"كحديث جابر الثابت في الصحيح قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة" وفي لفظ لمسلم "قال اشتركنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة" فقال رجل لجابر: أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن.
قال مسلم في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا مالك ح وحدثنا يحيى بن يحيى. واللفظ له قال: قرأت على مالك عن أبي الزبير،
"عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة" وفي لفظ لمسلم "عن جابر قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة وفي لفظ له عنه أيضاً قال حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة وفي لفظ له عنه أيضاً قال اشتركنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة" فقال رجل لجابر: أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور؟ قال: ما هي إلا من البدن، "وحضر جابر الحديبية قال نحرنا يومئذ سبعين بدنة اشتركنا كل سبعة في بدنة وفي لفظ له عنه، وهو يحدث عن حجة النَّبي صلى الله عليه وسلم قال فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث، وفي لفظ له عنه أيضاً قال كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذبح البقرة، عن سبعة نشترك فيها" ا هـ. محل الغرض من صحيح مسلم.
وهذه الروايات الصحيحة تدل: على أن دم التمتع يكفي فيه الاشتراك بالسبع في بدنة، أو بقرة، ويدل على أن ذلك داخل فيما استيسر من الهدي. أما الشاة والبدنة كاملة فإجزاء كل منهما لا إشكال فيه. وقال البخاري في صحيحه: حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا النضر، أخبرنا شعبة، حدثنا أبو جمرة قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما، عن المتعة؟ فأمرني بها، وسألته عن الهدي فقال: فيها جزور أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم. الحديث. فقوله: أو شرك في دم: يعني به ما بينته الروايات المذكورة الصحيحة. عن جابر: أن البدنة والبقرة كلتاهما تكفي عن سبعة من المتمتعين، وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث: وهذا موافق لما رواه مسلم
"عن جابر قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا أن نشترك في الأبل والبقر كل سبعة منا في بدنة" ثم قال وبهذا قال الشافعي والجمهور، سواء كان الهدي تطوعاً أو واجباً، وسواء كانوا كلهم متقربين بذلك، أو كان بعضهم يريد التقرب، وبعضهم يريد اللحم. وعن أبي حنيفة: يشترط في الاشتراك أن يكونوا كلهم متقربين بالهدي، وعن زفر مثله بزيادة: أن تكون أسبابهم واحدة، وعن داود وبعض المالكية: يجوز في هدي التطوع، دون الواجب، وعن مالك: لا يجوز مطلقا ا هـ منه.
والتحقيق أن سبع البدنة وسبع البقرة كل واحد منهما يقوم مقام الشاة، ويدخل في عموم
{ { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196] والروايات الصحيحة التي ذكرنا حجة على كل من خالف ذلك كمالك، ومن وافقه وما احتج به إسماعيل القاضي لمالك، من أن الاشتراك في الهدي، لا يصح من أن حديث جابر، إنما كان بالحديبية، حيث كانوا محصرين. وأن حديث ابن عباس خالف فيه أبو جمرة عنه ثقات أصحابه، فرووا عنه أن ما استيسر من الهدي: شاة ثم ساق ذلك عنهم بأسانيد صحيحة مردودة. أما دعوى أن حديث جابر إنما كان بالحديبية، حيث كانوا محصرين، فهي مردودة، بما ثبت في الروايات الصحيحة في مسلم التي سقناها بألفاظها: أنهم اشتركوا الاشتراك المذكور معه صلى الله عليه وسلم أيضاً في حجه، ولا شك أن المراد بحجه حجة الوداع، لأنه لم يحج بعد الهجرة حجة غيرها. وفي بعض الروايات الصحيحة، عند مسلم التي سقناها بألفاظها آنفاً التصريح بوقوع الاشتراك في الحجة المذكورة، كما هو واضح من ألفاظ مسلم التي ذكرناها. وأما دعوى مخالفة أبي جمرة في ذكره الاشتراك المذكور ثقات أصحاب ابن عباس، فيه مردودة أيضاً، بما ذكره ابن حجر في الفتح، حيث قال: وليس بين رواية أبي جمرة، ورواية غيره منافاة، لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك، ووافقهم على ذكر الشاة، وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على الشاة الرد على من زعم اختصاص الهدي بالإبل والبقر. وذلك واضح فيما سنذكره بعد هذا، إلى أن قال: وبهذا تجتمع الأخبار، وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء، على توثيقه، وهو أبو جمرة الضبعي. وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك، ثم رجع عن ذلك لما بلغته السنة، وذكر ابن حجر رجوع ابن عمر عن ذلك، عن أحمد بسنده من طريق الشعبي، عن ابن عمر.
وأظهر قولي أهل العلم عندي: أن البدنة لا تجزئ عن أكثر من سبعة، وذكر ابن حجر في الفتح، عن سعيد بن المسب في إحدى الروايتين عنه: أنها تجزئ عن عشرة. قال: وبه قال إسحاق بن راهويه، وابن خزيمة من الشافعية. واحتج لذلك في صحيحه، وقواه واحتج له ابن خزيمة بحديث رافع بن خديج:
"أنه صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عشراً من الغنم ببعير" الحديث. وهو في الصحيحين.
وأجمعوا على أن الشاة: لا يصح الاشتراك فيها وقوله: أو شاة هو قول جمهور العلماء. ورواه الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد صحيحة عنهم، ورويا بإسناد قوي عن القاسم بن محمد، عن عائشة، وابن عمر: أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي: إلا من الإبل والبقر، ووافقهما القاسم، وطائفة. قال إسماعيل القاضي في الأحكام له: أظن أنهم ذهبوا إلى ذلك لقوله تعالى:
{ وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } [الحج: 36] فذهبوا إلى تخصيص ما يقع عليه اسم البدن، قال: ويرد هذا قوله تعالى { { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [المائدة: 95] وأجمع المسلمون على أن في الظبي شاة، فوقع عليهما اسم هدي.
قلت: قد احتج بذلك ابن عباس، فأخرج الطبري بإسناد صحيح إلى عبدالله بن عبيد بن عمير قال: قال ابن عباس: الهدي شاة. فقيل له في ذلك، فقال: أنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تقرون به ما في الظبي، قالوا: شاة، قال: فإن الله يقول
{ { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [المائدة: 95] ا هـ من فتح الباري.
وقد قدمنا في سورة البقرة: أنه ثبت في الصحيحين، عن عائشة أنها قالت "أهدي صلى الله عليه وسلم مرة غنماً" وهو نص صحيح عنها صريح في تسمية الغنم هدياً كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أنه هو الصواب في هدي التمتع، الذي نص الله في كتابه على أنه ما استيسر من الهدي: أنه شاة، أو بدنة، أو بقرة. ويكفي في ذلك سبع البدنة وسبع البقرة، عن المتمتع الواحد، وتكفي البدنة عن سبعة متمتعين لثبوت الروايات الصحيحة بذلك، ولم يقم من كتاب الله، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم: نص صريح في محل النزاع يقاومها، ورواية جابر: أن البدنة تكفي في الهدي، عن سبعة أخص في محل النزاع من حديث رافع بن خديج
"أنه صلى الله عليه وسلم جعل البعير في القسمة يعدل عشراً من الغنم" لأن هذا في القسمة، وحديث جابر في خصوص الهدي، والأخص في محل النزاع مقدم على الأعم، والعلم عند الله تعالى.
ومما يوضح ذلك ما ذكره ابن حجر في الفتح في شرح حديث رافع المذكور، وقد أورده البخاري في كتاب الذبائح،
"عن رافع بن خديج بلفظ قال كنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصبنا إبلاً وغنماً، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس فعجلوا فنصبوا القدور، فدفع النَّبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأمر بالقدور فأكفئت، ثم قسم فعدل عشراً من الغنم ببعير فند منها بعير" الحديث.
ونص كلام ابن حجر في هذا الحديث، وهذا محمول على أن هذا كان قيمة الغنم إذ ذاك، فلعل الإبل كانت قليلة، أو نفيسة، والغنم كانت كثيرة، أو هزيلة بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه، ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحي، من أن البعير يجزئ عن سبع شياه، لأن ذلك هو الغالب في قيمة الشاة والبعيرالمتعدلين. وأما هذه القسمة، فكانت واقعة عين، فيحتمل أن يكون التعديل لما ذكر من نفاسة الإبل، دون الغنم.
"وحديث جابر عند مسلم صريح في الحكم حيث قال فيه أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة منا في بدنة" والبدنة تطلق على الناقة، والبقرة.
وأما حديث ابن عباس "كنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة تسعة وفي البدنة عشرة" فحسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وعضده بحديث رافع بن خديج هذا.
والذي يتحرر في هذا: أن الأصل أن البعير بسبع ما لم يعرض عارض من نفاسة، ونحوها، فيتغير الحكم بحسب ذلك، وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك، ثم الذي يظهر من القسمة المذكورة، أنها وقعت فيما عدا ما طبخ وأريق من الإبل والغنم، التي كانوا غنموها، ويحتمل إن كانت الواقعة تعددت أن تكون القصة التي ذكرها ابن عباس، أتلف فيها اللحم لكونه كان قطع للطبخ، والقصة التي في حديث رافع طبخت الشياه صحاحاً مثلاً، فلما أريق مرقها ضمت إلى الغنم لتقسم، ثم يطبخها من وقعت في سهمه، ولعل هذا هو النكتة في انحطاط قيمة الشياه، عن العادة والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر.
وكون اللحم رد لطبخه من وقع في سهمه مرة أخرى، غير ظاهر عندي والله أعلم.
وحديث رافع المذكور: أخرجه أيضاً مسلم في كتاب: الصيد والذبائح، ولفظ المراد منه
"عن رافع قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة فأصبنا غنماً وإبلاً فعجل القوم فأغلوا بها القدور فأمر بها فكفئت، ثم عدل عشراً من الغنم بجزور" .
والحاصل: أن أخص شيء في محل النزاع وأصرحه فيه، وأوضحه فيه حديث جابر، الذي ذكرنا روايته عند مسلم. أما حديث رافع، فهو في قسمة الغنيمة لا في الهدي. وأما حديث ابن عباس، فظاهره أنه في الضحايا، وعلى كل حال: فحديث جابر أصح منه، فالذي يظهر أن المتمتع يكفيه سبع بدنة، وأن النص الصريح الوارد بذلك ينبغي تقديمه، على أنه يكفيه عشر بدنة، وقد رأيت أدلة القولين. والعلم عند الله تعالى.
فإذا علمت أقوال أهل العلم في تعيين القدر المجزئ في هدي التمتع، والقران، وأن أظهر الأقوال: أن أقله شاة، أو سبع بدنة أو بقرة، وأن إجزاء البدنة الكاملة، لا نزاع فيه.
فاعلم: أن أهل العلم اختلفوا في وقت وجوبه، ووقت نحره، وهذه تفاصيل أقوالهم وأدلتها، وما يرجحه الدليل منها.
أما مذهب مالك فالتحقيق فيه: أن هدي التمتع والقران لا يجب وجوباً تاماً إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة، لأن ذبحه في ذلك الوقت هو الذي فعله صلى الله عليه وسلم، وقال
"لتأخذوا عني مناسككم" ولذا لو مات المتمتع يوم النحر، قبل رمي جمرة العقبة، لا يلزم إخراج هدي التمتع من تركته، لأنه لم يتم وجوبه، وهذا هو الصحيح المشهور في مذهب مالك، وقد كنت قلت في نظمي في فروع مالك، وفي الفرائض على مقتضى مذهبه في الكلام على ما يخرج من تركة الميت، قبل ميراث الورثة بعد أن ذكرت قضاء ديونه:

وأتبعن دينه بهدي تمتع إن مات بعد الرمي

واعلم: أن قول من قال من المالكية: إنه يجب بإحرام الحج، وأنه يجزئ قبله كما هو ظاهر قول خليل في مختصره الذي قال في ترجمته مبيناً لما به الفتوى: ودم التمتع يجب بإحرام الحج، وأجزأ قبله، قد اغتر به بعض من لا تحقيق عنده بالمذهب المالكي، والتحقيق أن الوجوب عندهم برمي جمرة العقبة، وبه جزم ابن رشد وابن العربي، وصاحب الطراز وابن عرفة، قال ابن عرفة: سمع ابن القاسم إن مات. يعني: المتمتع قبل رمي جمرة العقبة، فلا دم عليه.
ابن رشد: لأنه إنما يجب في الوقت، الذي يتعين فيه نحره، وهو بعد رمي جمرة العقبة، فإن مات قبله لم يجب عليه.
ابن عرفة: قلت: ظاهره لو مات يوم النحر قبل رميه: لم يجب، وهو خلاف نقل النوادر، عن كتاب محمد عن ابن القاسم، وعن سماع عيسى: من مات يوم النحر، ولم يرم فقد لزمه الدم، ثم قال ابن عرفة: فقول ابن الحاجب: يجب بإحرام الحج يوهم وجوبه على من مات قبل وقوفه، ولا أعلم في سقوطه خلافاً.
ولعبد الحق، عن ابن الكاتب، عن بعض أصحابنا: من مات بعد وقوفه، فعليه الدم. ا هـ من الحطاب.
فأصح الأقوال الثلاثة وهو المشهور: أنه لا يجب على من مات، إلا إذا كان موته بعد رمي جمرة العقبة، وفيه قول: بلزومه، إن مات يوم النحر قبل الرمي، وأضعفها أنه يلزمه، إن مات بعد الوقوف بعرفة. أما لو مات قبل الوقوف بعرفة، فلم يقل أحد بوجوب الدم عليه من عامة المالكية، وقول من قال منهم: إنه يجب بإحرام الحج لا يتفرع عليه من الأحكام شيء، إلا جواز إشعاره وتقليده، عليه فلو أشعره، أو قلده قبل إحرام الحج، كان هدي تطوع، فلا يجزئ عن هدي التمتع، فلو قلده، وأشعره بعد إحرام الحج، ثم أخر ذبحه إلى وقته: أنه يجزئه عن هدي التمتع، وعليه فالمراد بقول خليل: وأجزأ قبله أي أجزأ الهدي الذي تقدم تقليده، وإشعاره على إحرام الحج هذا هو المعروف عند عامة علماء المالكية. فمن ظن أن المجزئ هو نحره قبل إحرام الحج، أو بعده قبل وقت النحر. فقد غلط غلطاً فاحشاً.
قال الشيخ المواق في شرحه: قول خليل: وأجزأ قبله ما نصه: ابن عرفة: يجزئ تقليده، وإشعاره بعد إحرام حجه، ويجوز أيضاً قبله على قول ابن القاسم. ا هـ منه.
وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره: ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله ما نصه:
فإن قلت: إذا كان هدي التمتع إنما ينحر بمنى، إن وقف به بعرفة، أو بمكة بعد ذلك على ما سيأتي فما فائدة الوجوب هنا؟
قلت: يظهر في جواز تقليده، وإشعاره بعد الإحرام بالحج، وذلك أنه لو لم يجب الهدي حينئذ مع كونه يتعين بالتقليد، لكان تقليده إذ ذاك قبل وجوبه، فلا يجزئ إلا إذا قلد بعد كمال الأركان.
وقال الشيخ الحطاب أيضاً: والحاصل: أن دم التمتع والقران، يجوز تقليدهما قبل وجوبهما على قول ابن القاسم، ورواية عن مالك، وهو الذي مشى عليه المصنف. فإذا علم ذلك فلم يبق للحكم بوجوب دم التمتع بإحرام الحج فائدة تعم على القول، بأنه لا يجزئه ما قلده قبل الإحرام بالحج تظهر ثمرة الوجوب في ذلك، ويكون المعنى: أنه يجب بإحرام الحج، وجوباً غير متحتم، لأنه معرض للسقوط بالموت، والفوات، فإذا رمى جمرة العقبة تحتم الوجوب، فلا يسقط بالموت. كما نقول في كفارة الظهار، أنها تجب بالعود وجوباً، غير متحتم بمعنى أنها تسقط بموت الزوجة وطلاقها فإن وطئ تحتم الوجوب ولزمت الكفارة، ولو ماتت الزوجة، أو طلقها إلى أن قال: بل تقدم في كلام ابن عبدالسلام في شرح المسألة الأولى: أن هدي التمتع إنما ينحر بمنى، إن وقف به بعرفة، أو بمكة بعد ذلك إلى آخره، وهو يدل: على أنه لا يجزئ نحره قبل ذلك. والله أعلم ونصوص أهل المذهب شاهدة لذلك.
قال القاضي عبد الوهاب في المعونة: ولا يجوز نحر هدي التمتع والقران، قبل يوم النحر، خلافاً للشافعي لقوله تعالى
{ { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [البقرة: 196] وقد ثبت أن الحلق، لا يجوز قبل يوم النحر، فدل على أن الهدي، لم يبلغ محله إلا يوم النحر، وله نحو ذلك في شرح الرسالة. وقال في التلقين: الواجب لكل واحب من التمتع والقران هدي ينحره بمنى، ولا يجوز تقديمه قبل فجر يوم النحر، وله مثله في مختصر عيون المجالس، ثم قال الحطابرحمه الله : فلا يجوز الهدي عند مالك، حتى يحل، وهو قول أبي حنيفة وجوزه الشافعي: من حين يحرم بالحج. واختلف قوله فيما بعد التحلل من العمرة قبل الإحرام بالحج.
ودليلنا أن الهدي متعلق بالتحلل، وهو المفهوم من قوله تعالى { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } ا هـ منه. وكلام علماء المالكية بنحو هذا كثير معروف.
والحاصل: أنه لا يجوز ذبح دم التمتع، والقران عند مالك، وعامة أصحابه قبل يوم النحر وفيه قول ضعيف، بجوازه بعد الوقوف بعرفة، وهو لا يعول عليه، أن قولهم: أنه يجب بإحرام الحج، لا فائدة فيه إلا جواز إشعار الهدي وتقليده بعد إحرام الحج، لا شيء آخر فما نقل عن عياض وغيره من المالكية، مما يدل على جواز نحره قبل يوم النحر كله غلط. إما من تصحيف الإشعار، والتقليد وجعل النحر بدل ذلك غلطاً، وإما من الغلط في فهم المراد عند علماء المالكية، كما لا يخفى على من عنده علم بالمذهب المالكي، فاعرف هذا التحقيق، ولا تغتر بغيره.
ومذهب الإمام أحمد في وقت وجوبه فيه خلاف، فقيل: وقت وجوبه، هو وقت الإحرام بالحج. قال في المغني: وهو قول أبي حنيفة، والشافعي. لأن الله تعالى قال:
{ { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196] وهذا قد فعل ذلك، ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كاف كقوله تعالى { { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ } [البقرة: 187] إلى أن قال: وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة. قال: وهو قول مالك، واختيار القاضي ووجه في المغني هذا القول، بأنه قبل الوقوف، لا يعلم أيتم حجه أو لا، لأنه قد يعرض له الفوات، فلا يكون متمتعاً، فلا يجب عليه دم، وذكر عن عطاء وجوبه برمي جمرة العقبة.
وعن أبي الخطاب يجب إذا طلع فجر يوم النحر، ثم قال في المغني: فأما وقت إخراجه فيوم النحر، وبه قال مالك، وأبو حنيفة: لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز فيه ذبح الأضحية، فلا يجوز فيه ذبح هدي التمتع، ثم قال: وقال أبو طالب: سمعت أحمد قال في الرجل: يدخل مكة في شوال، ومعه هدي قال: ينحر بمكة، وإن قدم قبل العشر ينحره لا يضيع أو يموت أو يسرق. وكذلك قال عطاء: وإن قدم في العشر حتى ينحره بمنى، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا في العشر، فلم ينحروا، حتى نحروا بمنى، ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته، وأقام على إحرامه، وكان قارناً ا هـ محل الغرض منه. وسترى ما يرد هذا إن شاء الله تعالى.
وقال صاحب الإنصاف: يلزم دم التمتع، والقران بطلوع فجر يوم النحر على الصحيح من المذهب، وجزم به القاضي في الخلاف، ورد ما نقل عنه خلافه إليه وجزم به في البلغة، وقدمه في الهداية والمستوعب والخلاصة، والتلخيص، والفروع، والرعايتين، والحاويين، وعنه يلزم الدم إذا أحرم بالحج، وأطلقهما في المذهب، ومسبوك الذهب وعنه يلزم الدم بالوقوف وذكره المصنف والشارح اختيار القاضي.
قال الزركشي: ولعله في المجرد وأطلقها، والتي قبلها في الكافي، ولم يذكر غيرها، وكذا قال المغني والشرح، وقال ابن الزاغوني في الواضح: يجب دم القران بالإحرام. قال في الفروع: كذا قال، وعنه يلزم بإحرام العمرة لنية التمتع، إذ قال في الفروع: ويتوجه أن يبني عليها، ما إذا مات بعد سبب الوجوب، يخرج عنه من تركته.
وقال بعض الأصحاب: فائدة الروايات إذا تعذر الدم، وأراد الانتقال إلى الصوم، فمتى يثبت العذر فيه الروايات، ثم قال في الإنصاف: هذا الحكم المتقدم في لزوم الدم. وأما وقت ذبحه فجزم في الهداية، والمذهب ومسبوك الذهب والمستوعب، والخلاصة، والهادي، والتلخيص، والبلغة، والرعايتين والحاويين وغيرهم: أنه لا يجوز ذبحه قبل وجوبه.
قال في الفروع: وقال القاضي وأصحابه: لا يجوز قبل فجر يوم النحر، ثم ذكر صاحب الإنصاف، عن بعضهم ما يدل على جواز ذبحه قبل ذلك، وذكر رده، ورده الذي ذكر هو الصحيح.
ومن جملة ما رده به فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، لأنهم لم يذبحوا قبل يوم النحر قارنهم ومتمتعهم جميعاً، ثم قال: وقد جزم في المحرر والنظم، والحاوي، والفائق وغيرهم: أن وقت دم المتعة والقران: وقت دم الأضحية على ما يأتي في بابه، ثم قال: واختار أبو الخطاب في الانتصار يجوز له نحره بإحرام العمرة، وأنه أولى من الصوم، لأنه بدل، وحمل رواية ابن منصور بذبحه يوم النحر على وجوبه يوم النحر، ثم قال:
ونقل أبو طالب إن قدم قبل العشر ومعه هدي: ينحره لا يضيع، أو يموت، أو يسرق. قال في الفروع وهذا ضعيف.
قال في الكافي: وإن قدم قبل العشر نحره، وإن قدم به في العشر لم ينحره، حتى ينحره بمنى استدل بهذه الرواية، واقتصر عليه. انتهى محل الغرض من الإنصاف.
وقد رأيت في كلامه أن الروايات بتحديد وقت الوجوب يبني عليها لزوم الهدي في تركته، إن مات بعد الوجوب، وتحقق وقت العذر المبيح، للانتقال إلى الصوم، إن لم يجد الهدي، لا أن المراد بوقت الوجوب استلزام جواز الذبح، لأنهم يفردون وقت الذبح بكلام مستقل، عن وقت الوجوب.
وأن الصحيح المشهور من مذهبه: أنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر، واختيار أبي الخطاب: جواز ذبحه بإحرام المتعة.
ورواية أبي طالب: جواز ذبحه إن قدم به. قبل العشر كلاهما ضعيف لا يعول عليه، ولا يعضده دليل، والتعليل بخوف الموت والضياع، والسرقة منتقض بما إذا قدم به في العشر، لأن العشر يحتمل أن يموت فيها، أو يضيع، أو يسرق كما ترى والتحديد بنفس العشر، لا دليل عليه من نص ولا قياس، فبطلانه واضح لعدم اعتضاده بشيء غير احتمال الموت والضياع والسرقة، وذلك موجود في الهدي الذي قدم به في العشر، مع أن الأصل في كليهما السلامة، والعلم عند الله تعالى.
ومذهب الشافعي في هذه المسألة: هو أن وقت وجوب دم التمتع، هو وقت الإحرام بالحج.
قال النووي في شرح المهذب: وبه قال أبو حنيفة، وداود، وقال عطاء: لا يجب حتى يقف بعرفات.
وقال مالك: لا يجب حتى يرمي جمرة العقبة، وأما وقت جواز ذبحه عند الشافعية ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز قبل الإحرام بالحج، قالوا: لأن الذبح قربة تتعلق بالبدن، فلا تجوز قبل وجوبها، كالصلاة والصوم.
والقول الثاني: يجوز بعد الفراغ من العمرة لأنه حق مالي يجب بسببين، فجاز تقديمه على أحدهما، كالزكاة بعد ملك النصاب وقبل الحول، أما جواز ذبحه بعد الإحرام بالحج، فلا خلاف فيه عند الشافعية، كما أن ذبحه قبل الإحرام بالعمرة، لا يجوز عندهم، بلا خلاف.
وقد قدمنا نقل النووي، عن أبي حنيفة: أن وقت وجوبه: هو وقت الإحرام بالحج، أما وقت نحره فهو عند أبي حنيفة، وأصحابه: يوم النحر فلا يجوز تقديمه عليه عند الحنفية، وإن قدمه لم يجزئه، وينبغي تحقيق الفرق بين وقت الوجوب، ووقت النحر، لأن وقت الوجوب إنما تظهر فائدته، فيما لو مات المحرم هل يخرج الهدي من تركته بعد موته، ويتعين به وقت ثبوت العذر المجيز للانتقال إلى الصوم، ولا يلزم من دخول وقت الوجوب، جواز الذبح.
ومن فوائد ذلك: أنه إن فاته الحج بعد وجوبه بالإحرام، عند من يقول بذلك، لا يتعين لزوم الدم. لأنه بفوات الحج انتفى عنه اسم المتمتع: فلا دم تمتع عليه، وإنما عليه دم الفوات. كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في وقت ذبح دم التمتع، والقران فدونك أدلتهم، ومناقشتها، وبيان الحق الذي يعضده الدليل منها.
اعلم: أن من قال بجوازه قبل يوم النحر: كالشافعية، وأبي الخطاب من الحنابلة، ورواية ضعيفة، عن أحمد: إن جاء به صاحبه قبل عشر ذي الحجة فقد احتجوا، واحتج لهم بأشياء. أما رواية أبي طالب عن أحمد: بجواز تقديم ذبحه، إن قدم به صاحبه، قبل العشر. فقد ذكرنا تضعيف صاحب الفروع لها، وبينا أنها لا مستند لها لأن مستندها مصلحة مرسلة مخالفة لسنة ثابتة.
وأما قول أبي الخطاب: إنه يجوز بإحرام العمرة، فلا مستند له من كتاب، ولا سنة ولا قياس. والظاهر: أنه يرى أن هدي التمتع له سببان، وهما العمرة والحج في تلك السنة، فإن أحرم بالعمرة انعقد السبب الأول في الجملة فجاز الإتيان بالمسبب، كوجوب قضاء الحائض أيام حيضها من رمضان، لأن انعقاد السبب الأول الذي هو وجود شهر رمضان كفى في وجوب الصوم، وإن لم تتوفر الأسباب الأخرى، ولم تنتف الموانع، لأن قضاء الصوم فرع عن وجوب سابق في الجملة، كما أوضحناه في غير هذا الموضع. ولا يخفى سقوط هذا، كما ترى. وأما الشافعية: فقد ذكروا لمذهبهم أدلة.
منها: أن هدي التمتع حق مالي، يجب بسببين: هما الحج، والعمرة.
فجاز تقديمه على أحدهما قياساً، على الزكاة بعد ملك النصاب، وقبل حلول الحول.
ومنها: قوله تعالى
{ { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196] قالوا: قوله { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } أي عليه ما استيسر من الهدي، وبمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعاً، فوجب حينئذ، لأنه معلق على التمتع: وقد وجد. قالوا: ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله كقوله تعالى { { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ } [البقرة: 187] فالصيام ينتهي بأول جزء من الليل، فكذلك التمتع، يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام.
ومنها: أن شروط التمتع وجدت عند الإحرام بالحج، فوجد التمتع، وذبح الهدي معلق على التمتع، وإذا حصل المعلق عليه حصل المعلق.
ومنها: أن الصوم الذي هو بدل الهدي عند العجز عنه، يجوز تقديم بعضه على يوم النحر، وهو الأيام الثلاثة المذكورة في قوله
{ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ } [البقرة: 196] الآية وتقديم البدل، يدل على تقديم المبدل منه.
ومنها: أنه دم جبران، فجاز بعد وجوبه قبل يوم النحر كدم فدية الطيب واللباس.
ومنها: ظواهر بعض الأحاديث التي قد يفهم منها الذبح قبل يوم النحر، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه في باب الاشتراك في الهدي.
وحدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج،
"أخبرنا: أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبدالله يحدث عن حجة النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي، ويجتمع النفر منا في الهدية" وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث. انتهى بلفظه من صحيح مسلم. وقال النووي في شرحه لهذا الحديث: وفيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع، بعد التحلل من العمرة، وقبل الإحرام بالحج. وفي المسألة خلاف، وتفصيل إلى آخر كلام النووي.
ومن ذلك أيضاً ما رواه الحاكم في المستدرك: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم، ثنا أحمد بن النضر بن عبد الوهاب، ثنا يحيى بن أيوب، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي عن محمد بن إسحاق، ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وعطاء، عن جابر بن عبدالله، قال: كثرت القالة من الناس، فخرجنا حجاماً، حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل، أمرنا بالإحلال الحديث. وفيه: قال عطاء قال ابن عباس رضي الله عنهما
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنماً فأصاب سعدَ بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت يدي ناقته فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم اصرخ أيها الناس، هل تدرون أي شهر هذا" إلى آخر الحديث، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وفيه ألفاظ من ألفاظ حديث جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن جابر أيضاً، وفيه أيضاً زيادة ألفاظ كثيرة ا هـ. وأقره الحافظ الذهبي على تصحيح الحديث المذكور، وقوله في هذا الحديث "فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه فلما وقف بعرفة" إلخ. قد يتوهم منه، أن ذبح سعد لتيسه كان قبل الوقوف بعرفة.
هذا هو حاصل ما استدل به القائلون بجواز ذبح هدي التمتع قبل يوم النحر، وغيره مما زعموه أدلة تركناه لوضوح سقوطه، ولأنه لا يحتاج في سقوطه، إلى دليل.
وأما الجمهور القائلون: بأنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران قبل يوم النحر فاستدلوا بأدلة واضحة، وأحاديث كثيرة صحيحة صريحة، في أن أول وقت نحر الهدي: هو يوم النحر، وكان صلى الله عليه وسلم قارناً كما قدمنا، ما يدل على الجزم بذلك، سواء قلنا: إنّه بدأ إحرامه، قارناً أو أدخل العمرة على الحج، وأن ذلك خاص به كما تقدم. وكانت أزواجه كلهن متمتعات كما هو ثابت في الأحاديث الصحيحة، إلا عائشة فإنها كانت قارنة على التحقيق كما قدمنا إيضاحه بالأدلة الصحيحة الصريحة، ولم ينحر عن نفسه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أزواجه، إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة، وكذلك كل من كان معه من المتمتعين، وهم أكثر أصحابه والقارنين الذين ساقوا الهدي، لم ينحر أحد منهم ألبتة، قبل يوم النحر، وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الراشدين، والمهاجرين، والأنصار، وعامة المسلمين فلم يثبت عن أحد من الصحابة، ولا من الخلفاء: أنه نحر هدي تمتعه، أو قرانه قبل يوم النحر البتة.
فإن قيل: فعله صلى الله عليه وسلم لا يتعين به الوجوب، لإمكان أن يكون سنة لا فرضاً، لأن الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصياً، فلا عموم له، ولذلك كانت أفعال هيئات صلاة الخوف كلها جائزة، ولم ينسخ الأخير منها الأول، وإذا فلا مانع من أن يكون هو ذبح يوم النحر مع جواز الذبح قبله.
فالجواب من وجهين، الأول: هو ما تقرر في الأصول، من أن فعله صلى الله عليه وسلم، إذا كان بياناً لنص فهو محمول على الوجوب، إن كان الفعل المبين واجباً كما أطبق عليه الأصوليون. وقد قدمنا إيضاحه فقطعه السارق من الكوع مبيناً به المراد من اليد في قوله
{ { فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38] يقتضي الوجوب، فلا يجوز لأحد القطع من غير الكوع، وأفعاله في جميع مناسك الحج مبينة للآيات الدالة على الحج، ومن ذلك الذبائح، وأوقاتها لأنها من جملة المناسك المذكورة في القرآن المبينة بالسنة. ولذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "لتأخذوا عني مناسككم" وإذاً يجب الاقتداء به في فعله في نوعه وزمانه، ومكانه ما لم يكن هنالك قول منه أعم من الفعل كبيانه أن عرفة كلها موقف، وأن مزدلفة كلها موقف، وأن منى كلها منحر، ونحو ذلك، فلا يختص الحكم بنفس محل موقفه أو نحره.
قال صاحب جمع الجوامع عاطفاً على ما تعرف به جهة فعله صلى الله عليه وسلم من وجوب أو ندب ما نصه: ووقوعه بياناً إلخ. يعني: أن وقوع الفعل بياناً لنص مجمل إن كان مدلول النص واجباً، فالفعل المبين به ذلك النص واجب بلا خلاف، وإن كان مندوباً فمندوب. سواء كان الفعل المبين النص، دل على كونه بياناً قرينة أو قول.
قال شارحه صاحب الضياء اللامع ما نصه: الثاني: أن يكون فعله بياناً لمجمل إما بقرينة حال مثل القطع من الكوع، فإنه بيان لقوله تعالى
{ { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38] وإما بقول مثل قوله "صلوا كما رأيتموني أصلي" فإن الصلاة فرضت على الجملة، ولم تبين صفاتها فبينها بفعله، وأخبر بقوله أن ذلك الفعل بيان، وكذا قوله "خذوا عني مناسككم" وحكم هذا القسم وجوب الاتباع. ا هـ محل الغرض منه، وهو واضح فيما ذكرنا ولا أعلم فيه خلافاً فجيمع أفعال الحج، والصلاة التي بين بها صلى الله عليه وسلم آيات الصلاة والحج يجب حمل كل شيء منها، على الوجوب إلا ما أخرجه دليل خاص يجب الرجوع إليه. وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي: مسألة فعله صلى الله عليه وسلم، ما وضح فيه أمر الجبلة، كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، أو تخصيصه، كالضحى، والوتر، والتهجد، والمشاورة، والتخيير، والوصال والزيادة على أربع فواضح، وما سواهما إن وضح أنه بيان بقول أو قرينة مثل: صلوا، وخذوا، وكالقطع من الكوع والغسل إلى المرافق، اعتبر اتفاقاً انتهى محل الغرض منه. ومعنى قوله: اعتبر اتفاقاً: أنه إن كان المبين باسم المفعول واجباً، فالفعل المبين باسم الفاعل واجب، لأن المبين بحسب المبين وقال شارحه العضد: فإن عرف أنه بيان لنص على جهته من الوجوب، والندب، والإباحة اعتبر على جهة المبين من كونه خاصاً وعاماً اتفاقاً، ومعرفة كونه بياناً إما بقول، وإما بقرينة، فالقول نحو "خذوا عني مناسككم" "وصلوا كما رأيتموني أصلي" والقرينة مثل: أن يقع الفعل، بعد إجمال، كقطع يد السارق من الكوع، دون المرفق، بإدخال المرافق، أو إخراجها بعد ما نزلت { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38] والغسل إلى المرافق، بإدخال المرافق، أو إخراجها بعد ما نزلت { فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } [المائدة: 6] ا هـ محل الغرض منه، وهو واضح فيما ذكرنا من أن الفعل المبين لنص دال على واجب، يكون واجباً لأن البيان به بيان لواجب، كما هو واضح. وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله:

من غير تخصيص وبالنص يرى وبالبيان وامتثال ظهرا

ومحل الشاهد منه قوله: وبالبيان وقال في شرحه نشر البنود في معنى قوله والبيان، فيكون حكمه حكم المبين ا هـ منه، وهو واضح، والمبين بصيغة اسم المفعول في آيات الحج، وهدي التمتع واجب، لأن الحج واجب إجماعاً، وهدي التمتع واجب إجماعاً، فالفعل المبين لهما يكون واجباً على ما قررناه، وعليه عامة أهل الأصول، إلا ما أخرجه دليل خاص وبه تعلم أن ذبحه صلى الله عليه وسلم هديه يوم النحر، وهو قارن وذبحه عن أزواجه يوم النحر، وهن متمتعات، وعن عائشة وهي قارنة: فعل مبين لنص واجب، فهو واجب، ولا تجوز مخالفته في نوع الفعل، ولا في زمانه، ولا في مكانه إلا فيما أخرجه دليل خاص، كغير المكان الذي ذبح فيه من منى، لأنه بين أن منى كلها منحر، ولم يبين أن الزمن كله وقت نحر، ومما يؤيد ذلك ما اختاره بعض أهل الأصول، من أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن بياناً لمجمل، ولم يعلم هل فعله على سبيل الوجوب، أو على سبيل الندب أنه يحمل على الوجوب، لأنه أحوط وأبعد من لحوق الإثم، إذ على احتمال الندب، والإباحة لا يقتضي ترك الفعل إثماً، وعلى احتمال الوجوب يقتضي الترك الإثم، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في مبحث أفعاله صلى الله عليه وسلم بقوله:

وكل ما الصفة فيه تجهل فللوجوب في الأصح يجعل

وقال في شرحه لمراقي السعود المسمى: نشر البنود: يعني أن ما كان من أفعاله صلى الله عليه وسلم مجهول الصفة: أي مجهول الحكم، فإنه يحمل على الوجوب إلى أن قال: وكونه للوجوب هو الأصح، وهو الذي ذهب إليه الإمام مالك، والأبهري وابن القصار وبعض الشافعية، وأكثر أصحابنا وبعض الحنفية، وبعض الحنابلة. ا هـ محل الغرض منه.
وقال صاحب الضياء اللامع: وبهذا قال مالك في رواية أبي الفرج، وابن خويز منداد وقال به الأبهري، وابن القصار، وأكثر أصحابنا، وبعض الشافعية، وبعض الحنفية، وبعض الحنابلة، وبعض المعتزلة. واستدل أهل هذا القول بأدلة.
منها قوله تعالى
{ { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ } [الأحزاب: 21] قالوا: معناه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فله فيه أسوه حسنة، ويستلزم أن من ليس له فيه أسوة حسنة، فهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وملزوم الحرام حرام ولازم الواجب واجب. وقالوا أيضاً: وهو مبالغة في التهديد، على عدم الأسوة فتكون الأسوة واجبة، ولا شك أن من الأسوة اتباعه في أفعاله.
ومنها: قوله تعالى:
{ { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [الحشر: 7] قالوا: وما فعله فقد آتاناه، لأنه هو المشرع لنا بأقواله وأفعاله. وتقريره.
ومنها: قوله تعالى:
{ { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران: 31] الآية. ومن اتباعه التأسي به في فعله، قالوا: وصيغة الأمر في قوله { فَٱتَّبِعُونِي } للوجوب.
ومنها: أن الصحابة لما اختلفوا، في وجوب الغسل من الوطء، بدون إنزال سألوا عائشة، فأخبرتهم أنها هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا ذلك، فاغتسلا فحملوا ذلك الفعل الذي هو الغسل، من الوطء، بدون إنزال على الوجوب.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه في الصلاة، خلعوا نعالهم، فلما سألهم: لم خلعوا نعالهم؟ قالوا: رأيناك خلعت نعليك، فخلعنا نعالنا، فحملوا مطلق فعله على الوجوب، فخلعوا لما خلع، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك قالوا: فلو كان الفعل الذي لم يعلم حكمه لا يدل على الوجوب، لبين لهم أنه لا يلزم من خلعه، أن يخلعوا، ولكنه أقرهم على خلع نعالهم، وأخبرهم أن جبريل أخبره: أَن في باطنهما قذراً والقصة في ذلك ثابتة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عند أحمد، وأبي داود، والحاكم وغيرهم. وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: رواه أبو داود بإسناد صحيح، ورواه الحاكم في المستدرك. قوال: هو صحيح على شرط مسلم، وقال الشوكاني في نيل الأوطار في شرحه لحديث أبي سعيد المذكور في المنتقى بعد أن قال المجد في المنتقى: رواه أحمد وأبو داود ا هـ الحديث: أخرجه أيضاً الحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان واختلف في وصله وإرساله ورجح أبو حاتم في العلل الموصول، ورواه الحاكم من حديث أنس، وابن مسعود إلى آخر كلامه. ومعلوم أن المخالفين القائلين: بأن الفعل الذي لم يكن بياناً لمجمل، ولم يعلم حكمه من وجوب لا يحمل على الوجوب، بل على الندب، أو الإباحة إلى آخر أقوالهم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا مناقشة معروفة في الأصول قالوا قوله
{ { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ } [الحشر: 7] أي ما أمركم به بدليل قوله { { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } [الحشر: 7] فهي في الأمر، والنهي لا في مطلق الفعل، ولا يخفى أن تخصيص: وما آتاكم، بالأمر تخصيص لا دليل عليه، وذكر النهي بعده لا يعينه وقالوا { { إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي } [آل عمران: 31] إنما يكون الاتباع واجباً فيما علم أنه واجب، أما إذا كان فعله مندوباً فالاتباع فيه مندوب، ولا يتعين أن الفعل واجب، على الأمة بالاتباع إلا إذا علم أنه صلى الله عليه وسلم، فعله على سبيل الوجوب. أما لو كان فعله على سبيل الندب وفعلته الأمة على سبيل الوجوب، فلم يتحقق الاتباع بذلك قالوا: وكذلك يقال في قوله تعالى { { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21] الآية فلا تتحقق الأسوة، إذا كان هو صلى الله عليه وسلم فعله، على سبيل الندب، وفعلته أمته على سبيل الوجوب، بل لا بد في الأسوة من علم جهة الفعل، الذي فيه التأسي قالوا: وخلعهم نعالهم لا دليل فيه، لأنه فعل داخل في نفس الصلاة: وإنما أخذوه من قوله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي" لأن خلع النعال كأنه في ذلك الوقت من هيئة أفعال الصلاة، قالوا: وإنما أخذوا وجوب الغسل من الفعل، الذي أخبرتهم به عائشة، لأنه صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وجوب الغسل من التقاء الختانين، أو لأنه فعل مبين لقوله { { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } [المائدة: 6] والفعل المبين لإحمال النص، لا خلاف فيه كما تقدم إيضاحه. قالوا: والاحتياط في مثل هذا: لا يلزم، لأن الاحتياط لا يلزم إلا فيما ثبت وجوبه أو كان وجوبه، هو الأصل كليلة الثلاثين من رمضان، إن حصل غيم يمنع رؤية الهلال عادة أما غير ذلك، فلا يلزم فيه الاحتياط، كما لو حصل الغيم المانع من رؤية هلال رمضان ليلة ثلاثين من شعبان: فلا يجوز صوم يوم الشك، ولا يحتاط فيه، لأنه لم يثبت له وجوب ولم يكن وجوبه هو الأصل إلى آخر أدلتهم ومناقشاتها. فلم نطل بجميعها الكلام، ولاشك: أن الأدلة التي ذكرها الفريق الأول كقوله { { فَٱتَّبِعُونِي } [آل عمران: 31] وقوله { { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ } [الحشر: 7] الآية وقوله { { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21] الآية وإن لم تكن مقنعة بنفسها في الموضوع، فلا تقل عن أن تكون عاضدة لما قدمنا من وجوب الفعل الواقع به البيان، وما سنذكره من غير ذلك وهو الوجه الثاني من وجهي الجواب اللذين ذكرنا: وهو أن ذلك الفعل الذي هو ذبح هدي التمتع، والقران يوم النحر، هو الذي مشى عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. ودلت عليه الأحاديث ولن يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها، ومن أوضح الأدلة الثابتة في ذلك الأحاديث المتفق عليها التي لا مطعن فيها بوجه أنه صلى الله عليه وسلم، أمر أصحابه بفسخ حجهم في عمرة، وأن يحلوا منها الحل كله، ثم يحرموا بالحج، وتأسف على أنه لم يفعل مثل فعلهم وقال "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" وفي تلك النصوص الصحيحة: التصريح بأمرهم بفسخ الحج في العمرة ومعناه: أنه هو صلى الله عليه وسلم، يجوز له أن يفسخ الحج في العمرة، كما أمر أصحابه بذلك. وقد صرح في الأحاديث الصحيحة، بأن الذي منعه من ذلك. أنه ساق الهدي، فلو كان هدي التمتع يجوز ذبحه بعد الإحلال من العمرة لجعل الحج عمرة، وأحل منها، ونحر الهدي بعد الإحلال منها. ولكن المانع الذي منع من ذلك هو عدم جواز النحر في ذلك الوقت. والحلق الذي لا يصح الإحلال دونه، معلق على بلوغ الهدي محله كما قال { { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [البقرة: 196] وقد بين صلى الله عليه وسلم بفعله الثابت عنه أن محله: منى يوم النحر. وقد قدمنا في سورة البقرة: أن القرآن دل في موضعين، على أن النحر قبل الحلق.
أحدهما: قوله تعالى { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ }.
والثاني: قوله تعالى { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } وقد قدمنا أنه التسمية عند نحرها تقرباً لله، ثم قال بعد النحر الذي هو معنى الآية
{ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } [الحج: 29] ومن قضاء تفثهم: الحلق، أو التقصير. وقد ثبت في الصحيح "أنه صلى الله عليه وسلم حلق قبل أن ينحر وأمر بذلك" كما قدمناه في سورة البقرة مستوفى، ولكنه صلى الله عليه وسلم بين أن من قدم الحلق، على النحر: لا شيء عليه. ولا خلاف أن كل الواقع من ذلك في حجته، أنه كان يوم النحر كما هو معروف. وقد دلت آية الحج على أن كل هدي له تعلق بالحج، ويدخل فيه التمتع دخولاً أولياً أن وقت ذبحه مخصص بأيام معلومات، دون غيرها من الأيام، وذلك في قوله تعالى { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } لأن معنى الآية الكريمة: أذن فيهم بالحج، يأتوك مشاة، وركباناً لأجل أن يشهدوا منافع لهم، ولأجل أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام: أي ولأجل أن يتقربوا بدماء الأنعام في خصوص تلك الأيام المعلومات وهو واضح كما ترى. وقد قدمنا أن هذه الأنعام التي يتقرب بها في هذه الأيام المعلومات، ويسمى عليها الله عند تذكيتها، أنها أظهر في الهدايا من الضحايا، لأن الضحايا لا تحتاج أن يؤذن فيها للمضحين، ليأتوا رجالاً وركباناً، ويذبحوا ضحاياهم كما ترى، والأحاديث الصحيحة الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً ونحر هديه يوم النحر، وأنه ما منعه من فسخ الحج في العمرة إلا سوق الهدي، وأن الهدي لو كان يجوز ذبحه بعد الإحلال من العمرة، لأحل بعمرة، وذبح هدي التمتع عند الإحلال منها، أو عند الإحرام بالحج كما يقول من ذكرنا: أنه جائز، وقد قدمنا كثيراً منها موضحاً بأسانيده، وسنعيد طرفاً منه هنا إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك حديث حفصة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم المتفق عليه قال البخاري في صحيحه: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع عن ابن عمر
"عن حفصة رضي الله عنها زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تتحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحره" ا هـ من صحيح البخاري، وقوله: حتى أنحر يعني يوم النحر، فلو جاز نحر هدي التمتع قبل ذلك، لأحل بعمرة، ونحر.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن عبدالله بن عمر
"أن حفصة رضي الله عنهم، زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر" وفي لفظ له عنها قالت قال "إني قلدت هديي فلا أحل حتى أحل من الحج" وفي لفظ له عنها "أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، قالت حفصة: قلت ما يمنعك أن تحل؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر هديي" ا هـ.
ففي هذه الروايات الصحيحة ما يدل على أن الهدي الذي معه مانع من الحل، ولو كان النحر قبل يوم النحر جائزاً لتحلل بعمرة ثم نحر، وفيه أن أزواجه صلى الله عليه وسلم متمتعات، وقد نحر عنهن البقر يوم النحر.
قال البخاريرحمه الله في صحيحه: حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد،
"عن عمرة بنت عبدالرحمن قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة، لا نرى إلا الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل. قالت: فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه" قال يحيى: فذكرته للقاسم بن محمد فقال: أتتك بالحديث على وجهه، انتهى من صحيح البخاري.
وقال مسلمرحمه الله في صحيحه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير عن جابر قال
"ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عائشة بقرة يوم النحر" وفي لفظ لمسلم، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال "نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه" وفي حديث أبي بكر عن عائشة بقرة في حجته. انتهى من صحيح مسلم، وقد تركنا ذكر اختلاف الروايات، هل ذبح عن جميعهن بقرة واحدة، أو عن كل واحدة بقرة، كما جاء التصريح به في حديث مسلم، هذا بالنسبة إلى عائشة، وعلى كل حال فهذه الروايات الصحيحة، وأمثالها الكثيرة التي قدمنا كثيراً منها: تدل على أنه صلى الله عليه وسلم نحر عمن تمتع من أزواجه، ومن قرن في خصوص يوم النحر، وأنه هو صلى الله عليه وسلم كذلك فعل عن نفسه، وكان قارناً مع أنه كان يتمنى أن يعتمر، ويحل منها، ثم يحرم بالحج، كما أمر أصحابه بفعل ذلك، وصرح في الروايات الصحيحة: بأن المانع له من ذلك سوق الهدي، فلو كان الهدي يجوز نحره قبل يوم النحر لتحلل ونحر كما أوضحناه، وفعله هذا كالتفسير لقوله تعالى { { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [البقرة: 196] فبين بفعله: أن بلوغه محله يوم النحر بمنى، بعد رمي جمرة العقبة، فمن أجاز ذبح هدي التمتع قبل ذلك، فقد خالف فعله صلى الله عليه وسلم المبين لإجمال القرآن، وخالف ما كان عليه أصحابه من بعده وجرى عليه عمل عامة المسلمين، ولا يثبت بنص صحيح عن صحابي واحد أنه نحر هدي تمتع أو قران قبل يوم النحر، فلا يجوز العدول عن هذا الذي فعله صلى الله عليه وسلم مبيناً به إجمال الآيات القرآنية، وأكده بقوله "لتأخذوا عني مناسككم" كما ترى.
فإذا عرفت مما ذكرنا: أن الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة، وفعل الخلفاء الراشدين، وغيرهم من كافة علماء المسلمين: هو أنه لا يجوز نحر هدي التمتع والقران، قبل يوم النحر. فدونك الأجوبة التي أجيب بها عن أدلة المخالفين القائلين: بجواز ذبحه عند إحرام الحج، أو عند الإحلال من العمرة.
أما استدلالهم بأن هدي التمتع له سببان، فجاز بأحدهما قياساً على الزكاة، بعد ملك النصاب، وقبل حلول الحول فهو مردود بكونه فاسد الاعتبار، وفساد الاعتبار من القوادح المجمع على القدح بها، وهو بالنسبة إلى القياس أن يكون القياس مخالفاً لنص من كتاب، أو سنة، أو إجماع، وهذا القياس مخالف للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم التي هي النحر يوم النحر، كما قدمنا إيضاحه، وعرف في مراقي السعود فساد الاعتبار بقوله في مبحث القوادح.

والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى

واستدلالهم بأن شروط التمتع وجدت عند الإحرام بالحج، فوجد التمتع بوجود شروطه، وذبح الهدي معلق على وجود التمتع في الآية. وإذا حصل المعلق عليه، حصل المعلق مردود من وجهين:
الأول: أن وجود التمتع لم يحقق بإحرام الحج، لاحتمال أن يفوته الحج بسبب عائق عن الوقوف بعرفة وقته، لأنه لو فاته الحج، لم يوجد منه التمتع، فدل ذلك على أن الإحرام بالحج لا يتحقق به وجود حقيقة التمتع التي علق على وجوده ما استيسر من الهدي.
الثاني: أن الهدي الواجب بالتمتع له محل معين، لا بد من بلوغه في زمن معين، كما دل عليه قوله تعالى:
{ { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [البقرة: 196]. وقد بين صلى الله عليه وسلم بفعله الثابت ثبوتاً لا مطعن فيه. وقوله "إني لبدت رأسي وقلدت هديي" الحديث المتقدم: أن محله هو منى يوم النحر كما تقدم إيضاحه، واستدلالهم بأن الصوم الذي هو بدل الهدي، عند العجز عنه يجوز تقديم بعضه على يوم النحر، وهو الأيام الثلاثة المذكورة في قوله { { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ } [البقرة: 196] فجاز تقديم الهدي على يوم النحر، قياساً على بدله مردود من وجهين:
الأول: أنه قياس مخالف لسنة النَّبي صلى الله عليه وسلم التي فعلها مبيناً بها القرآن. وقال:
"لتأخذوا عني مناسككم" فهو قياس فاسد الاعتبار، كما قدمنا إيضاحه قريباً.
الوجه الثاني: أنه قياس مع وجود فوارق تمنع من إلحاق الفرع بالأصل.
منها: أن الهدي يترتب على ذبحه قضاء التفث، كما يدل عليه قوله في ذبح الهدايا: { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } ثم رتب على ذلك قوله تعالى:
{ { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } [الحج: 29] وهذا الحكم الموجود في الأصل منتف عن الفرع، لأن الصوم لا يترتب عليه قضاء تفث.
ومنها: أن الهدي يختص بمكان، وهذا الوصف منتف عن الفرع، وهو الصوم، فإنه لا يختص بمكان.
ومنها: أن الصوم إنما يؤدي جزؤه الأكبر بعد الرجوع إلى الأهل في قوله تعالى:
{ { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [البقرة: 196] وهذا منتف عن الأصل الذي هو الهدي، فلا يفعل منه شيء بعد الرجوع إلى الأهل كما ترى.
واستدلالهم: بأنه دم جبران، فجاز بعد وجوبه قبل يوم النحر قياساً على فدية الطيب واللباس مردود من وجهين أيضاً.
اعلم أولاً: أنا قدمنا أقوال أهل العلم، ومناقشة أدلتهم مناقشة دقيقة في هدي التمتع هل هو دم جبران، أو دم النسك كالأضحية؟ فعلى: أنه دم نسك فسقوط الاستدلال المذكور واضح، وعلى: أنه دم جبران، فقياسه على فدية الطيب واللباس يمنعه أمران.
الأول: أنه قياس فاسد الاعتبار لمخالفته السنة الثابتة، عنه صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه لم يثبت نص صحيح من كتاب، ولا سنة على وجوب الهدي في الطيب واللباس، حتى يقاس عليه هدي التمتع، والعلماء إنما أوجبوا الفدية في الطيب، واللباس قياساً على الحلق المنصوص في آية الفدية، والقياس على حكم مثبت بالقياس فيه خلاف معروف بين أهل الأصول. فذهبت جماعة منهم إلى أن حكم الأصل المقيس عليه، لا بد أن يكون ثابتاً بنص، أو اتفاق الخصمين. وذهب آخرون إلى جواز القياس على الحكم الثابت بالقياس، كأن تقول هنا: من لبس أو تطيب في إحرامه، لزمته فدية الأذى، قياساً على الحلق المنصوص عليه في قوله تعالى
{ { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } [البقرة: 196] الآية بجامع ارتكاب المحظور، ثم تقول: ثبت بهذا القياس أن في الطيب واللباس، فدية فتجعل الطيب واللباس الثابت حكمهما بالقياس أصلاً ثانياً، فتقيس عليهما هدي التمتع في جواز التقديم بجامع أن الكل دم جبران، وكأن تقول: يحرم الربا في الذرة، قياساً على البر بجامع الاقتيات، والادخار، أو الكيل مثلاً ثم تقول: ثبت تحريم الربا في الربا في الذرة بالقياس على البر، فتجعل الذرة أصلاً ثانياً، فتقيس عليها الأرز، ونحو ذلك فعلى أن مثل هذا لا يصح به القياس، فسقوط الاستدلال المذكور واضح وعلى القول بصحة القياس عليه، وهو الذي درج عليه في مراقي السعود بقوله:

وحكم الأصل قد يكون ملحقاً لما من اعتبار الأدنى حققا

فهو قياس مختلف في صحته أصلاً، وهو فاسد الاعتبار أيضاً، لمخالفته لسنته صلى الله عليه وسلم.
واستدلالهم بقوله تعالى:
{ { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196] قائلين: إنه بمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعاً، فيجب الهدي بإحرام الحج، لأن اسم التمتع يحصل به، والهدي معلق عليه قالوا: ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله كقوله تعالى { { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ } [البقرة: 187] مردود أيضاً.
أما كون التمتع يوجد بإحرام الحج، والهدي معلق عليه فيلزم وجوده بوجوده، فقد بينا رده من وجهين بإيضاح قريباً فأغنى عن إعادته هنا.
وقولهم: إن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله يعنون أن قوله تعالى:
{ { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ } [البقرة: 196] جعل فيه الحج غاية بحرف الغاية الذي هو إلى، فيجب تعلق الحكم الذي هو ذبح الهدي بأول الغاية، وهو الحج وأوله الإحرام، فيجب الذبح بالإحرام كقوله: { { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ } [البقرة: 187] فإن حكم إتمام الصيام ينتهي بأول جزء من الليل، الذي هو الغاية لإتمامه مردود من وجهين.
الأول: أن هذا غير مطرد، فلا يلزم تعلق الحكم بأول ما جعل غاية.
ومن النصوص التي لم يتعلق الحكم فيها بأول ما جعل غاية قوله تعالى:
{ { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [البقرة: 230] فنكاحها زوجاً غيره جعل غاية لعدم حليتها له، مع أن أول هذه الغاية الذي هو عقد النكاح، لا يتعلق به الحكم، بل لا بد من بلوغ آخر الغاية: وهو الجماع، ولذا قال صلى الله عليه وسلم "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" فعلم أن التعلق بأول الغاية: لا يلزم على كل حال.
الوجه الثاني: أن سنة النَّبي الثابتة عنه من فعله، ومفهوم قوله: بينت أن هذا الحكم، لا يتعلق بأول الغاية، وإنما يتعلق بآخرها وهو الإحلال الأول: لأنه لم ينحر هدي تمتع، ولا قران إلا بعد رمي جمرة العقبة، وفعله فيه البيان الكافي للمراد من الغاية التي يترتب عليها
{ { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196] والله يقول { { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ } [الأحزاب: 21] الآية ففعله مبين لقوله { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } لأنه ذبح عن أزواجه المتمتعات يوم النحر، وأمر أصحابه المتمتعين بذلك، وخير ما يبين به القرآن بعد القرآن السنة، والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم { { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44] الآية، وهو صلى الله عليه وسلم يبين المناسك بأفعاله، موضحاً بذلك المراد من القرآن، ويقول: "لتأخذوا عني مناسككم" .
الثالث: أنه لو جاز له ذبحه قبل يوم النحر، لجاز الحلق قبل يوم النحر، وذلك باطل فالحلق لا يجوز، حتى يبلغ الهدي محله. كما هو صريح القرآن، والحلق لم يجز قبل يوم النحر، فالهدي لم يبلغ محله قبل يوم النحر، وهو واضح كما ترى، ولذا لم يأذن صلى الله عليه وسلم في حجته، لمن ساق هدياً أن يحل ويحلق، وإنما أمر بفسخ الحج في العمرة من لم يسق هدياً، ولا شك أن ذلك عمل منه بقوله تعالى: { { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [البقرة: 196].
واستدلالهم بحديث جابر المتقدم عند مسلم قال:
"فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية" وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم مردود بالقادح المسمى في اصطلاح أهل الأصول بالقلب، لأن حديث جابر المذكور حجة عليهم، لا لهم وذلك هو عين القلب وإيضاحه أن لفظ الحديث "وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم" والإشارة في قوله: وذلك راجعة إلى الأمر بالهدية، والاشتراك فيها، والحديث صريح في أن ذلك حين إحلالهم من حجهم. وذلك إنما وقع يوم النحر، لأنه لا إحلال من حج ألبتة قبل يوم النحر.
والغريب من الشيخ النووي أنه قال في حديث جابر هذا: وفيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة، وقبل الإحرام بالحج، لأن لفظ الحديث مصرح بأن ذلك عند الأمر بالإحلال من الحج، وهو يستدل به على وقوعه قبل الإحرام بالحج.
والظاهر أن هذا سهو منه أو أنه ذهب ذهنه إلى أنه أمرهم بذلك حين تحللهم من العمرة، وظن أن اسم الحج لا ينافي ذلك. لأن أصل الإحرام بالحج، ففسخوه في عمرة، فلما أحلوا منها صاروا كأنهم محلون من الحج الذي فسخوه فيها، وهذا محتمل ولكنه بعيد جداً من ظاهر اللفظ لأن الحج الذي أحرموا به لما فسخوه في عمرة زال اسمه بالكلية، وصار الإحلال من عمرة لا من حج كما ترى، فحمل لفظ الإحلال من الحج على الإحلال من العمرة حمل للفظ الحديث، على ما لا يدل عليه بحسب الوضع العربي من غير دليل يجب الرجوع إليه.
ولو سلمنا جدلياً: أن المراد في حديث جابر المذكور بالإحلال من الحج: هو الإحلال من العمرة التي فسخوا فيها الحج كما هو رأي النووي، فلا دليل في الحديث أيضاً، لأن غاية ما دل عليه الحديث على التفسير المذكور: أنه أمرهم عند الإحلال من العمرة بالهدي وذلك لا يستلزم أنهم ذبحوه في ذلك الوقت، بل الأحاديث الصحيحة الكثيرة الدالة على أنهم لم يذبحوا شيئاً من هداياهم، قبل يوم النحر، كما تقدم إيضاحه.
واستدلالهم بحديث ابن عباس المتقدم عند الحاكم
"أنه صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنماً فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة" إلى آخر الحديث المتقدم، لا دليل فيه، لأنه محمول على أنه لم يذبحه إلا يوم النحر، كما فعل جميع الصحابة. وجاء في مسند الإمام أحمد التصريح بذلك فصارت رواية أحمد المصرحة، بأن ذلك وقع يوم النحر مفسرة لرواية الحاكم.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد ما نصه: باب تفرقة الهدي عن ابن عباس رضي الله عنهما
"أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قسم غنماً يوم النحر في أصحابه وقال: اذبحوا لعمرتكم فإنها تجزئ عنكم فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس" رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. ا هـ منه.
وهذه الرواية الصحيحة مبينة أن ذبحهم عن عمرتهم، إنما كان يوم النحر، وأن ذلك هو المراد في الرواية التي رواها الحاكم، لأن الروايات يفسر بعضها بعضاً، كما هو معلوم في علم الحديث والأصول، ولقد صدق الهيثمي في أن رجاله رجال الصحيح، لأن أحمد رواه عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور أبي محمد مولى سليمان بن مجالد، وهو ترمذي الأصل سكن بغداد ثم تحول إلى المصيصة، أخرج له الجميع. وقال فيه ابن حجر في التقريب: ثقة ثبت، لكنه اختلط في آخر عمره، لما قدم بغداد قبل موته وقال فيه في تهذيب التهذيب بعد أن ذكر ثناء عليه كثيراً من نقاد رجال الحديث: كان ثقة صدوقاً إن شاء الله، وكان قد تغير في آخر عمره حين رجع إلى بغداد. والظاهر أن الإمام أحمد إنما أخذ عنه قبل اختلاطه لأنه كان في بغداد قبل المصيصة، ثم رجع من المصيصة إلى بغداد في حاجة له، فمات بها واختلاطه في رجوعه الأخير كما يعلمه من نظر ترجمته في كتب الرجال، وحجاج المذكور رواه عن عبدالملك بن عبد العزيز بن جريج، وقد أخر له الجميع وهو ثقة فقيه فاضل معروف وكان يدلس ويرسل، ولكنه في هذا الحديث صرح بالإخبار عن عكرمة، عن ابن عباس وراوي الحديث عن أحمد ابنه، عبدالله وجلالته معروفة، فظهر صحة الإسناد المذكور كما قاله في مجمع الزوائد، والعلم عند الله تعالى وقد رأيت مما ذكرنا أدلة من قال: بجواز ذبح هدي التمتع عند الإحرام بالحج، ومن قال: بجوازه عند الفراغ من العمرة، وأدلة من قال: لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ومناقشتها.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي والله أعلم: أنه لا يجوز ذبح هدي التمتع، والقران قبل يوم النحر لأدلة متعددة، أوضحناها غاية الإيضاح قريباً.
منها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل فلم يذبح، عن أزواجه المتمتعات ولاَ عَنْ عائشة القارنة إلا يوم النحر، وكذلك فعل وهو وجميع أصحابه المتمتعين بأمره، واستمر على ذلك عمل الأمة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. وقد أمرنا أن نأخذ عنه مناسكنا، ومن مناسكنا: وقت ذبح الهدايا، ولا شك أن القرآن العظيم دل على أن كل هدي له تعلق بالحج أن ذبحه في أيام معلومات، لا في أيام مجهولات كما أوضحناه مراراً لأنه تعالى قال { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } لأن مضمون الآية الكريمة: أذن فيهم بالحج يأتوك حجاجاً مشاة وركباناً، لأجل أن يشهدوا منافع لهم، ولأجل أن يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام: أي وليتقربوا إلى الله بدماء ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ذاكرين اسم الله عليها عند التذكية.
فقد صرح بأن ذلك التقرب بدماء الأنعام الذي هو من جملة ما دعوا إلى الحج من أجله، أنه في أيام معلومات لا في زمن مطلق مجهول كما ترى.
وقد بينا الأيام المعلومات في أول هذا البحث، وقد بين صلى الله عليه وسلم أول وقتها، فذكر اسم الله على ما رزقه من بهيمة الأنعام: وقت تذكيتها يوم النحر، ويوضح أن ذكر اسم الله عليها إنما هو عند تذكيتها تقرباً لله تعالى بدمائها قوله تعالى
{ { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ } [الحج: 36] أي ذكوها قائمة صواف على ثلاثة أرجل كما هو معلوم.
ولا شك أن الله جل وعلا في محكم كتابه بين أن الهدي له محل معروف لا يجوز التحلل بحلق الرأس، قبل بلوغه إياه، وذلك في قوله
{ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [البقرة: 196]، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن فيها: أنه صلى الله عليه وسلم أمر من لم يسق هدياً من أصحابه بفسخ حجه في عمرة، والإحلال من العمرة، وتأسف هو صلى الله عليه وسلم أنه لم يفعل ذلك وقال "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" .
ولا شك أن المانع له من فسخ الحج في العمرة أنه لا يمكنه التحلل، وحلق الرأس، حتى يبلغ الهدي محله.
ومن الضروري البديهي أن هدي التمتع، لو كان يجوز ذبحه عند الإحلال من العمرة، أو الإحرام بالحج أنه صلى الله عليه وسلم يتحلل بعمرة، ويذبح هديه عندما تحلل منها، فيكون متمتعاً ذابحاً عند الفراغ من العمرة، أو عند الإحرام بالحج، فلما صرح بامتناع هذا وعلله بأنه قلد هديه، وعلم أنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر كما هو واضح.
وقد أوضحنا أن جميع أفعاله في الحج، ويدخل فيها الذبح ووقته كلها بيان لإجمال آيات القرآن كقوله
{ { حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [البقرة: 196] وقوله { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } كما أنه بيان لقوله { { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [آل عمران: 97] الآية. ولذا قال صلى الله عليه وسلم مبيناً: أن أفعاله في الحج، بيان للقرآن "لتأخذوا عني مناسككم" وقد قدمنا اتفاق الأصوليين، على أن فعله صلى الله عليه وسلم الذي هو بيان لإجمال نص يقتضي الوجوب: أنه واجب إلى آخر ما قدمناه من الأدلة.
وقد علمت مما ذكرنا أن القائلين بجواز ذبح هدي التمتع عند الإحرام بالحج، أو بعد الفراغ من العمرة كالشافعية وأبي الخطاب من الحنابلة، ليس معهم حجة واضحة من كتاب الله، ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا فعل أحد من الصحابة وأن تمسكهم بآية
{ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ } [البقرة: 196] وبعض الأحاديث ليس في شيء منه حجة ناهضة، يجب الرجوع إليها، هذا ما ظهر لنا في هذه المسألة، العلم عند الله تعالى.
تنبيه
اعلم أن ما يفعله كثير من الحجاج الذين يزعمون التقرب بالهدي، يوم النحر من ذبح الغنم في أماكن متفرقة من منى لا يقدر الفقراء على الوصول إليها، والتمكن منها، وتركها مذبوحة ليس بقربها فقير ينتفع بها، وتضيع تلك الغنم بكثرة وتنتفخ وينتشر نتن ريحها في أقطار منى، حتى يعم أرجاءها النتن كأنه نتن الجيف أن كل ذلك لا يجوز وهو إلى المعصية أقرب منه إلى الطاعة. ولا يجوز لمن بسط الله يده إقرارهم على ذلك، لأنه فساد وأذية لسائر الحجاج بالأرواح المنتنة، وإضاعة للمال، وإفساد له باسم التقرب إلى الله، ودواء ذلك الداء المنتشر في منى كل سنة أن يعلم كل مهد وكل مضح: أنه يلزمه إيصال لحم ما يتقرب به إلى الفقراء، فعليه إذا ذبحها أن يؤجر من يسلخها طرية حين ذبحها أو يسلخها هو، ويحملها بنفسه أو بأجرة، حتى يوصلها إلى المستحقين، لأن الله يقول { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ } [الحج: 28] ويقول
{ { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ } [الحج: 36] ولا يمكنه إطعام أحد ممن أمره الله بإطعامهم إلا بإيصال ذلك إليهم، ولو اجتهد في إيصاله إليهم، لأمكنه ذلك لأنه قادر عليه وعلى من بسط الله يده، أن يعين الحجاج المتقربين بالدماء على طريق الإيصال إلى الفقراء بالطرق الكفيلة بتيسير ذلك كتهيئة عدد ضخم من العاملين للإيجار يوم النحر على سلخ الهدايا والضحايا طرية، وحمل لحومها إلى الفقراء في أماكنهم، وكتعدد مواضع الذبح في أرجاء منى، وفجاج مكة، ونحو ذلك من الطرق المعينة على إيصال الحقوق لمستحقيها.
واعلم: أن التحقيق أن فقراء الحرم هم الموجودون فيه وقت نحر الهدايا من الآفاقيين، وحاضري المسجد الحرام، فإن ذبح في موضع فيه فقراء، وخلى بينهم وبين الذبيحة أجزأه ذلك لأنه يسر لهم الأكل منها بطريق لا كلفة عليهم فيها، فكأنه أطعمهم بالفعل، والعلم عند الله تعالى.
ومعلوم أن المتمتع إذا لم يجد هدياً أنه ينتقل إلى الصوم كما قال تعالى
{ { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [البقرة: 196].
وأظهر قولي أهل العلم عندي أن معنى قوله في الحج: أي في حالة التلبس بإِحرام الحج، لأن الظاهر من اسم الحج هو الدخول في نفس الحج، وذلك بالإحرام وقال بعض أهل العلم: المراد بالحج أشهره، واستدل بقوله تعالى
{ { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } [البقرة: 197] ولا دليل في الآية عندي، لأن الكلام على حذف مضاف: أي زمن الحج أشهر معلومات. وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أسلوب عربي كما أشار له في الخلاصة بقوله:

وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا

وعليه فينبغي أن يحرم بحجه، قبل يوم التروية ليتم الثلاثة. قبل يوم النحر لأن صومه لا يجوز. وكره بعض أهل العلم للحاج صوم يوم عرفة، واستحب أن يفرغ من صوم الثلاثة قبله، وجزم به صاحب المهذب والتحقيق: أن السبعة إنما يصومها بعد الرجوع إلى أهله، ووصوله إلى بلده، وأنه ليس المراد أنه يصومها في طريقه في رجوعه. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر: أن المراد الرجوع إلى أهله وهو ظاهر القرآن. فلا يجوز العدول عنه. والظاهر أن الأيام الثلاثة والأيام السبعة: لا يجب التتابع في واحد منهما، لعدم الدليل على ذلك قال في المغني: ولا نعلم فيه خلافاً، وإن فاته صومها قبل يوم النحر، فهل يجوز له أن يصوم أيام التشريق الثلاثة؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
أحدهما: أنه لا يجوز صوم أيام التشريق للمتمتع.
والثاني: يجوز له صومها، وفيها قول ثالث: أنها يجوز صومها مطلقاً، ولا يخفى بعد هذا القول وسقوطه. أما حجة من قال: إنها لا يجوز صومها للمتمتع، ولا غيره فهو ما رواه مسلم في صحيحه. وحدثنا سريج بن يونس، حدثنا هشيم، أخبرنا خالد، عن أبي المليح، عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"أيام التشريق أيام أكل وشرب" وفي لفظ عند مسلم عنه زيادة "وذكر الله" .
وقال مسلم في صحيحه أيضاً: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه أنه حدثه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق، فنادى: أنه لا يدخل الجنة، إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب وفي لفظ عند مسلم: فناديا" ا هـ منه قالوا: فهذا الحديث الصحيح الذي رواه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم صحابيان: هما كعب بن مالك، ونبيشة بن عبدالله الهذلي، فيه التصريح من النَّبي صلى الله عليه وسلم بأن أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذلك يدل على أنها لا يجوز صومها. وظاهر الحديث الإطلاق في المتمتع وغيره. وفي الحديث المذكور: الرد على من أجاز صومها مطلقاً، ومما يؤيد ذلك حديث عمرو بن العاص أنه قال لابنه عبدالله في أيام التشريق: إنها الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومهن، وأمر بفطرهن. قال ابن حجر في الفتح: أخرجه أبو داود، وابن المنذر وصححه ابن خزيمة والحاكم.
وأما حجة من قال بجواز صوم أيام التشريق الثلاثة للمتمتع الذي فاته صومها قبل يوم النحر، فهي ما رواه البخاري في صحيحه قال: باب صيام أيام التشريق، قال أبو عبدالله: قال لي محمد بن المثنى: حدثنا يحيى، عن هشام قال: أخبرني أبي كانت عائشة رضي الله عنها تصوم أيام منى، وكان أبوه يصومها.
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة: سمعت عبدالله بن عيسى عن الزهري عن عروة، عن عائشة، وعن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهم قالا: لم يرخص في أيام التشريق، أن يصمن، إلا لمن لم يجد الهدي. انتهى منه قالوا: فهذا الحديث له حكم الرفع وفيه التصريح بالترخيص في صوم أيام التشريق للمتمتع، الذي لم يجد هدياً، والروايات الصحيحة التي رواها الحفاظ من أصحاب شعبة، لم يرخص بضم الياء وفتح الخاء مبنياً للمفعول.
قال في الفتح: ووقع في رواية يحيى بن سلام عن شعبة عند الدارقطني، واللفظ له، والطحاوي: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق، وقال: إن يحيى بن سلام، ليس بالقوي، ولم يذكر طريق عائشة، وأخرجه من وجه آخر ضعيف عن الزهري، عن عروة عن عائشة، وإذا لم تصح هذه الطرق المصرحة بالرفع، بقي الأمر على الاحتمال.
وقد اختلف علماء الحديث في قول الصحابي: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، هل له حكم الرفع؟ على أقوال:
ثالثها: إن أضافه إلى عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع، وإلا فلا.
واختلف في الترجيح فيما إذا لم يضفه، ويلتحق به رخص لنا في كذا وعزم علينا ألا نفعل كذا كل في الحكم سواء، فمن يقول: إن له حكم الرفع فغاية ما وقع في رواية يحيى بن سلام، أنه روى بالمعنى. لكن قال الطحاوي: إن قول ابن عمر وعائشة أخذاه من عموم قوله تعالى
{ { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ } [البقرة: 196] لأن قوله: في الحج يعم ما قبل النحر، وما بعده، فتدخل أيام التشريق فعلى هذا، فليس بمرفوع بل هو بطريق الاستنباط منهما، عما فهماه من عموم الآية. وقد ثبت نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق، وهو عام في حق المتمتع وغيره. وعلى هذا فقد تعارض عموم الآية المشعر بالإذن، وعموم الحديث المشعر بالنهي، وفي تخصيص عموم المتواتر بعموم الآحاد نظر لو كان الحديث مرفوعاً، فكيف وفي كونه مرفوعاً نظر، فعلى هذا يترجح القول بالجواز، وإلى هذا جنح البخاري والله أعلم. انتهى كلام ابن حجر في الفتح وتراه فيه يجعل: أمرنا ونهينا، ورخص لنا وعزم علينا كلها سواء في الخلاف المذكور هل لها حكم الرفع أو الوقف، وممن قال: بصوم أيام التشريق للمتمتع: ابن عمر، وعائشة، وعروة، وعبيد بن عمير، والزهري، ومالك، والأوزاعي وإسحاق، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد في إحدى الروايتين، وممن روى عنه عدم صوم المتمتع لها: الشافعي في القول الثاني، وأحمد في الرواية الثالثة، وروي نحوه عن علي والحسن، وعطاء وهو قول ابن المنذر قاله في المغني.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: مسألة صوم أيام التشريق للمتمتع يظهر لي فيها أنها بالنسبة إلى النصوص الصريحة، يترجح فيها، عدم جواز صومها وبالنظر إلى صناعة علم الحديث يترجح فيها جواز صومها، وإيضاح هذا أن عدم صومها: دل عليه حديث نبيشة الهذلي، وكعب بن مالك في صحيح مسلم، كما قدمنا وكلا الحديثين صريح في أن كونها: أيام أكل وشرب. من لفظ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو نص صحيح صريح في عدم صومها، فظاهره الإطلاق في المتمتع، الذي لم يجد هدياً وفي غيره.
ولم يثبت نص صريح من لفظ النَّبي صلى الله عليه وسلم ولا من القرآن: يدل على جواز صومها للمتمتع، الذي لم يجد هدياً، وما ذكره ابن حجر عن الطحاوي من أن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أخذا جواز صومها من ظاهر عموم قوله تعالى
{ { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ } [البقرة: 196] ليس بظاهر، والظاهر سقوطه والله أعلم لإجماع جميع المسلمين: أن الحاج إذا طاف طواف الإفاضة، بعد رمي جمرة العقبة، والحلق: أنه يحل له كل شيء حرم عليه بالحج من النساء، والصيد، والطيب، وكل شيء. فقد زال عنه الإحرام بالحج بالكلية، وصار حلالاً حلاً تاماً كل التمام. وذلك ينافي كونه يطلق عليه أنه في الحج، فإن صام أيام التشريق فقد صامها في غير الحج، لأنه تحلل من حجه، وقضى مناسكه.
ومن أصرح الأدلة في ذلك: أن الله صرح بأنه لا رفث في الحج، وأيام التشريق يجوز فيها الرفث بالجماع، فما دونه فدل على أن ذلك الرافث فيها ليس في الحج، وأما الرمي في أيام التشريق فهو من السنن. الواقعة بعد تمام الحج تابعه له، وكذلك النحر فيها إن لم ينحر يوم النحر.
أما كونه في أيام التشريق: يصدق عليه أنه في الحج بعد إحلاله منه، وفراغه منه، حتى يتناوله عموم الآية، فليس بظاهر عندي. والله تعالى أعلم.
وأما بالنظر إلى صناعة علم الحديث فالذي يترجح هو جواز صوم أيام التشريق للمتمتع، الذي لم يجد هدياً، لأن المشهور الذي عليه جمهور المحدثين: أن قول الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو رخص لنا في كذا، أو أحل لنا كذا له كله حكم الرفع، فهو موقوف لفظاً مرفوع حكماً.
قال ابن الصلاح في علوم الحديث الثاني: قول الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا من نوع المرفوع، والمسند عند أصحاب الحديث، وهو قول أكثر أهل العلم، وخالف في ذلك فريق منهم: أبو بكر الإسماعيلي، والأول هو الصحيح، لأن مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى من إليه الأمر والنهي، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى محل الغرض منه.
وقد قال بعد هذا: ولا فرق بين أن يقول ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعده.
وقال النووي في تقريبه: الثاني قول الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو من السنة كذا، أو أمر بلال أن يشفع الأذان وما أشبهه، كله مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور. وقيل: ليس بمرفوع، ولا فرق بين قوله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعده انتهى منه، وعلى هذا درج العراقي في ألفيته في قوله:

قول الصحابي من السنة أو نحو أمرنا حكمه الرفع ولو
بعد النَّبي قاله بأعصر على الصحيح وهو قول الأكثر

وفي علوم الحديث مناقشات في هذه المسألة معروفة، والصحيح عندهم الذي عليه الأكثر: أن ذلك له حكم الرفع وبه تعلم أن حديث ابن عمر، وعائشة عند البخاري لم يرخص في أيام التشريق، أن ضمن الحديث له حكم الرفع. وإذا قلنا: إنه حديث صحيح مرفوع عن صحابيين، فلا إشكال في أنه يخصص به عموم حديث نبيشة، وكعب بن مالك، ولو كان ظاهر الآية، يدل على صومها، كما ذكره ابن حجر عن الطحاوي، فلا مانع من تخصيص عمومها بالحديث المرفوع.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن التحقيق، جواز تخصيص عموم المتواتر، بأخبار الآحاد كما هو معلوم، لأن التخصيص بيان، والبيان يجوز بكل ما يزيل اللبس، ولذا كان جمهور العلماء على جواز بيان المتواتر، بأخبار الآحاد، كتخصص عموم
{ { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [النساء: 24] وهو متواتر بحديث "لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها" وهو خبر آحاد، وقد أكثرنا من أمثلته في هذا الكتاب المبارك، وكذلك أجاز الجمهور تخصيص المنطوق بالمفهوم كتخصيص عموم: "في أربعين شاة شاة" وهو منطوق بمفهوم المخالفة في حديث "في الغنم السائمة زكاة" عند من يقول بذلك.
والحاصل: أن المبين باسم الفاعل، يجوز أن يكون دون المبين باسم المفعول في السند، وفي الدلالة، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله:

وبين القاصر من حيث السند أو الدلالة على ما يعتمد

وقد أوضحنا هذا، وذكرنا كلام أهل العلم فيه في ترجمة هذا الكتاب المبارك.
وقد يترجح عند الناظر عدم صومها للمتمتع من وجهين:
الأول: أن عدم صومها مرفوع رفعاً صريحاً، وصومها موقوف لفظاً، مرفوع حكماً على المشهور، والمرفوع صريحاً أولى بالتقديم من المرفوع حكماً.
والثاني: أن الجواز والنهي، إذا تعارضا قدم النهي، لأن ترك مباح أهون من ارتكاب منهي عنه، وقد يحتج المخالف، بأن دليل الجواز خاص بالمتمتع، ودليل النهي عام، والخاص يقضي على العام، والعلم عند الله تعالى. فإن أخر صوم الأيام الثلاثة، عن يوم عرفة فقد فات وقتها على القول، بأن أيام التشريق لا يصومها المتمتع، وعلى القول بأنه يصومها إنما يخرج وقتها بانتهاء أيام التشريق وهل عليه قضاؤها بعد ذلك؟ لا أعلم في ذلك نصاً من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والعلماء مختلفون في ذلك فقال بعضهم: يقضيها فيصوم عشرة، ومن قال بهذا القول، من أهل العلم اختلفوا، هل يفرقها، فيفصل بين الثلاثة، والعشرة، بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء، لو لم تفت في وقتها بناء على أن تقديم الثلاثة على السبعة لا يتعلق بالوقت، فلم يسقط كترتيب أفعال الصلاة، أو ليس عليه تفريقها، بل يجوز أن يصوم العشرة كلها متوالية، بناء على أن التفريق وجب بحكم الوقت المعين، وقد فات، فسقط كالتفريق بين الصلوات التي فاتت أوقاتها، فإنها تقضي متوالية، لا متفرقة على أوقاتها حسب الأداء لو لم تفت، والتفريق بين الثلاثة والسبعة في الصوم هو مذهب الشافعي، وعدمه: مذهب أحمد، وعلى قول من قالوا: بلزوم قضاء الأيام الثلاثة، بعد خروج وقتها.
فبعضهم يقول: لا دم على المتمتع، لأنه قضى ما فات، وهو مذهب الشافعي. وقيل: عليه دم مع القضاء، لأجل التأخير، وجزم به الخرقي وهو مروي عن أحمد. وقال القاضي: إن أخره لعذر، فليس عليه إلا القضاء، ولا دم. وعن أحمد لا دم مع القضاء بحال.
وقيل: لا تقضى الأيام الثلاثة، بعد خروج وقتها، ويلزم الدم لسقوط قضائها بفوات وقتها، ولا يجوز صوم السبعة بعد ذلك، لأنها تابعة للثلاثة التي سقطت، ويتعين الدم، وهذا مذهب أبي حنيفة، وآخر وقت الثلاة عنده يوم عرفة.
واعلم: أن أبا حنيفة وأحمد يقولان: إن صوم الثلاثة للعاجز عن الهدي، يجوز قبل التلبس بإحرام الحج، فمذهب أبي حنيفة: أن أول وقت صومها في أشهر الحج، بين الإحرامين، والأفضل عنده: أن يؤخرها إلى آخر وقتها، فيصوم السابع، ويوم التروية، ويوم عرفة. وبعض الحنفية يروي هذا عن علي رضي الله عنه. وعند أحمد: يجوز صومها، عند الإحرام بالعمرة، وعنه: إذا حل من العمرة، وهذه الأقوال مبنية على أن قوله: في الحج يراد به: أشهره. وقد بينا عدم ظهوره، وعند مالك والشافعي: لا يجوز صومها إلا بعد التلبس بإحرام الحج، وهذا أقرب لظاهر القرآن، وهما يقولان: ينبغي تقديمها قبل يوم النحر، والشافعي: يستحب إنهاءها قبل يوم عرفة، فإن لم يصم إلى يوم النحر، أفطر يوم النحر، وصام عند مالك أيام التشريق، فإن لم يصمها، حتى رجع إلى بلده وله به مال: لزمه أن يبعث بالهدي، إلى الحرم، ولا يجزئه الصوم عنده، وليس له أن يؤخر الصيام، ليهدي من بلده، وفي صوم أيام التشريق، للمتمتع عند الشافعية: قولان. وعن أحمد: روايتان فيهما. وقد علمت أن أبا حنيفة لا يجيز صومها. وأن مالكاً يجيزه ويكفي عنده في صوم السبعة الرجوع من منى.
وقد قدمنا أن التحقيق أن صومها بعد الرجوع إلى أهله لحديث ابن عمر الثابت في الصحيح: فما يروى عن مالك وأبي حنيفة، والشافعي، وغيرهم مما يخالف ذلك من الروايات لا ينبغي التعويل عليه، لمخالفته الحديث الصحيح. ولفظه:
"فمن لم يجد هدياً فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله" الحديث هذا لفظ مسلم في صحيحه، ولفظ البخاري "فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله" فلفظة: إذا رجع إلى أهله في الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعاً إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهو تفسير منه لقوله تعالى { { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [البقرة: 196] وإذا ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، من حديث ابن عمر: تفسير الرجوع في الآية برجوعه إلى أهله، فلا وجه للعدول عنه.
وفي صحيح البخاري، من حديث ابن عباس بلفظ
"وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم" وكل ذلك يدل على أن صوم السبعة بعد رجوعه، إلى أهله، لا في رجوعه إلى مكة، ولا في طريقه كما هو ظاهر النصوص، التي ذكرنا، بل صريحها، والعدول عن النص، بلا دليل يجب الرجوع إليه لا يجوز، والعلم عند الله تعالى.
والأظهر عندي: أنه إن صام السبعة قبل يوم النحر، لا يجزئه قال، فما ذلك قال اللخمي من المالكية: من أنه يرى إجزاءها لا وجه له. والله أعلم.
بل لو قال قائل: بمقتضى النصوص، وقال لا تجزئ قبل رجوعه إلى أهله، لكان له وجه من النظر واضح لأن من قدمها قبل الرجوع إلى أهله، فقد خالف لفظ النَّبي صلى الله عليه وسلم، الثابت في الصحيحين عن ابن عمر وهو لفظ منه صلى الله عليه وسلم، في معرض تفسير آية
{ { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [البقرة: 196] والعدول عن لفظه الصريح، المبين لمعنى القرآن. لو قيل: بأنه لا يجزئ فاعله، لكان له وجه، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن العاجز عن الهدي في حجه ينتقل إلى الصوم ولو غنياً في بلده هذا هو الظاهر، وإن عجز وابتدأ صوم الثلاثة ثم وجد الهدي، بعد أن صام يوماً منها أو يومين، فالأظهر عندي فيه: أنه لا يلزمه الرجوع إلى الحج، لأنه دخل في الصوم بوجه جائز وأنه ينبغي له أن ينتقل إلى الهدي، واستحباب الانتقال إلى الهدي هو مذهب مالك، ومن وافقه. وممن وافقه الحسن، وقتادة والشافعي وأحمد. وعن ابن أبي نجيح، وحماد، والثوري، والمزني: إن وجد الهدي، قبل أن يكمل صوم الثلاثة، فعليه الهدي. وقيل: متى قدر على الهدي قبل يوم النحر انتقل إليه صام، أو لم يصم، والأظهر ما قدمنا والله أعلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي: أنه إن فاته صوم الثلاثة في وقتها، إلى ما بعد أيام التشريق أنه يجري على القاعدة الأصولية التي هي: هل يستلزم الأمر المؤقت القضاء، إذا فات وقته، أو لا يستلزمه؟ وقد قدمنا الكلام على تلك المسألة مستوفى في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى:
{ { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلاَةَ } [مريم: 59].
فعلى القول: بأن الأمر يستلزم القضاء فلا إشكال في قضاء الثلاثة بعد وقتها وعلى القول: بأنه لا يستلزم القضاء يحتمل أن يقال: بوجوب القضاء لعموم حديث:
"فدين الله أحق أن يقضى" ويحتمل أن يقال بعدمه، بناء على أن صوم الثلاثة في الحج، ليكون ذلك مسوغاً لقضاء التفث، لأن الدم مسوغ لقضاء التفث، ممن عنده هدي فلا يبعد أن يكون بعض الصوم، قدم لينوب عن الدم في تسويغ قضاء التفث. وعلى هذا الاحتمال: لا يظهر القضاء، ولا يبعد لزوم الدم للإخلال بالصوم في وقته، والعلم عند الله تعالى.
أما لزوم صوم السبعة بعد الرجوع، إلى أهله، فالذي يظهر لي: لزومه لمن لم يجد الهدي مطلقاً: وأنه لا يسقط بحال لأن وجوبه ثابت بالقرآن فلا يمكن إسقاطه، إلا بدليل واضح، يجب الرجوع إليه. فجعل الدم بدلاً منه إن فات صوم الثلاثة في وقتها، ليس عليه دليل يوجب ترك العمل بصريح القرآن في قوله:
{ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [البقرة: 196].
تنبيه
إذا أخر الحاج طواف الإفاضة، عن أيام التشريق إلى آخر ذي الحجة مثلاً، فهل يجزئه حينئذ صوم الأيام الثلاثة لأنه لم يزل في الحج، لبقاء ركن منه، ولأنه لا يجوز له الرفث إلى النساء، لأنه لم يزل في الحج، أو لا يجوز له صومها نظراً إلى أن وقت الطواف، الذي بينه النَّبي صلى الله عليه وسلم وقال
"لتأخذوا عني مناسككم" قد فات؟ وهذا التأخير مخالف للسنة، فلا عبرة به، وهذا أظهر عندي. والله تعالى أعلم.
وبنحوه جزم النووي في شرح المهذب قائلاً: إن تأخير الطواف بعيد فلا يحمل عليه قوله تعالى في الحج وذكر عن بعض الشافعية وجهاً آخر غير هذا. وإن مات المتمتع العاجز، عن الصوم قبل أن يصوم فقال بعض أهل العلم: يتصدق عما أمكنه صومه، عن كل يوم بمد من حنطة، وهو مروي عن الشافعي. وقيل: يهدي عنه. وقيل: لا هدي عنه، ولا إطعام. والله تعالى أعلم.
واختلف أهل العلم: إن وجب عليه الصوم فلم يشرع فيه، حتى قدر على الهدي هل ينتقل إلى الهدي، لأن الصوم إنما لزم للعجز عن الهدي، وقد زال بوجوده، وهذا إن وقع قبل يوم النحر، لا ينبغي أن يختلف فيه. أما إن وجد الهدي، بعد فوات وقت الأيام الثلاثة، فهو محل القولين، وهما روايتان، عن أحمد، وقد قدمنا كلام أهل العلم في ذلك، ولا نص فيه.
والأظهر: أن صوم السبعة الذي لم يعين له وقت لا ينبغي العدول عنه، إلى غيره، كما تقدم خلافاً لمن قال بغير ذلك، والعلم عند الله تعالى.
هذا هو حاصل ما يتعلق بالدماء الواجبة، بغير النذر مع كونها منصوصاً عليها في القرآن.
أما الدماء التي لم يذكر حكمها في القرآن، وقد قاسها العلماء على المذكورة في القرآن، فمنها: دم الفوات. فقد روى مالك في الموطأ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه أمر أبا أيوب الأنصاري، وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج، وأتيا يوم النحر: أن يحلا بعمرة، ثم يرجعا حلالاً ثم يحجان عاماً قابلاً، ويهديان، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله. انتهى محل الغرض منه.
فقد قاس عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دم الفوات على دم التمتع حيث قال: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وقول عمر ثلاثة أيام في الحج، لا يظهر في الفوات، لأن الفوات لا يتحقق إلا بانتهاء ليلة النحر، اللهم إلا إن كان عاقه عائق، وهو بعيد، بحيث لو سار ثلاثة أيام لم يدرك عرفة ليلة النحر، فحينئذ قد يصومها وكأنه في الحج، لأنه لم يحصل له الفوات فعلاً، وإن كان الفوات محققاً وقوعه في المستقبل، ووجه قياس: دم الفوات على دم التمتع، حتى صار بدله من الصوم كبدله. ذكره ابن قدامة في المغني قائلاً: إن هدي التمتع، إنما وجب للترفه بترك أحد السفرين وقضائه النسكين في سفر واحد، فيقاس عليه دم من فاته الحج بجامع أنه ترك بعض ما اقتضاه إحرامه، فصار كالتارك. لأحد السفرين انتهى محل الغرض منه. ولا يظهر عندي كل الظهور.
ثم قال في المغني: فإن قيل: فهلا ألحقتموه بهدي الإحصار فإنه أشبه به، إذ هو حلال من إحرامه قبل إتمامه. قلنا: الهدي فيهما سواء. وأما البدل، فإن الإحصار ليس بمنصوص على البدل فيه، وإنما ثبت قياساً، فقياس هذا على الأصل المنصوص عليه أول من قياسه على فرعه، على أن الصيام ها هنا مثل الصيام، عن دم الإحصار، وهو عشرة أيام أيضاً، إلا أن صيام الإحصار: يجب أن يكون قبل حله، وهذا يجوز فعله قبل حله وبعده، وهو أيضاً مفارق لصوم المتعة، لأن الثلاثة في المتعة: يستحب أن يكون آخرها يوم عرفة، وهذا يكون بعد فوات عرفة. والخرقي، إنما جعل الصوم عن هدي الفوات مثل الصوم، عن جزاء الصيد، عن كل مد يوماً. والمروي عن عمر وابنه مثل ما ذكرنا، ويقاس عليه أيضاً: كل دم وجب لترك واجب، كدم القران وترك الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيت بمزدلفة، والرمي، والمبيت ليالي منى بها، وطواف الوداع. فالواجب فيه: ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام، وأما من أفسد حجه بالجماع، فالواجب فيه بدنة بقول الصحابة المنتشر الذي لم يظهر خلافه، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، كصيام المتعة. كذا قال عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمرو رواه عنهم الأثرم، ولم يظهر في الصحابة خلافهم، فيكون إجماعاً، فيكون بدله مقيساً على بدل دم المتعة.
وقال أصحابنا: يقوم البدنة بدراهم، ثم يشتري بها طعاماً، فيطعم كل مسكين مداً أو يصوم عن كل مد يوماً، فتكون ملحقة بالبدنة الواجبة في جزاء الصيد، ويقاس على فدية الأذى ما وجب بفعل محظور، يترفه به كتقليم الأظافر، واللبس، والطيب وكل استمتاع من النساء: كالوطء في العمرة، أو في الحج بعد رمي جمرة العقبة، فإنه في معنى فدية الأذى من الوجه الذي ذكرنا، فيقاس عليه، ويلحق به، فقد قال ابن عباس: لا مرأة وقع عليها زوجها قبل أن تقصر: عليك فدية من صيام. أو صدقة. أو نسك انتهى بطوله من المغني.
وهذه الأمور المذكورة لا نص فيها من كتاب ولا سنة.
وقد قدمنا في سورة البقرة أقوال أهل العلم في المحصر إن عجز عن الهدي هل يلزمه بدله، أو لا يلزمه شيء بدلاً منه. وأقوال من قالوا: يلزمه البدل في البدل. هل هو الصوم. أو الإطعام. بما أغنى عن إعادته هنا.
وقد علمت من كلام صاحب المغني: أن المشهور في مذهب أحمد: هو قياس دم الفوات على دم التمتع، كما فعل عمر رضي الله عنه، وأن الخرقي من الحنابلة قاسه على دم جزاء الصيد فجعل الصوم عن دم الفوات، كالصوم عن جزاء الصيد، وأن مذهب أحمد أيضاً، قياس كل دم وجب لترك واجب على دم التمتع. فيصوم عند العجز عند عشرة أيام، وذلك كدم القران، وترك الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيت بمزدلفة والرمي والمبيت ليالي منى بها. وطواف الوداع. وكذلك قياس صوم من عجز عن البدنة في حال إفساد حجه بالجماع، فهو عند أحمد: عشرة أيام قياساً على التمتع. وقد قدمنا نقل صاحب المغني لذلك عن بعض الصحابة وعدم مخالفة غيرهم لهم.
وعن بعض الحنابلة: تقويم بدنة المجامع العاجز بالدراهم، فيشتري بها طعاماً إلى آخر ما تقدم. وأن مذهب أحمد: قياس كل دم وجب بفعل محظور، كاللبس، والطيب، وتقليم الأظافر، ونحو ذلك على فدية الأذى.
وقد قدمنا أن قياس تلك الأشياء على فدية الأذى، مجمع عليه من الأئمة الأربعة، إلا أن أبا حنيفة. يخصصه بما فعل للعذر، ويوجب الدم دون غيره، فيما فعل من ذلك لا لعذر كما تقدم إيضاحه.
وأما مذهب الشافعي في دم الفوات، ففيه طريقان أصحهما: قياسه على دم التمتع، في الترتيب، والتقدير، وسائر الأحكام.
والطريق الثاني: على قولين أحدهما: أنه كدم التمتع أيضاً. والثاني: أنه كدم الجماع في الأحكام، إلا أن هذا شاة، والجماع بدنة لاشتراك الصورتين في وجوب القضاء، وقد قدمنا حكم المجامع العاجز عن البدنة في مذهب الشافعي ماذا يلزمه، ومذهب الشافعي في الدم الواجب بسبب ترك بعض المأمورات كالإحرام من الميقات، والرمي والوقوف بعرفة إلى الغروب، والمبيت بمزدلفة ليلة النحر، وبمنى ليالي منى، وطواف الوداع هو أن في ذلك أربعة أوجه أصحها: أنه كدم التمتع أيضاً في الترتيب، والتقدير، فإن عجز عن الهدي، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
الوجه الثاني: أنه إن عجز عن الهدي قوم شاة الهدي دراهم، واشترى بها طعاماً وتصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوماً، والوجهان الآخران عند الشافعية تركناهما لضعفهما وشذوذهما، كما قاله علماء الشافعية. ومذهب الشافعي في الدم اللازم. بسبب الاستمتاع: كالطيب واللباس، ومقدمات الجماع: أن فيه عندهم أربعة أوجه، وقد قدمناها.
وقدمنا أن أصحها أنه كفدية الأذى المنصوصة في آية الفدية. ودم الجماع فيه، عند الشافعية طرق واختلاف منتشر، والمذهب المشهور عندهم: أنه بدنة، فإن عجز عنها فبقرة، فإن عجز فسبع شياه، فإن عجز قوم البدنة بدراهم، والدراهم بطعام ثم تصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوماً. وقيل: إن عجز عن الغنم قوم البدنة وصام، فإن عجز أطعم، فيقدم الصيام على الإطعام ككفارة الظهار ونحوها. وقيل: لا مدخل للإطعام والصيام، بل إذا عجز عن الغنم ثبت الفداء في ذمته. وقيل: إنه يتخير بين البدنة، والبقرة، والغنم، فإن عجز عنها، فالإطعام ثم الصوم. وقيل: يتخير بين البدنة، والبقرة والشياه، والإطعام والصيام وكل هذه الأقوال لا دليل على شيء منها من كتاب ولا سنة ولا قياس جلي.
وقول الظاهرية: إن كل ما لم يثبت من هذه المذكورات من صيام، ودم لا يجب، لأن كل ما سكت عنه الوحي فهو عفو له وجه من النظر، والعلم عند الله تعالى.
وقد قدمنا أن مذهب مالك هو قياس الطيب واللبس ونحو ذلك على فدية الأذى كغيره، من الأئمة.
وأما دم الفوات والفساد، وترك الرمي وتعدي الميقات، وترك المبيت بمزدلفة، فكل ذلك يقيس بدله على بدل التمتع، فإن عجز عن الهدي صام عشرة أيام، وإنما يصوم الثلاثة في الحج عندهم المتمتع، والقارن ومتعدي الميقات، ومفسد الحج ومن فاته الحج.
وأما من لزمه ذلك لترك جمرة أو النزول بمزدلفة، فيصوم متى شاء، لأنه يقضي في غير حج، فيصوم في غير حج. ا هـ من المواق.
وقد قدمنا في مسائل الحج التي ذكرناها في الكلام على آية الحج: بعض المسائل التي يتعدد فيها الدم، وبعض المسائل التي لا يتعدد فيها في مواضع متفرقة، مع عدم النص في ذلك من كتاب أو سنة.
والأظهر عندي: أن الدماء إن اختلفت أسبابها كمن جاوز الميقات غير محرم، ودفع من عرفة قبل غروب الشمس عند من يقول حجه صحيح، وعليه دم، وترك المبيت بمزدلفة وترك المبيت بمنى أيام منى، أنه تتعدد عليه الدماء، بتعدد أسبابها مع اختلافها. أما إن كانت الأسباب المتعددة من نوع واحد، كأن ترك رمي يوم، ثم ترك رمي يوم آخر أو بات ليلة من ليالي منى في غير منى ثم كرر ذلك، فللتعدد وجه وللاتحاد وجه، وقد قدمنا أقوال أهل العلم في ذلك في محله. والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن من اعتمر في أشهر الحج، وأحل من عمرته، وهو يريد التمتع ثم كرر العمرة في أشهر الحج: لا يلزمه إلا هدي تمتع واحد، ولا ينبغي أن يختلف في ذلك، والعلم عند الله تعالى.
وقد قدمنا أن أقل الهدي واجباً كان للتمتع والقران ونحوهما، أو غير واجب شاة تجزئ ضحية أو شرك في دم، كسبع بدنة أو بقرة على التحقيق، كما تقدم إيضاحه، ولا عبرة بخلاف من خالف في الاشتراك فيه لثبوته بالنص الصحيح.
واعلم: أن من أحرم بعمرة في أشهر الحج له أن يدخل عليها الحج، فيكون قارناً، وعليه دم القران ما لم يفتتح الطواف بالبيت، وإن افتتح الطواف: ففي جواز إدخاله عليها حينئذ، خلاف بين أهل العلم.
قال النووي: فجوزه مالك ومنعه عطاء، والشافعي، وأبو ثور.
واختلفوا أيضاً في إدخال العمرة على الحج، فيكون قارناً، وعليه دم القران، وقد قدمنا أن الشافعية والمالكية يقولون: إن ذلك هو الذي فعله النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأكثرهم يقول: هو لا يجوز لغيره، بل جوازه خاص به صلى الله عليه وسلم كما قدمنا.
وقال النووي في شرح المهذب: واختلفوا في إدخال العمرة على الحج، فقال أصحابنا: يجوز، ويصير قارناً وعليه دم القران، وهو قول قديم للشافعي ومنعه الشافعي في مصر، ونقل منعه عن أكثر من لقيه. ا هـ محل الغرض منه.
والظاهر: أن المحرم المتمتع إذا أحل من عمرته، يستحب له ألا يحرم بالحج، إلا يوم التروية لأن ذلك هو الذي فعله أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، بأمره في حجة الوداع، ومحل هذا إن كان واجداً هدي التمتع، فإن كان عاجزاً عنه ويريد أن يصوم، استحب له تقديم الإحرام، ليصوم الأيام الثلاثة في إحرام الحج، وقد قدمنا أقوال من قال من أهل العلم: إنه ينبغي أن يكون آخرها يوم عرفة، وقول من كره صوم يوم عرفة واستحب انتهاءها قبل يوم عرفة. والله تعالى أعلم.
تنبيه
إذا فرغ المتمتع من عمرته، وكان لم يسق هدياً فإن له التحلل التام، فله مس الطيب والاستمتاع بالنساء، وكل شيء حرم عليه بإحرامه، فإن كان ساق الهدي ففيه للعلماء قولان:
أحدهما: أن له التحلل أيضاً، لأن الله يقول في التمتع
{ { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ } [البقرة: 196] ولا يمنعه سوق الهدي من ذلك، لأنه متمتع.
والقول الثاني: أنه لا يجوز له الإحلال حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر، واستدل من قال بهذا
"بحديث: حفصة رضي الله عنها، الذي قدمناه أنها قالت له صلى الله عليه وسلم: ما شأن الناس حلوا، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر" وكلا القولين قال به جماعة من الأئمة رضي الله عنهم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي: أن له أن يحل من إحرامه، ولكنه يؤخر ذبح هدي تمتعه، حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر، كما قدمنا إيضاحه. والاحتجاج بحديث حفصة المذكور لا ينهض كل النهوض لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً، فحديثها ليس في محل النزاع، لأن النزاع فيمن أحرم بعمرة يريد التحلل منها. والإحرام بالحج بعد ذلك. هل يمنعه سوق الهدي من التحلل؟ وحديث حفصة في القران، والقران ليس محل نزاع، وقولها: ولم تحلل أنت من عمرتك. تعني: عمرته المقرونة مع الحج، لا عمرة مفردة بإحرام، دون الحج كما هو معلوم، وكما تقدم إيضاحه.
ومما يوضحه أنه صلى الله عليه وسلم قال
"لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" فدل على أنه لم يجعلها عمرة مفردة الذي هو محل النزاع، لأن ظاهره أنها لو كانت مفردة لكان له الإحلال منها مطلقاً، ولا حجة في قوله "لما سقت الهدي" لأنه ساقه لقران لا لعمرة مفردة عن الحج.
وقال النووي: فإن قيل: قد ثبت في صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة، حتى قدمنا مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يتحلل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحجة فليتم حجه" .
فالجواب: أن هذه الرواية مختصرة من روايتين ذكرهما مسلم قبل هذه الرواية، وبعدها قالت "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً" فهذه الرواية مفسرة للأولى ويتعين هذا التأويل، لأن القصة واحدة فصحت الروايات. انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ومما يؤيد ما ذكرنا عن النووي: أن رواية حديث عائشة المذكورة التي قال: إنها يجب تأويلها بتفسيرها بالروايات الصحيحة الأخرى فيها ما لفظه: ومن أهل بحجة فليتم حجه. لكثرة الروايات الصحيحة المتفق عليها عن جماعة من الصحابة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر كل من أحرم بحج مفرداً، ولم يسق هدياً أن يفسخ حجه في عمرة، ويحل منها الحل كله، فعلم أن قولها: ومن أهل بحجة فليتم حجته: يجب تأويله، وتفسيره بالروايات الأخرى الصحيحة، كما قال النووي. وقول من قال: إن سوق الهدي في عمرته يمنعه من الإحلال منها، حتى ينحر يوم النحر له وجه قوي من النظر لدخوله في ظاهر عموم قوله تعالى:
{ { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [البقرة: 196]، وهذا المعتمر المتمتع الذي ساق معه هدي التمتع إن حل من عمرته حلق قبل أن يبلغ هديه محله، والعلم عند الله تعالى. ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام الدماء الواجبة بغير النذر.
أما الهدي الذي ليس بواجب: وهو هدي التطوع، وهو مستحب فيستحب لمن قصد مكة حاجاً أو معتمراً أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام، وينحره ويفرقه
"لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة وهو قارن" ويكفيه لدم القران بدنة واحدة، بل شاة واحدة، وبقية المائة تطوع منه صلى الله عليه وسلم: ويستحب أن يكون ما يهديه سميناً حسناً لقوله تعالى: { ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ } [الحج: 32] الآية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما تعظيمها الاستسمان والاستحسان والاستعظام، ويؤيده قوله تعالى { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } [الحج: 36] الآية. ومعلوم: أن أقل الهدي: شاة تجزئ، ضحية أو سبع بدنة أو بقرة كما تقدم إيضاحه، ولا يكون من الحيوان إلا من بهيمة الأنعام، وقد تقدم إيضاح الأنعام، وأنها الأزواج الثمانية المذكورة في آيات من كتاب الله: وهي الجمل والناقة، والبقرة والثور، والنعجة، والكبش، والعنز، والتيس.
واعلم: أن التحقيق أن الهدي والإطعام يختص بهما فقراء الحرم المكي، وأن الصوم لا يختص به مكان دون مكان، مع اختلاف في الطعام كما تقدم إيضاحه في سورة المائدة.
وأظهر قولي أهل العلم أنه يلزمه ذبح الهدي في الحرم، وتفريقه، في الحرم أيضاً، خلافاً لمن زعم جواز الذبح في الحل، إن كان تفريق اللحم في الحرم، والتحقيق أن البدن يسن تقليدها، وإشعارها فيقلدها نعلين. ومعنى إشعارها: هو جرحها في صفحة سنامها، ويسلت الدم عنها. والجمهور على أن الإشعار في صفحة السنام اليمنى، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس خلافاً لمالك القائل: إنه في الصفحة اليسرى.
واعلم: أن التحقيق أن الإشعار المذكور سنة لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم، خلافاً لأبي حنيفة القائل: بالنهي عنه، معللاً: بأنه مثلة وهي منهي عنها. وروي مثله عن النخعي، لأن الأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار تخصص عموم النهي عن المثلة ولأنه لا يسلم أنه مثلة، فهو جرح لمصلحة كالفصد والختان والحجامة والكي والوسم.
واعلم: أن الهدي من الغنم يسن تقليده، عند عامة أهل العلم، وخالف مالك وأصحابه الجمهور، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة
"أنه صلى الله عليه وسلم أهدى غنماً فقلدها" وقال بعض أهل العلم: لا تقلد بالنعال لضعفها، وإنما تقلد بنحو عرى القرب، ولا تشعر الغنم إجماعاً، والظاهر أن مالكاً لم يبلغه حديث تقليد الغنم، ولو بلغه لعمل به، لأنه صحيح متفق عليه، وإشعار البقر إن كان له سنام لا نص فيه، وقاسه جماعة من أهل العلم على إشعار الإبل. والمقصود من الإشعار والتقليد وتلطيخ الهدي بالدم، هو أن يعلم كل من رآه أنه هدي، لأنه قد يختلط بغيره، فإذا أشعر وقلد تميز عن غيره، وربما شرد فيعرف أنه هدي فيرد، وهذه العلة موجودة في البقر، فمقتضى القياس: إشعاره إن كان له سنام.
وقال بعض أهل العلم: الحكمة في تقليده النعلين: أن المنتعل عندهم كالراكب لكون النعل تقي صاحبها الأذى من الحر والبرد والشوك، والقذر ونحو ذلك فكأن المهدي خرج لله عن مركوبه الحيواني، وغير الحيواني، وظاهر صنيع البخاري أنهم قلدوا البقر في حجة الوداع حيث قال: "باب فتل القلائد للبدن والبقر. ثم ساق حديث حفصة المتقدم، وفيه قال:
"إني لبدت رأسي وقلدت هديي" . الحديث، فترى البخاري قال في الترجمة هذه: باب فتل القلائد للبدن والبقر.
وقال ابن حجر. وترجمة البخاري صحيحة لأنه إن كان المراد بالهدي في الحديث الإبل والبقر معاً فلا كلام وإن كان المراد الإبل خاصة، فالبقر في معناها. ا هـ محل الغرض منه وهو كما قال.
والأظهر: أن الصواب إن شاء الله أن البقر والإبل والغنم كلها تقلد إن كانت هدياً، وأن الغنم لا تشعر قولاً واحداً، وأن السنة الصحيحة ثابتة بإشعار الإبل، ومقتضى القياس أن البقر كذلك إن كان له سنام. والله تعالى أعلم.
واعلم: أن التحقيق أن من أهدى إلى الحرم هدياً وهو مقيم في بلده ليس بحاج ولا معتمر، لا يحرم عليه شيء بإرسال الهدي كما هو ثابت في الصحيح، عن عائشة رضي الله عنها ثبوتاً لا مطعن فيه فلا ينبغي أن يعول على ما خالفه، والعلم عند الله تعالى، ولذا ثبت في صحيح البخاري:
"أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها أن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: من أهدى هدياً حرم عليه ما يحرم على الحاج، حتى ينحر هديه قالت: عمرة. فقالت عائشة رضي الله عنها: ليس كما قال ابن عباس: فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله حتى نحر الهدي" . وحديث عائشة المذكور عند البخاري: أخرجه مسلم بألفاظ كثيرة معناها واحد، إلا أن فيه: أن الذي سأل عائشة ابن زياد.
والصواب ما في البخاري من أن الذي كتب إليها يسألها هو زياد بن أبي سفيان المعروف بزياد ابن أبيه، كما نبه عليه غير واحد، فما في مسلم من كونه ابن زياد، وهم من بعض الرواة، وقد قدمنا مراراً أن السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا مطعن فيه يجب تقديمها على قول كل عالم، ولو بلغ ما بلغ من العلم والدين، وبه تعلم أن التحقيق أن من بعث بهدي، وأقام في بلده لا يحرم عليه شيء بإرسال هديه، وأن ما خالف ذلك لا يلتفت إليه، وإن زعم جماعة أنه مروي عن عمر وابنه، وعلي وقيس بن سعد بن عبادة، وسعيد بن جبير وابن سيرين، وعطاء، والنخعي، ومجاهد، لأن السنة الصحيحة مقدمة على أقوال كل العلماء وكذلك ما قاله سعيد بن المسيب: من أنه لا يجتنب إلا الجماع ليلة جمع: وهي ليلة النحر، لا يلتفت إليه. للحديث الصحيح المتفق عليه المذكور آنفاً، والحديث الذي رواه الطحاوي وغيره من طريق عبدالملك بن جابر، عن أبيه: الدال على أنه يحرم عليه ما يحرم على الحاج ضعيف، كما ذكره الحافظ في الفتح، فلا يعارض به الحديث المتفق عليه. وذكر ابن حجر في الفتح عن الزهري: ما يدل على أن الأمر استقر على حديث عائشة لما بينت به سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم ورجع الناس عن فتوى ابن عباس، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن التحقيق الذي عليه جمهور أهل العلم: أن من أراد النسك لا يصير محرماً بمجرد تقليد الهدي، ولا يجب عليه بذلك شيء خلافاً لما حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق، من أنه يصير محرماً بمجرد تقليد الهدي، وخلافاً لأصحاب الرأي في قولهم: إن من ساق الهدي، وأم البيت ثم قلد وجب عليه الإحرام، لأن إيجاب الإحرام يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه.
وقد دلت النصوص: على أنه لا يجب، إلا إذا بلغ الميقات وأراد مجاوزته كما هو معلوم، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
الظاهر: أن التحقيق أنه لا يشترط في الهدي أن يجمع به بين الحل والحرم، فلو اشتراه من منى ونحره بها من غير أن يخرجه إلى الحل أجزأه. قال النووي في شرح المهذب: وهو مذهبنا، وبه قال ابن عباس، وأبو حنيفة وأبو ثور والجمهور. وقال ابن عمر وسعيد بن جبير: لا هدي إلا ما أحضر عرفات. وقال ابن قدامة في المغني: وليس من شرط الهدي أن يجمع فيه بين الحل، والحرم، ولا أن يقفه بعرفة لكن يستحب ذلك. وروي هذا عن ابن عباس وبه قال الشافعي، وأبو ثور وأصحاب الرأي، وكان ابن عمر لا يرى الهدي إلا ما عرف به ونحوه، عن سعيد بن جبير ا هـ محل الغرض منه.
ومعلوم أن مذهب مالك: أنه لا يذبح هدي التمتع والقران بمنى، إلا إذا وقف به بعرفة، وإن لم يقف به بعرفة ذبحه في مكة، ولا بد عنده في الهدي أن يجمع به بين الحل والحرم، فإن اشتراه في الحرم. لزمه إخراجه إلى الحل والرجوع به إلى الحرم وذبحه فيه، وإنما قلنا: إن الظاهر لنا في هذه المسألة عدم اشتراط جمع الهدي، بين الحل والحرم لثلاثة أمور.
الأول: أنه لم يرد نص بذلك يجب الرجوع إليه.
الثاني: أن المقصود من الهدي نفع فقراء الحرم، ولا فائدة لهم في جمعه بين الحل والحرم.
الثالث: أنه قول أكثر أهل العلم. وقال جماعة من أهل العلم: يستحب أن يكون الهدي معه من بلده، فإن لم يفعل فشراؤه من الطريق أفضل من شرائه من مكة، ثم من مكة، ثم من عرفات، فإن لم يسقه أصلاً بل اشتراه من منى جاز، وحصل الهدي ا هـ.
وهذا هو الظاهر واحتج من قال: بأنه لا بد أن يجمع بين الحل والحرم، بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يهد هدياً إلا جامعاً بين الحل والحرم، لأنه يساق من الحل إلى الحرم وأن ذلك هو ظاهر قوله تعالى:
{ { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [البقرة: 196]. وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أن ابن عمر اشترى هديه من الطريق، ونحو ذلك من الأدلة، ولا شك أن سوق الهدي من الحل إلى الحرم: أفضل ولا يقل عن درجة الاستحباب، كما ذكرنا عن بعض أهل العلم. أما كونه لا يجزئ بدون ذلك، فإنه يحتاج إلى دليل خاص، ولا دليل يجب الرجوع إليه يقتضي ذلك، لأن الذي دل عليه الشرع أن المقصود التقرب إلى الله بما رزقهم من بهيمة الأنعام، في مكان معين في زمن معين والغرض المقصود شرعاً حاصل، ولو لم يجمع الهدي بين حل وحرم، وجمع هديه صلى الله عليه وسلم بين الحل والحرم، محتمل للأمر الجبلي، فلا يتمحض لقصد التشريع، لأن تحصيل الهدي أسهل عليه من بلده، ولأن الإبل التي قدم بها علي من اليمن تيسر له وجودها هناك، والله جل وعلا أعلم. فحصول الهدي في الحل يشبه الوصف الطردي، لأنه لم يتضمن مصلحة كما ترى، والعلم عند الله تعالى.
ولا خلاف بين أهل العلم: في أن المهدي إن اضطر لركوب البدنة المهداة في الطريق، أن له أن يركبها لما ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال: اركبها. قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها بدنة، فقال: اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري فقال "اركبها فقال: إنها بدنة فقال: اركبها، قال: إنها بدنة فقال: اركبها، ويلك في الثانية أو في الثالثة" وروى مسلم نحوه عن أنس، وجابر رضي الله عنهما.
واعلم: أن أهل العلم اختلفوا في ركوب الهدي، فذهب بعضهم إلى أنه يجوز للضرورة دون غيرها، وهو مذهب الشافعي، قال النووي: وبه قال ابن المنذر، وهو رواية عن مالك، وقال عروة بن الزبير، ومالك، وأحمد وإسحاق: له ركوبه من غير حاجة، بحيث لا يضره. وبه قال أهل الظاهر، وقال أبو حنيفة: لا يركبه، إلا إن لم يجد منه أبداً، وحكى القاضي عن بعض العلماء: أنه أوجب ركوبها لمطلق الأمر ولمخالفة ما كانت الجاهلية عليه، من إهمال السائبة والبحيرة والوصيلة والحام.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال دليلاً عندي في ركوب الهدي، واجباً أو غير واجب: هو أنه إن دعته ضرورة لذلك جاز وإلا فلا، لأن أخص النصوص الواردة في ذلك بمحل النزاع.
وأصرحها فيه ما رواه مسلم في صحيحه. وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبن جريج: أخبرني أبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبدالله، سئل عن ركوب الهدي؟ فقال: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا" وفي رواية عنه في صحيح مسلم: "اركبها بالمعروف حتى تجد ظهرا" ا هـ. فهذا الحديث الصحيح فيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن ركوب الهدي إنما يجوز بالمعروف، إذا ألجأت إليه الضرورة، فإن زالت الضرورة بوجود ظهر يركبه غير الهدي: ترك ركوب الهدي، فهذا القيد الذي في هذا الحديث تقيد به جميع الروايات الخالية عن القيد، لوجوب حمل المطلق على المقيد، عند جماهير أهل العلم. ولا سيما إن اتحد الحكم، والسبب كما هنا.
أما حجة من قال: بوجوب ركوب الهدي، فهي ظاهرة السقوط، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يركب هديه كما هو معلوم. وأما حجة: من أجاز الركوب مطلقاً، فهو قوله صلى الله عليه وسلم
"ويلك اركبها" وقوله تعالى { { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } [الحج: 33] على أحد التفسيرين، ولا تنهض به الحجة فيما يظهر، لأنه محمول على كونه تدعوه الضرورة إلى ذلك، بدليل حديث جابر عند مسلم الذي ذكرناه آنفاً فهو أخص نص في محل النزاع، فلا ينبغي العدول عنه، والعلم عند الله تعالى، والظاهر أن شرب ما فضل من لبنها، عن ولدها لا بأس به، لأنه لا ضرر فيه عليها ولا على ولدها. وقال بعض أهل العلم: إن ركبها الركوب المباح للضرورة ونقصها ذلك: فعليه قيمة النقص يتصدق بها. وله وجه من النظر. والعلم عند الله تعالى.
وإنما قلنا: إن الظاهر أنه لا فرق في الحكم المذكور بين الهدي الواجب وغيره، لأنه صلى الله عليه وسلم قال لصاحب البدنة
"اركبها" وهي مقلدة نعلاً، وقد صرح له تصريحاً مكرراً بأنها بدنة، ولم يستفصله النَّبي صلى الله عليه وسلم، هل تلك البدنة من الهدي الواجب أو غيره، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم إيضاحه مراراً. وقد أشار إليه في مراقي السعود بقوله:

ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال

مسألة في حكم الهدي إذا عطب في الطريق أو بعد بلوغ محله
اعلم أولاً أن الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه: أن من بعث معه هدي إلى الحرم فعطب في الطريق، قبل بلوغ محله: أنه ينحره ثم يصبغ نعليه في دمه، ويضرب بالنعل المصبوغ بالدم صفحة سنامها، ليعلم من مر بها أنها هدي ويخلي بينها وبين الناس، ولا يأكل منها هو، ولا أحد من أهل رفقته المرافقين له في سفره.
وإنما قلنا: إن هذا هو الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه: لثبوته عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح، فقد روى مسلم في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما ما لفظه
"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بست عشرة بدنة، مع رجل وامرأة فيها قال: فمضى ثم رجع فقال: يا رسول الله، كيف أصنع بما أبدع علي منها؟ قال: انحرها، ثم اصبغ نعليها في دمها ثم اجعله على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك" انتهى من صحيح مسلم.
وفي رواية صحيح مسلم، عن ابن عباس
"أن ذؤيباً أبا قبيصة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول: إن عطب شيء منها فخشيت عليه موتاً فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب بها صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من رفقتك" انتهى منه. وقوله: كيف أصنع بما أبدع منها: هو بضم الهمزة، وإسكان الباء، وكسر الدال بصيغة المبني للمفعول: أي كل وأعيي حتى وقف من الإعياء، فهذا النص الصحيح، لا يلتفت معه إلى قول من قال: إن رفقته لهم الأكل مه جملة المساكين، لأنه مخالف للنص الصحيح، ولا قول أحد مع السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، كما أوضحناه مراراً. والظاهر أن علة منعه ومنع رفقته: هو سد الذريعة لئلا يتوصل هو أو بعض رفقته إلى نحره، بدعوى أنه عطب أو بالتسبب له في ذلك للطمع في أَكل لحمه، لأنه صار للفقراء، وهم يعدون أنفسهم من الفقراء، ولو لم يبلغ محله. والظاهر: أنه لا يجوز الأكل منه للأغنياء، بل للفقراء والله أعلم.
فإن قيل: روى أصحاب السنن عن ناجية الأسلمي
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي فقال: إن عطب فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خل بينه وبين الناس" ا هـ وظاهر قوله "وبين الناس" يشمل بعمومه سائق الهدي ورفقته.
فالجواب: أن حديث مسلم أصح وأخص، والخاص يقضي على العام. لأن حديث مسلم أخرج السائق ورفقته من عموم حديث أصحاب السنن. ومعلوم: أن الخاص يقضي على العام.
واعلم أن للعلماء تفاصيل في حكم ما عطب من الهدي، قبل نحره بمحل النحر، سنذكر أرجحها عندنا إن شاء الله من غير استقصاء للأقوال والحجج، لأن مسائل الحج أطلنا عليها الكلام طولاً يقتضي الاختصار في بعضها خوف الإطالة المملة.
اعلم أولاً: أن الهدي إما واجب، وإما تطوع، والواجب إما بالنذر، أو بغيره، والواجب بالنذر، إما معين، أو غير معين، فالظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه: أن الهدي الواجب بغير النذر كهدي التمتع والقران والدماء الواجبة بترك واجب، أو فعل محظور، والواجب بالنذر في ذمته كأن يقول: علي لله نذر أن أهدي هدياً، أن لجميع ذلك حالتين.
الأولى: أن يكون ساق ما ذكر من الهدي ينوي به الهدي الواجب عليه، من غير أن يعينه بالقول، كأن يقول: هذا الهدي سقته أريد به أداء الهدي الواجب علي.
والحالة الثانية: هي أن يسوقه ينوي به الهدي المذكور مع تعيينه بالقول، فإن نواه، ولم يعينه بالقول. فالظاهر: أنه لا يزال في ضمانه ولا يزول ملكه عنه، إلا بذبحه ودفعه إلى مستحقيه، ولذا إن عطب في الطريق فله التصرف فيه بما شاء من أكل وبيع، لأنه لم يزل في ملكه، وهو مطالب بأداء الهدي الواجب عليه بشيء آخر غير الذي عطب، لأنه عطب في ضمانه، فهو بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه بقصد دفعه إليه، فتلف قبل أن يوصله إليه: فعليه قضاء الدين بغير التالف، لأنه تلف في ذمته وإن تعيب الهدي المذكور قبل بلوغه محله، فعليه بدله سليماً ويفعل بالذي تعيب ما شاء، لأنه لم يزل في ملكه، وضمانه. والذي يظهر أن له التصرف فيه، ولو لم يعطب، ولم يتعيب، لأن مجرد نية إهدائه عن الهدي الواجب لا ينقل ملكه عنه، والهدي المذكور لازم له في ذمته، حتى يوصله إلى مستحقه. والظاهر: أن له نماءه.
وأما الحالة الثانية: وهي ما إذا نواه وعينه بالقول كأن يقول: هذا هو الهدي الواجب فيه من غير أن تبرأ الذمة، فليس له التصرف فيه ما دام سليماً، وإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه، وعاد الوجوب إلى ذمته. فيجب عليه هدي آخر، لأن الذمة لا تبرأ بمجرد التعيين بالنية والقول أو التقليد والإشعار. والظاهر: أنه إن عطب فعل به ما شاء، لأن الهدي لازم في ذمته، وهذا الذي عطب صار كأنه شيء من ماله لا حق فيه لفقراء الحرم، لأن حقهم باق في الذمة، فله بيعه وأكله، وكل ما شاء. وعلى هذا جمهور أهل العلم. وعن مالك يأكل ويطعم من شاء من الأغنياء والفقراء، ولا يبيع منه شيئاً، وإن بلغ الهدي محله فذبحه وسرق: فلا شيء عليه عند أحمد.
قال في المغني: وبهذا قال الثوري وابن القاسم صاحب مالك، وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: عليه الإعادة، لأنه لم يوصف الحق إلى مستحقه، فأشبه ما لو لم يذبحه. ولنا أنه أدى الواجب عليه، فبرئ منه كما لو فرقه. ودليل أنه أدى الواجب: أنه لم يبق إلا التفرقة، وليست واجبة، بدليل أنه لو خلى بينه، وبين الفقراء أجزأه. ولذلك لما نحر النَّبي صلى الله عليه وسلم البدنات قال:
"من شاء اقتطع" . انتهى محل الغرض من المغني.
وأظهر القولين عندي: أنه لا تبرأ ذمته بذبحه: حتى يوصله إلى المستحقين، لأن المستحقين إن لم ينتفعوا به، لا فرق عندهم بين ذبحه وبين بقائه حياً، ولأن الله تعالى يقول { وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ } [الحج: 28] ويقول
{ { وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ } [الحج: 36] الآيتان تدلان على لزوم التفرقة، والتخلية بينه، وبين الفقراء يقتسمونه تفرقة ضمنية، لأن الإذن لهم في ذلك، وهو متيسر لهم كإعطائهم إياه بالفعل والعلم عند الله تعالى. وقول من قال: إن الهدي المذكور إن تعيب في الطريق فعليه نحره، ونحر هدي آخر غير معيب لا يظهر كل الظهور، إذ لا موجب لتعدد الواجب عليه وهو لم يجب عليه إلا واحد. وحجة من قال بذلك: أنه لما عينه متقرباً به إلى الله لا يحسن انتفاعه به بعد ذلك، ولو لم يجزئه.
وأما الواجب المعين بالنذر، كأن يقول: نذرت لله إهداء هذا الهدي المعين، فالظاهر أنه يتعين بالنذر، ولا يكون في ذمته، فإن عطب أو سرق: لم يلزمه بدله، لأن حق الفقراء إنما تعلق بعينه، لا بذمة المهدي. والظاهر أنه ليس له الأكل منه سواء عطب في الطريق أو بلغ محله.
وحاصل ما ذكرنا: راجع إلى أن ما عطب بالطريق من الهدي إن كان متعلقاً بذمته سليماً فالظاهر: أن له الأكل منه، والتصرف فيه، لأنه يلزمه بدله سليماً، وقيل: يلزم الذي عطب والسليم معاً لفقراء الحرم، وأن ما تعلق الوجوب فيه بعين الهدى كالنذر المعين للمساكين، ليس فيه تصرف فيه، ولا الأكل منه إذا عطب ولا بعد نحره، إن بلغ محله على الأظهر.
واعلم: أن مالكاً وأصحابه يقولون: إن كل هدي، جاز الأكل منه للمهدي له، أن يطعم منه من شاء من الأغنياء والفقراء، وكل هدي لا يجوز له الأكل منه، فلا يجوز إطعامه إلا للفقراء الذين لا تلزمه نفقتهم، وكره عندهم إطعام الذميين منه. وستأتي تفاصيل ما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز إن شاء الله تعالى في الكلام على آية
{ { فَكُلُواْ مِنْهَا } [البقرة: 58] الآية.
وأما هدي التطوع: فالظاهر أنه إن عطب في الطريق ألقيت قلائده في دمه، وخلى بينه وبين الناس، وإن كان له سائق مرسل معه لم يأكل منه هو ولا أحد من رفقته، كماتقدم إيضاحه، وليس لصاحبه الأكل منه عند مالك وأصحابه. وهو ظاهر مذهب أحمد، وليس عليه بدله لأنه معين لم يتعلق بذمته. وأما مذهب الشافعي، وأصحابه: فهو أن هدي التطوع باق على ملك صاحبه، فله ذبحه، وأكله، وبيعه وسائر التصرفات فيه. ولو قلده لأنه لم يوجد منه إلا نية ذبحه والنية لا تزيل ملكه عنه، حتى يذبحه بمحله، فلو عطب في الطريق فلمهديه أن يفعل به ما شاء من بيع وأكل وإطعام، لأنه لم يزل في ملكه ولا شيء عليه في شيء من ذلك. وأما مذهب أبي حنيفة في هدي التطوع إذا عطب في الطريق قبل بلوغ محله: فهو أنه لا يجوز لمهديه الأكل منه ولا لغني من الأغنياء، وإنما يأكله الفقراء. ووجه قول من قال إن هدي التطوع إذا عطب في الطريق، لا يجوز لمهديه أن يأكل منه: هو أن الإذن له في الأكل، جاء النص به بعد بلوغه محله، أما قبل بلوغه محله فلم يأت الإذن بأكله، ووجه خصوص الفقراء به، لأنه حينئذ يصير صدقة، لأن كونه صدقة خير من أن يترك للسباع تأكله. هكذا قالوا: والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
الأظهر عندي أنه إذا عين هدياً بالقول، أو التقليد، والإشعار ثم ضل ثم نحر هدياً آخر مكانه ثم وجد الهدي الأول الذي كان ضالاً: أن عليه أن ينحره أيضاً، لأنه صار هدياً للفقراء. فلا ينبغي أن يرده لملكه، مع وجوده، وكذلك إن عين بدلاً عنه، ثم وجد الضال، فإنه ينحرهما معاً.
قال ابن قدامة في المغني: وروي ذلك عن عمر وابنه، وابن عباس وفعلته عائشة رضي الله عنهم. وبه قال مالك، والشافعي، وإسحاق، ويتخرج على قولنا فيما إذا تعيب الهدي، فأبدله فإن له أن يصنع ما شاء أن يرجع إلى ملك أحدهما، لأنه قد ذبح ما في الذمة، فلم يلزمه شيء آخر، كما لو عطب المعين وهذا قول أصحاب الرأي.
ووجه الأول: ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها أهدت هديين، فأضلتهما، فبعث إليها ابن الزبير هديين فنحرتهما، ثم عاد الضالان فنحرتهما، وقالت: هذه سنة الهدي رواه الدارقطني. وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه تعلق حق الله بهما بإيجابهما أو ذبح أحدهما، وإيجاب الآخر. انتهى محل الغرض من المغني. وليس في المسألة شيء مرفوع. والأحوط: ذبح الجميع كما ذكرنا أنه الأظهر، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن الهدي إن كان معيناً بالنذر من الأصل، بأن قال: نذرت إهداء هذا الهدي بعينه أو معيناً تطوعاً، إذا رآه صاحبه في حالة يغلب على الظن: أنه سيموت، فإنه تلزمه ذكاته، وإن فرط فيها حتى مات كان عليه ضمانه، لأنه كالوديعة عنده.
أما لو مات بغير تفريطه، أو ضل أو سرق، فليس عليه بدل عنه كما أوضحناه، لأنه لم يتعلق الحق بذمته بل بعين الهدي.
والأظهر عندي: إن لزمه بدله بتفريطه أنه يشتري هدياً مثله، وينحره بالحرم بدلاً عن الذي فرط فيه، وإن قيل: أنه يلزمه التصدق بقيمته على مساكين الحرم، فله وجه من النظر. والله أعلم.
ولا نص في ذلك ولنكتف بما ذكرنا هنا من أحكام الهدي، وسيأتي إن شاء الله تفصيل ما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز من الهدايا.
تنبيه
قد قدمنا في سورة البقرة: أن القرآن دل في موضعين، على أن نحر الهدي قبل الحلق، والتقصير يوم النحر، وبينا أنه لو قدم الحلق على النحر لا شيء عليه، وأوضحنا ذلك في الكلام على قوله تعالى:
{ { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196].
والحاصل: أن الحاج مفرداً كان أو قارناً أو متمتعاً إن رمى جمرة العقبة ونحر ما معه من الهدي: فعليه الحلق أو التقصير، وقد قدمنا أن التحقيق: أن الحلق نسك وأنه أفضل من التقصير، لقوله صلى الله عليه وسلم
"رحم الله المحلقين قالوا: يا رسول الله: والمقصرين. قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين؟ فقال: والمقصرين" في الرابعة، أو الثالثة كما تقدم إيضاحه. فدل دعاؤه للمحلقين بالرحمة مراراً: على أن الحلق نسك لأنه لو لم يكن قربة لله تعالى لما استحق فاعله دعاء النَّبي صلى الله عليه وسلم له بالرحمة، ودل تأخير الدعاء للمقصرين، إلى الثالثة أو الرابعة: أن التقصير مفضول، وأن الحلق أفضل منه، والتقصير مع كونه مفضولاً: يجزئ بدلالة الكتاب، والسنة والإجماع، لأن الله تعالى يقول { { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } [الفتح: 27] وقد روى الشيخان، وغيرهما: التقصير عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
فمن ذلك
"حديث جابر: أنه حج مع النَّبي صلى الله عليه وسلم وقد أهلوا بالحج مفرداً، فقال لهم: أحلوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، وقصروا" . وفي الصحيحين، عن ابن عمر قال: "حلق النَّبي صلى الله عليه وسلم وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم" ، وقد قدمنا حديث معاوية الثابت في الصحيحين، قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة وحديث: "رحم الله المحلقين، ثم قال بعد ذلك: والمقصرين" إلى غير ذلك من الأحاديث.
وقد أجمع جميع علماء الأمة على أن التقصير مجزئ ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يكفي في الحلق والتقصير، فقال الشافعي، وأصحابه: يكفي فيهما حلق ثلاث شعرات فصاعداً، أو تقصيرها، لأن ذلك يصدق عليه أنه حلق أو تقصير، لأن الثلاث جمع.
وقال أبو حنيفة: يكفي حلق ربع الرأس، أو تقصير ربعه بقدر الأنملة.
وقال مالك، وأحمد وأصحابهما: يجب حلق جميع الرأس، أو تقصير جميعه، ولا يلزمه في التقصير تتبع كل شعرة، بل يكفيه أن يأخذ من جميع جوانب الرأس، وبعضهم يقول: يكفيه قدر الأنملة، والمالكية يقولون: يقصره إلى القرب من أصول الشعر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر الأقوال عندي: أنه يلزم حلق جميع الرأس، أو تقصير جميعه، ولا يلزم تتبع كل شعرة في التقصير، لأن فيه مشقة كبيرة، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة، وأنه لا يكفي الربع، ولا ثلاث شعرات خلافاً للحنفية والشافعية، لأن الله تعالى يقول:
{ { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ } [الفتح: 27] ولم يقل: بعض رؤوسكم { وَمُقَصِّرِينَ } [الفتح: 27] أي: رؤوسكم لدلالة ما ذكر قبله عليه، وظاهره حلق الجميع أو تقصيره، ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه، ولأن النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" . فمن حلق الجميع أو قصره ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، ومن اقتصر على ثلاث شعرات أو على ربع الرأس، لم يدع ما يريبه، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه، من كتاب، ولا سنة على الاكتفاء بواحد منهما، ولأن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما حلق في حجة الوداع، حلق جميع رأسه وأعطى شعر رأسه لأبي طلحة ليفرقه على الناس. وفعله في الحلق بيان للنصوص الدالة على الحلق كقوله: { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ } الآية. وقوله: { { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [البقرة: 196].
وقد قدمنا أن فعله صلى الله عليه وسلم: إذا كان بياناً لنص مجمل يقتضي وجوب حكم: أن ذلك الفعل المبين لذلك النص المجمل واجب. ولا خلاف في ذلك بين من يعتد به من أهل الأصول.
تنبيه آخر
اعلم: أن محل كون الحلق أفضل من التقصير، إنما هو بالنسبة إلى الرجال خاصة. أما النساء: فليس عليهن حق وإنما عليهن التقصير.
والصواب عندنا: وجوب تقصير المرأة جميع رأسها ويكفيها قدر الأنملة، لأنه يصدق عليه أنه تقصير من غير منافاة لظواهر النصوص، ولأن شعر المرأة من جمالها، وحلقه مثله وتقصيره جداً إلى قرب أصول الشعر نقص في جمالها، وقد جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أن النساء لا حلق عليهن، وإنما عليهن التقصير.
قال أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن الحسن العتكي، ثنا محمد بن بكر، ثنا ابن جريج، قال: بلغني عن صفية بنت شيبة بن عثمان، قالت: أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان: أن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير" .
حدثنا أبو يعقوب البغدادي ثقة، ثنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن عبدالحميد بن جبير بن شيبة عن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس على النساء حلق إِنما على النساء التقصير" انتهى منه.
وقال النووي في شرح المهذب: في حديث ابن عباس هذا: رواه أبو داود بإسناد حسن. وقال صاحب نصب الراية في حديث ابن عباس المذكور: قال ابن القطان في كتابه: هذا ضعيف ومنقطع.
أما الأول: فانقطاعه من جهة ابن جريج، قال: بلغني عن صفية، فلم يعلم من حدثه به.
وأما الثاني: فقول أبي داود: حدثنا رجل ثقة، يكنى أبا يعقوب، وهذا غير كاف. وإن قيل: إنه أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل، فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه. وأما ضعفه: فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها. انتهى محل الغرض من نصب الراية للزيلعي.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: حديث ابن عباس المذكور: في أن على النساء التقصير لا الحلق، أقل درجاته الحسن. فقول النووي: إنه حديث رواه أبو داود بإسناد حسن أصوب مما نقله الزيلعي عن ابن القطان في كتابه، وسكت عليه من أن الحديث المذكور ضعيف ومنقطع، فقول ابن القطان: وأما ضعفه فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها فيه قصور ظاهر جداً لأن أم عثمان المذكورة من الصحابيات المبايعات، وقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس فدعوى أنها لا يعرف حالها ظاهرة السقوط كما ترى. وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: أم عثمان بنت سفيان القرشية الشيبية العبدرية، أم بني شيبة الأكابر، كانت من المبايعات. روت عنها صفية بنت شيبة، وروى عبدالله بن مسافع عن أمه عنها. انتهى منه.
وقال ابن حجر في الإصابة: أم عثمان بنت سفيان، والدة بني شيبة الأكابر، وكانت من المبايعات. قاله أبو عمر إلى آخر كلامه، وقد أورد فيه حديثاً روته عن النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة، وقد قدمناه.
وذكر ابن حجر في الإصابة عن أبي نعيم: حديثاً أخرجه، وفيه: أن أم عثمان بنت سفيان هي أم بني شيبة الأكابر، وقد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ا هـ.
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب: أم عثمان بنت سفيان. ويقال: بنت أبي سفيان: هي أم ولد شيبة بن عثمان. روت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس. وروت عنها صفية بنت شيبة ا هـ.
ومعلوم أن الصحابة كلهم عدول بتزكية الكتاب والسنة لهم، كما أوضحناه في غير هذا الموضع، فتبين أن قول ابن القطان: إن الحديث ضعيف، لأنها لم يعلم حالها قصور منهرحمه الله كما ترى. وأما قوله: إن توثيق أبي داود لأبي يعقوب غير كاف، وأن أبا يعقوب المذكور، إن قيل: إنه إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه.
فجوابه: أن أبا يعقوب المذكور هو إسحاق بن إبراهيم واسم إبراهيم أبو إسرائيل، وقد وثقه أبو داود وأثنى عليه غير واحد من أجلاء العلماء بالرجال. وقال فيه الذهبي في الميزان: حافظ شهير قال: ووثقه يحيى بن معين، والدارقطني: وقال صالح جزرة صدوق، إلا أنه كان يقف في القرآن، ولا يقول: غير مخلوق بل يقول: كلام الله. وقال فيه أيضاً: قال عبدوس النيسابوري: كان حافظاً جداً لم يكن مثله أحد في الحفظ والورع وأنهم بالوقف. وقال فيه ابن حجر في تهذيب التهذيب، قال ابن معين: ثقة. وقال أيضاً: من ثقات المسلمين ما كتب حديثاً قط، عن أَحد من الناس، إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه. وقال أيضاً: ثقة مأمون أثبت من القواريري وأكيس، والقواريري ثقة صدوق، وليس هو مثل إسحاق، وذكر غير هذا من ثناء ابن معين عليه، وتفضيله على بعض الثقات المعروفين، ثم قال: وقال الدارقطني: ثقة. وقال البغوي: كان ثقة مأموناً، إلا أنه كان قليل العقل، وثناء أئمة الرجال عليه في الحفظ، والعدالة كثير مشهور وإنما نقموا عليه أنه كان يقول: القرآن كلام الله، ويسكت عندها ولا يقول: غير مخلوق، ومن هنا جعلوه واقفياً، وتكلموا في حديثه، كما قال فيه صالح جزرة: صدوق في الحديث إلا أنه يقول: القرآن كلام الله ويقف.
وقال الساجي: تركوه لموضع الوقف، وكان صدوقاً. وقال أحمد: إسحاق بن أبي إسرائيل واقفي مشؤوم، إلا أنه كان صاحب حديث كيساً.
وقال السراج: سمعته يقول: هؤلاء الصبيان يقولون كلام الله غير مخلوق ألا قالوا كلام الله وسكتوا. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين فقال: ثقة قال عثمان: لم يكن أظهر الوقف حين سألت يحيى عنه ويوم كتبنا عنه كان مستوراً وقال عبدوس النيسابوري: كان حافظاً جداً، ولم يكن مثله في الحفظ والورع، وكان لقي المشايخ فقيل: كان يتهم بالوقف قال: نعم اتهم وليس بمتهم. وقال مصعب الزبيري: ناظرته فقال: لم أقل على الشك، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي.
والحاصل: أنهم متفقون على ثقته، وأمانته بالنسبة إلى الحديث إلا أنهم كانوا يتهمونه بالوقف، وقد رأيت قول من نفى عنه التهمة، وقول من ناظره أنه قال له: لم أقل على الشك. ولكني سكت كما سكت القوم قبلي، ومعنى كلامه: أنه لا يشك في أن القرآن غير مخلوق، ولكنه يقتدي بمن لم يخض في ذلك، ولما حكى الذهبي في الميزان قول الساجي: إنهم تركوا الأخذ عنه لمكان الوقف، قال بعده ما نصه: قلت: قل من ترك الأخذ عنه ا هـ، وهو تصريح منه بأن الأكثرين على قبوله فحديثه لا يقل عن درجة الحسن، وروايته عند أبي داود الذي وثقه تعتضد بالرواية المذكورة قبلها، وقول ابن جريج فيها: بلغني عن صفية بنت شيبة تفسيره الرواية الثانية التي بين فيها ابن جريج: أن من بلغه عن صفية المذكورة: هو عبد الحميد بن جبير بن شيبة، وهو ثقة معروف.
فإن قيل: ابن جريج روى عنه بالعنعنة، وهو مدلس، والرواية بالعنعنة لا تقبل من المدلس بل لا بد من تصريحه، بما يدل على السماع.
والجواب: أنا قدمنا أن مشهور مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد هو الاحتجاج بالمرسل، ومن يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس، من باب أولى كما نبه عليه غير واحد من الأصوليين.
وقد قدمنا موضحاً مراراً في هذا الكتاب المبارك مع اعتضاد هذه الرواية بالأخرى واعتضادها بغيرها.
قال الزيلعي في نصب الراية: بعد ذكره كلام ابن القطان في تضعيف حديث ابن عباس المذكور في تقصير النساء، وعدم حلقهن الذي ناقشنا تضعيفه له كما رأيت ما نصه: وأخرجه الدارقطني في سننه والطبراني في معجمه، عن أبي بكر بن عياش، عن يعقوب بن عطاء، عن صفية بنت شيبة به، وأخرجه الدارقطني أيضاً، والبزار في مسنده، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عبدالحميد بن جبير، عن صفية به. قوال البزار: لا نعلمه يروي عن ابن عباس، إلا من هذا الوجه انتهى، وأخرجه الدارقطني في سننه، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر قال في المحرمة: تأخذ من شعرها قدر السبابة. انتهى، وليث هذا الظاهر أنه ابن أبي سليم، وهو ضعيف. انتهى من نصب الراية.
فتبين من جميع ما ذكر: أن حديث ابن عباس في أن على النساء المحرمات إذا أردن قضاء التفث التقصير، لا الحلق أنه لا يقل عن درجة الحسن، كما جزم النووي بأن إسناده عند أبي داود حسن وقد رأيت اعتضاده، بما ذكرنا من الروايات المتابعة له بواسطة نقل الزيلعي، عند الطبراني، والدارقطني: والبزار ويعتضد عدم حلق النساء رؤوسهن بخمسة أمور غير ما ذكرنا.
الأول: الإجماع على عدم حلقهن في الحج، ولو كان الحلق يجوز لهن لشرع في الحج.
الثاني: أحاديث جاءت بنهي النساء عن الحلق.
الثالث: أنه ليس من عملنا، ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد.
الرابع: أنه تشبه بالرجال، وهو حرام.
الخامس: أنه مثلة والمثلة لا تجوز. أما الإجماع، فقد قال النووي في شرح المهذب، قال ابن المنذر: أجمعوا على ألا حلق على النساء، وإنما عليهن التقصير، ويكره لهن الحلق لأنه بدعة في حقهن، وفيه مثلة.
واختلفوا في قدر ما تقصره، فقال ابن عمر والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: تقصر من كل قرن مثل الأنملة، وقال قتادة: تقصر الثلث أو الربع، وقالت حفصة بنت سيرين: إن كانت عجوزاً من القواعد أخذت نحو الربع، وإن كانت شابة فلتقلل، وقال مالك: تأخذ من جميع قرونها أقل جزء ولا يجوز من بعض القرون. انتهى محل الغرض منه، وتراه نقل عن ابن المنذر الإجماع على أن النساء: لا حلق عليهن في الحج، ولو كان الحلق يجوز لهن لأمرن به في الحج، لأن الحلق نسك على التحقيق، كما تقدم إيضاحه.
وأما الأحاديث الواردة في ذلك فسأنقلها بواسطة نقل الزيلعي، في نصب الراية لأنه جمعها فيه في محل واحد قال: فنهي النساء عن الحلق فيه أحاديث.
منها: ما رواه الترمذي في الحج، والنسائي في الزينة، قالا، حدثنا محمد بن موسى الحرشي، عن أبي داود الطيالسي، عن همام، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي قال:
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها" انتهى ثم رواه الترمذي، عن محمد بن بشار، عن أبي داود الطيالسي به، عن خلاس عن النبي مرسلاً، وقال: هذا حديث فيه اضطراب، وقد روي عن حماد بن سلمة عن قتادة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً انتهى، وقال عبدالحق في أحكامه: هذا حديث يرويه همام عن يحيى، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي وخالفه هشام الدستوائي، وحماد بن سلمه فروياه عن قتادة، عن النبي مرسلاً.
حديث آخر أخرجه البزار في مسنده عن معلى بن عبد الرحمن الواسطي. ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق المرأة رأسها" انتهى. قال البزار، ومعلى بن عبد الرحمن الواسطي: روى عن عبد الحميد أحاديث، لم يتابع عليها، ولا نعلم أحداً تابعه على هذا الحديث. انتهى، ورواه ابن عدي في الكامل، وقال: أرجو أنه لا بأس به، قال عبد الحق: وضعفه أبو حاتم وقال: إنه متروك الحديث انتهى. وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء: يروي عن عبد الحميد بن جعفر المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج به، إذا تفرد حديث آخر رواه البزار في مسنده أيضاً: حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي، ثنا روح بن عطاء بن أبي ميمونة، ثنا أبي، عن وهب بن عمير قال: سمعت عثمان يقول: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها" انتهى قال البزار: ووهب بن عمير لا نعلمه روى غير هذا الحديث، ولا نعلم روى عنه إلا عطاء بن أبي ميمونة، وروح ليس بالقوي. انتهى كلام الزيلعي في نصب الراية.
وهذه الروايات التي ذكرنا في نهي المرأة عن حلق رأسها، عن علي، وعثمان، وعائشة: يعضد بعضها بعضاً كما تعتضد بما تقدم، وبما سيأتي إن شاء الله، وأما كون حلق المرأة رأسها ليس من عمل نساء الصحابة، فمن بعدهم، فهو أمر معروف، لا يكاد يخالف فيه إلا مكابر، فالقائل: بجواز الحلق للمرأة قائل بما ليس من عمل المسلمين المعروف، وفي الحديث الصحيح:
"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" فالحديث يشمل عمومه الحلق بالنسبة للمحرمة بلا شك، وإذا لم يبح لها حلقه في حال النسك، فغيره من الأحوال أولى، وأما كون حلق المرأة رأسها تشبها بالرجال، فهو واضح، ولا شك أن الحالقة رأسها متشبهة بالرجال، لأن الحلق من صفاتهم الخاصة بهم دون الإناث عادة. وقد قدمنا الحديث الصحيح في لعن المتشبهات من النساء بالرجال في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى { { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9] وأما كون حلق رأس المرأة مثلة، فواضح، لأن شعر رأسها من أحسن أنواع جمالها وحلقه تقبيح لها وتشويه لخلقتها، كما يدركه الحس السليم، وعامة الذين يذكرون محاسن النساء في أشعارهم، وكلامهم مطبقون على أن شعر المرأة الأسود من أحسن زينتها لا نزاع في ذلك بينهم في جميع طبقاتهم وهو في أشعارهم مستفيض استفاضة يعلمها كل من له أدنى إلمام، وسنذكر هنا منه أمثلة قليلة تنبيهاً بها على غيرها قال امرؤ القيس في معلقته:

وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلى تضل المداري في مثنى ومرسل

فتراه جعل كثرة شعر رأسها وسواده وطوله من محاسنها، وهو كذلك. وقال الأعشى ميمون بن قيس:

غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينا كما يمشي الوحي الوحل

فقوله فرعاء يعني أن فرعها أي شعر رأسها تام في الطول والسواد والحسن وقال عمر بن أبي ربيعة:

تقول يا أمتا كفى جوانبه ويلي بليت وأبلى جيدي الشعر
مثل الأساود قد أعيى مواشطه تضل فيه مداريها وتنكسر

فلو لم تكن كثرة الشعر وسواده من الجمال عندهم، لما تعبوا في خدمته هذا التعب الذي ذكره هذا الشاعر ونظيره قول الآخر:

وفرع يصير الجيد وحف كأنه على الليث قنوان الكروم الدوالح

لأن قوله: يصير الجيد أي يميل العنق لكثرته، وقد بالغ من قال:

بيضاء تسحب من قيام فرعها وتغيب فيه وهو وجف أسحم
فكأنها فيه نهار ساطع وكأنه ليل عليها مظلم

وأمثال هذا أكثر من أن تنحصر، وقصدنا مطلق التمثيل، وهو يدل على أن حلق المرأة شعر رأسها نقص في جمالها، وتشويه لها، فهو مثلة وبه تعلم: أن العرف الذي صار جارياً في كثير من البلاد، بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة إفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين ونساء العرب قبل الإسلام، فهو من جملة الانحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق، والسمت وغير ذلك.
فإن قيل: جاء عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ما يدل على حلق المرأة رأسها، وتقصيرها إياه، فما دل على الحلق، فهو ما رواه ابن حبان في صحيحه في النوع الحادي عشر من القسم الخامس، من حديث
"وهب بن جرير ثنا أبي سمعت أبا فزارة، يحدث عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالاً وبنى بها وماتت بسرف فدفنها في الظلة التي بنى بها فيها فنزلنا قبرها أنا وابن عباس فلما وضعناها في اللحد مال رأسها فأخذت ردائي فوضعته تحت رأسها فاجتذبه ابن عباس فألقاه وكانت قد حلقت رأسها في الحج فكان رأسها محجماً" انتهى بواسطة نقل صاحب نصب الراية. فهذا الحديث يدل على أن ميمونة حلقت رأسها، ولو كان حراماً ما فعلته، وأما التقصير فما رواه مسلم في صحيحه.
وحدثني عبيد الله بن معاذ العنبري، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن أبي بكر بن حفص، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاع، فسألها عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة فدعت بإناء قدر الصاع، فاغتسلت، وبيننا وبينها ستر، وأفرغت على رأسها ثلاثاً. قال: وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة. ا هـ من صحيح مسلم.
فالجواب، عن حديث ميمونة على تقدير صحته: أن فيه أن رأسها كان محجماً، وهو يدل على أن الحلق المذكور لضرورة المرض، لتتمكن آلة الحجم من الرأس، والضرورة يباح لها ما لا يباح بدونها وقد قال تعالى
{ { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا ٱضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [الأنعام: 119].
وأما الجواب: عن حديث مسلم فعلى القول، بأن الوفرة أطول من اللمة التي هي ما ألم بالمنكبين من الشعر، فلا إشكال، لأن ما نزل عن المنكبين طويل طولاً يحصل به المقصود. قال النووي في شرح مسلم: والوفرة أشبع، وأكثر من اللمة. واللمة ما يلم بالمنكبين من الشعر. قاله الأصمعي. انتهى محل الغرض من النووي.
وأما على القول الصحيح المعروف عند أهل اللغة: من أنها لا تجاوز الأذنين. قال في القاموس: والوفرة: الشعر المجتمع على الرأس، أو ما سال على الأذنين منه أو ما جاوز شحمة الأذن، ثم الجمة، ثم اللمة ا هـ منه.
وقال الجوهري في صحاحه: والوفرة: الشعر إلى شحمة الأذن، ثم الجمة ثم اللمة: وهي التي ألمت بالمنكبين. وقال ابن منظور في اللسان: والوفرة: الشعر المجتمع على الرأس، وقيل: ما سال على الأذنين من الشعر. والجمع وفار. قال كثير عزة:

كأن وفار القوم تحت رحالها إذا حسرت عنها العمائم عنصل

وقيل: الوفرة أعظم من الجمة. قال ابن سيده: وهذا غلط إنما هي وفرة، ثم جمة، ثم لمة، والوفرة: ما جاوز شحمة الأذنين، واللمة: ما ألم بالمنكبين. التهذيب، والوفرة: الجمة من الشعر إذا بلغت الأذنين، وقيل: الوفرة الشعرة إلى شحمة الأذن، ثم الجمة ثم اللمة، إلى أن قال: والوفرة شعر الرأس، إذا وصل شحمة الأذن. انتهى من اللسان.
فالجواب: من أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصرن رؤوسهن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، لأنهن كن يتجملن له في حياته، ومن أجمل زينتهن شعرهن. أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فلهن حكم خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة واحدة من نساء جميع أهل الأرض، وهو انقطاع أملهن انقطاعاً كلياً من التزويج، ويأسهن منه اليأس، الذي لا يمكن أن يخالطه طمع، فهن كالمعتدات المحبوسات بسببه صلى الله عليه وسلم إلى الموت. قال تعالى
{ { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } [الأحزاب: 53] واليأس من الرجال بالكلية، قد يكون سبباً للترخيص في الإخلال بأشياء من الزينة، لا تحل لغير ذلك السبب. وقال النووي في شرح مسلم في الكلام علي هذا الحديث: قال عياضرحمه الله تعالى: والمعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون، والذوائب، ولعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعلن هذا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لتركهن التزين، واستغنائهن عن تطويل الشعر وتخفيفاً لمؤنة رؤوسهن، وهذا الذي ذكره القاضي عياض من كونهن فعلنه، بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، لا في حياته. كذا قاله أيضاً غيره، وهو متعين ولا يظن بهن فعله في حياته صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء. انتهى كلام النووي. وقوله: وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء، فيه عندي نظر لما قدمنا من أن أزواج النبي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليهن غيرهن، لأن قطع طمعهن في الرجال بالكلية خاص بهن دون غيرهن، وهو قد يباح له من الإخلال ببعض الزينة ما لا يباح لغيره حتى إن العجوز من غيرهن لتتزين للخطاب، وربما تزوجت لأن كل ساقطة لها لاقطة. وقد يحب بعضهم العجوز كا قال القائل:

أبى القلب إلا أم عمرو وحبها عجوزاً ومن يحبب عجوزاً يفند
كثوب اليماني قد تقادم عهده ورقعته ما شئت في العين واليد

وقال الآخر:

ولو أصبحت ليلى تدب على العصا لكان هوى ليلى جديداً أوائله

والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ }.
الضمير في قوله: منها. راجع إلى بهيمة الأنعام المذكورة في قوله تعالى { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } [الحج: 28] وهذا الأكل الذي أمر به هنا منها وإطعام البائس الفقير منها، أمر بنحوه في خصوص البدن أيضاً في قوله تعالى
{ { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } [الحج: 36] إلى قوله: { { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ } [الحج: 36] الآية ففي الآية الأولى: الأمر بالأكل من جميع بهيمة الأنعام الصادق بالبدن، وبغيرها، وقد بينت الآية الأخيرة أن البدن داخلة في عموم الآية الأولى.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يرد نص عام، ثم يرد نص آخر يصرح بدخول بعض أفراده في عمومه، ومثلنا لذلك بعض الأمثلة وفي الآية العامة هنا أمر بالأكل، وإطعام البائس الفقير، وفي الآية الخاصة بالبدن: أمر بالأكل، وإطعام القانع والمعتر.
وفي هاتين الآيتين الكريمتين مبحثان.
الأول: حكم الأكل المأمور به في الآيتين هل هو الوجوب لظاهر صيغة الأمر، أو الندب والاستحباب؟
المبحث الثاني فيما يجوز الأكل منه لصاحبه، وما لا يجوز له الأكل منه، ومذاهب أهل العلم في ذلك.
أما المبحث الأول: فجمهور أهل العلم على أن الأمر بالأكل في الآيتين: للاستحباب، والندب، لا للوجوب، والقرينة الصارفة عن الوجوب في صيغة الأمر: هي ما زعموا من أن المشركين، كانوا لا يأكلون هداياهم فرخص للمسلمين في ذلك.
وعليه فالمعنى: فكلوا إن شئتم ولا تحرموا الأكل على أنفسكم كما يفعله المشركون، وقال ابن كثير في تفسيره: إن القول بوجوب الأكل غريب، وعزا للأكثرين أن الأمر للاستحباب قال: وهو اختيار ابن جرير في تفسيره، وقال القرطبي في تفسيره: فكلوا منها: أمر معناه: الندب عند الجمهور، ويستحب للرجل، أن يأكل من هديه وأضحيته، وأن يتصدق بالأكثر مع تجويزهم الصدقة بالكل، وأكل الكل وشذت طائفة، فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم:
"فكلوا وادخروا وتصدقوا" قال الكيا قوله تعالى: { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ } يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه، ولا التصدق بجميعه. انتهى كلام القرطبي.
ومعلوم: أن بيع جميعه لا وجه لحليته، بل ولا بيع بعضه، كما هو معلوم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أقوى القولين دليلاً: وجوب الأكل والإطعام من الهدايا والضحايا، لأن الله تعالى قال: { فَكُلُواْ مِنْهَا } في موضعين. وقد قدمنا أن الشرع واللغة دلا على أن صيغة أفعل: تدل على الوجوب إلا لدليل صارف، عن الوجوب، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك كقوله
{ { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63].
وأوضحنا جميع أدلة ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، منها آية الحج التي ذكرنا عندها مسائل الحج.
ومما يؤيد أن الأمر في الآية يدل على وجوب الأكل وتأكيده
"أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر مائة من الإبل فأمر بقطعة لحم من كل واحدة، منها فأكل منها وشرب من مرقها" . وهو دليل واضح على أنه أراد ألا تبقى واحدة، من تلك الإبل الكثيرة إلا وقد أكل منها أو شرب من مرقها، وهذا يدل على أن الأمر في قوله: { فَكُلُواْ مِنْهَا } ليس لمجرد الاستحباب والتخيير، إذ لو كان كذلك لاكتفى بالأكل من بعضها، وشرب مرقه دون بعض، وكذلك الإطعام فالأظهر فيه الوجوب.
والحاصل: أن المشهور عند الأصوليين: أن صيغة أفعل: تدل على الوجوب إلا لصارف عنه، وقد أمر بالأكل من الذبائح مرتين، ولم يقم دليل يجب الرجوع إليه صارف عن الوجوب وكذلك الإطعام، هذا هو الظاهر بحسب الصناعة الأصولية، وقد دلت عليها أدلة الوحي، كما قدمنا إيضاحه.
وقال أبو حيان في البحر المحيط: والظاهر وجوب الأكل والإطعام وقيل باستحبابهما. وقيل: باستحباب الأكل، ووجوب الإطعام. والأظهر أنه: لا تحديد للقدر الذي يأكله والقدر الذي يتصدق به، فيأكل ما شاء ويتصدق بما شاء، وقد قال بعض أهل العلم: يتصدق بالنصف، ويأكل النصف، واستدل لذلك بقوله تعالى: { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ } قال: فجزأها نصفين نصف له، ونصف للفقراء، وقال بعضهم: يجعلها ثلاثة أجزاء، يأكل الثلث ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث، واستدل بقوله تعالى:
{ { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ وَٱلْمُعْتَرَّ } [الحج: 36] فجزأها ثلاثة أجزاء، ثلث له، وثلث للقانع، وثلث للمعتر. هكذا قالوا وأظهرها الأول، والعلم عند الله تعالى، والبائس: هو الذي أصابه البؤس، وهو الشدة. قال الجوهري في صحاحه: وبئس الرجل بيأس بؤساً وبئساً: اشتدت حاجته، فهو بائس وأنشد أبو عمرو:

لبيضاء من أهل المدينة لم تذق بئيساً ولم تتبع حمولة مجحد

وهو اسم وضع موضع المصدر ا هـ منه يعني: أن البئيس في البيت لفظه لفظ الوصف، ومعناه المصدر، والفقير معروف، والقاعدة عند علماء التفسير: أن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وعلى قولهم: فالفقير هنا يشمل المسكين، لأنه غير مذكور معه هنا، وذلك هو مرادهم، بأنهما إذا افترقا اجتمعا، ومعلوم خلاف العلماء في الفقير والمسكين في آية الصدقة أيهما أشد فقراً، وقد ذكرنا حجج الفريقين وناقشناها في كتابنا (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة البلد، ومما استدل به القائل: إن الفقير أحوج من المسكين، وأن المسكين من عنده شيء لا يقوم بكفايته قوله تعالى: { { أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ } [الكهف: 79] الآية، قالوا: فسماهم مساكين، مع أن عندهم سفينة عاملة للإِيجار.
ومما استدل به القائلون بأن المسكين أحوج من الفقير: أن الله قال في المسكين:
{ { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [البلد: 16] قالوا: ذا متربة: أي لا شيء عنده. حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر، ليس له مأوى إلا التراب.
قال ابن عباس: هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له. وقال مجاهد: هو الذي لا يقيه من التراب لباس، ولا غيره انتهى من القرطبي. وعضدوا هذا بأن العرب تطلق الفقير على من عنده مال لا يكفيه، ومنه قول راعي نمير:

أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد

فسماه فقيراً مع أن له حلوبة قدر عياله.
وقد ناقشنا أدلة الفريقين مناقشة تبين الصواب في الكتاب المذكور، فأغناها ذلك عن إعادته هنا، والعلم عند الله تعالى.
وأما المبحث الثاني: وهو ما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز فقد اختلف فيه أهل العلم، وهذه مذاهبهم وما يظهر رجحانه بالدليل منها: فذهب مالكرحمه الله ، وأصحابه إلى جواز الأكل من جميع الهدي واجبه وتطوعه إذا بلغ محله إلا ثلاثة أشياء: جزاء لصيد، وفدية الأذى، والنذر الذي هو للمساكين وقال اللخمي: كل هدي واجب في الذمة، عن حج أو عمرة من فساد أو متعة أو قران، أو تعدي ميقات، أو ترك النزول بعرفة نهاراً، أو ترك النزول بمزدلفة أو ترك رمي الجمار أو أخر الحلق يجوز الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده. أما جزاء الصيد، وفدية الأذى فيؤكل منهما قبل بلوغها محلهما، ولا يؤكل منهما بعده. وأما النذر المضمون، إذا لم يسمه للمساكين: فإنه يأكل منه بعد بلوغه محله، وإن كان منذوراً معيناً، ولم يسمه للمساكين، أو قلده، وأشعره من غير نذر أكل منه بعد بلوغه محله، ولم يأكل منه قبله وإن عين النذر للمساكين أو نوى ذلك حين التقليد والإشعار لم يأكل منه قبل ولا بعد.
والحاصل: أن النذر المعين للمساكين لا يجوز له الأكل منه مطلقاً، عند مالك وأن النذر المضمون للمساكين، حكمه عند المالكية: حكم جزاء الصيد، وفدية الأذى فيمتنع الأكل منه بعد بلوغه محله، ويجوز قبله، لأنه باقي في الذمة حتى يبلغ محله. وأما النذر المضمون الذي لم يسم للمساكين كقوله: علي لله نذر أن أتقرب إليه بنحر هدي، فله عند المالكية: الأكل منه قبل بلوغ محله، وبعده، وقد قدمنا أن هدي التطوع إن عطب في الطريق. لا يجوز له الأكل منه عند المالكية، وأوضحنا دليل ذلك. هذا هو حاصل مذهب مالك في الأكل من الهدايا، ولا خلاف في جواز الأكل من الضحايا. وقد قدمنا قول اللخمي من المالكية: أن كل هدي جاز أن يأكل منه: جاز أن يطعم منه من شاء من غني وفقير، وكل هدي لم يجز له أن يأكل منه، فإنه يطعمه فقيراً، لا تلزمه نفقته كالكفارة. وكره ابن القاسم من أصحاب مالك إطعام الذمي من الهدايا كما تقدم. ومذهب أبي حنيفةرحمه الله : أنه يأكل من هدي التمتع والقران، وهدي التطوع إذا بلغ محله، أما إذا عطب هدي التطوع، قبل بلوغ محله، فليس لصاحبه الأكل منه عند أبي حنيفة كما تقدم إيضاحه. ولا يأكل من غير ذلك، هو ولا غيره من الأغنياء، بل يأكله الفقراء. هذا حاصل مذهب أبي حنيفةرحمه الله .
وأما مذهب الشافعيرحمه الله : فهو أن الهدي إن كان تطوعاً، فالأكل منه مستحب، واستدل بعضهم لعدم وجوب الأكل بقوله:
{ { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } [الحج: 36]. قالوا: فجعلها لنا وما هو للإنسان فهو مخير بين تركه، وأكله، ولا يخفى ما في هذا الاستدلال.
واعلم: أنا حيث قلنا في هذا المبحث: يجوز الأكل، فإنا نعني: الإذن في الأكل الصادق بالاستحباب، وبالوجوب لما قدمنا من الخلاف، في وجوب الأكل والإطعام، واستحبابهما، والفرق بينهما بإيجاب الإطعام دون الأكل، وكل هدي واجب لا يجوز الأكل منه في مذهب الشافعي، كهدي التمتع والقران، والنذر، وجميع الدماء الواجبة، قال النووي: وكذا قال الأوزاعي، وداود الظاهري: لا يجوز الأكل من الواجب. هذا هو حاصل مذهب الشافعي.
وأما مذهب أحمدرحمه الله : فهو أنه لا يأكل من هدي واجب، إلا هدي التمتع والقران، وأنه يستحب له أن يأكل من هدي التطوع، وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته، وما نحره تطوعاً من غير أن يوجبه هذا هو مشهور مذهب الإمام أحمد. وعنه رواية أنه لا يأكل من المنذور، وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما.
قال في المغني: وهو قول ابن عمر وعطاء والحسن وإسحاق، لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله الله تعالى بخلاف غيرهما.
وقال ابن أبي موسى: لا يأكل أيضاً من الكفارة، ويأكل مما سوى هذه الثلاثة، ونحوه مذهب مالك، لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين، ولا مدخل للإطعام فيه فأشبه التطوع. وقال الشافعي: لا يأكل من واجب، لأنه هدي واجب بالإحرام فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة. انتهى من المغني.
فقد رأيت مذاهب الأربعة فيما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يرجحه الدليل في هذه المسألة: هو جواز الأكل من هدي التطوع وهدي التمتع والقران دون غير ذلك والأكل من هدي التطوع لا خلاف فيه بين العلماء بعد بلوغه محله، وإنما خلافهم في استحباب الأكل منه، أو وجوبه ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع
"أنه أهدى مائة من الإبل" ومعلوم أن ما زاد على الواحدة منها تطوع، وقد أكل منها وشرب من مرقها جميعاً.
وأما الدليل على الأكل من هدي التمتع والقران، فهو ما قدمنا مما ثبت في الصحيح
"أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ذبح عنهن صلى الله عليه وسلم بقراً ودخل عليهن بلحمه وهن متمتعات وعائشة منهن قارنة وقد أكلن جميعاً مما ذبح عنهن في تمتعهن وقرانهن بأمره صلى الله عليه وسلم" وهو نص صحيح صريح في جواز الأكل من هدي التمتع والقران. أما غير ما ذكرنا من الدماء فلم يقم دليل يجب الرجوع إليه على الأكل منه، ولا يتحقق دخوله في عموم { فَكُلُواْ مِنْهَا } لأنه لترك واجب أو فعل محظور، فهو بالكفارات أشبه، وعدم الأكل منه أظهر وأحوط. والعلم عند الله تعالى.
مسألة في الأضحية
لا يخفى أن كلامنا في الهدي وأن الآية التي نحن بصددها ظاهرها أنها في الهدي، ولما كان عمومها قد تدخل فيه الأضحية. أردنا هذا أن نشير إلى بعض أحكام الأضحية باختصار.
اعلم أولاً: أن الأضحية فيها أربع لغات: أضحية بضم الهمزة، وإضحية بكسرها، وجمعهما أضاحي بتشديد الياء وتخفيفها، وضحية، وجمعها ضحايا، وأضحاة وجمعها: أضحى كأرطاة، وأرطى.
واعلم أنه لا خلاف في مشروعية الأضحية. قال بعض أهل العلم: وقد دل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى:
{ { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } [الكوثر: 2] على ما قاله بعض أهل التفسير، من أن المراد به: ذبح الأضحية بعد صلاة العيد، ولا يخفى أن صلاة العيد داخلة في عموم { فَصَلِّ لِرَبِّكَ } وأن الأضحية داخلة في عموم قوله { وَٱنْحَرْ }.
وأما الإِجماع: فقد أجمع جميع المسلمين على مشروعية الأضحية. وأما السنة فقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة صحيحة في مشروعية الأضحية وسنذكر طرفاً منها فيه كفاية إن شاء الله.
قال البخاري في صحيحه: باب أضحية النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين ويذكر سمينين. وقال يحيى بن سعيد: سمعت أبا أمامة بن سهل، قال: كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون. حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين" وأنا أضحي بكبشين. حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الوهاب عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انكفأ إلى كبشين أقرنين أملحين فذبحهما بيده" وقال إسماعيل وحاتم بن وردان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس تابعه وهيب عن أيوب، وقال: حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا الليث عن يزيد عن أبي الخير "عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنماً يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود، فذكره النبي صلى الله عليه وسلم فقال ضح به أنت" انتهى من صحيح البخاري. وفي لفظ له من "حديث أنس رضي الله عنه قال ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده" وفي لفظ للبخاري عن أنس أيضاً قال "ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما" وفي لفظ له عن أنس رضي الله عنه أيضاً "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين ويضع رجله على صفاحهما، ويذبحهما بيده" انتهى منه.
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة عن قتادة، عن أنس قال
"ضحى النَّبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمى وكبر ووضع رجله على صحافهما" وفي لفظ له "عن أنس رضي الله عنه قال ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين قال ورأيته يذبحهما بيده ورأيته واضعاً قدمه على صفاحهما قال: وسمى وكبر" ، وفي لفظ لمسلم عن أنس عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أنه قال ويقول. "بسم الله والله أكبر" . وقال مسلم في صحيحه أيضاً: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا عبدالله بن وهب قال: قال حيوة: أخبرني أبو صخر عن يزيد بن قسيط عن عروة بن الزبير، "عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبشين أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد، وينظر في سواد فأتى به ليضحي به فقال لها: يا عائشة، هلمي المدية ثم قال: أشحذيها بحجر، ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به" انتهى من صحيح مسلم، والأحاديث الواردة في مشروعية الأضحية كثيرة، معروفة.
وقد اختلف أهل العلم في حكمها فذهب أكثر أهل العلم: إلى أنها سنة مؤكدة في حق الموسر، ولا تجب عليه وقال النووي في شرح المهذب: وهذا مذهبنا وبه قال أكثر العلماء منهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وبلال، وأبو مسعود البدري، وسعيد بن المسيب وعطاء وعلقمة، والأسود، ومالك، وأحمد، وأبو يوسف، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني، وداود وابن المذنر، وقال ربيعة والليث بن سعد، وأبو حنيفة، والأوزاعي: هي واجبة على الموسر إلا الحاج بمنى. وقال محمد بن الحسن: هي واجبة على المقيم بالأمصار. والمشهور عن أبي حنيفة: أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصاباً. انتهى كلام النووي.
وقال النووي في شرح مسلم: واختلف العلماء في وجوب الأضحية، على الموسر، فقال جمهورهم: هي سنة في حقه إن تركها بلا عذر، لم يأثم، ولم يلزمه القضاء، وممن قال بهذا: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب إلى آخر كلامه قريباً مما ذكرنا عنه في شرح المهذب.
وقال ابن قدامة في المغني: أكثر أهل العلم على أنها سنة مؤكدة غير واجبة: روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وبلال، وأبي مسعود البدري رضي الله عنهم. وبه قال سويد بن غفلة وسعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود، وعطاء، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر. وقال ربيعة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وأبو حنيفة: هي واجبة ونقل ابن قدامة في المغني عن مالك وجوب الأضحية خلاف مذهبه، ومذهبه هو ما نقل عنه النووي: من أنها سنة، ولكنها عنده لا تسن على خصوص الحاج بمنى، لأن ما يذبحه هدي لا أضحية. وقد قدمنا أن آية الحج لا تخلو من دلالة على ما ذهب إليه مالك، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.
فإذا رأيت أقوال أهل العلم في حكم الأضحية، فهذه أدلة أقوالهم ومناقشتها، وما يظهر رجحانه بالدليل منها، على سبيل الاختصار.
أما من قال: إنها واجبة فقد استدل بأدلة منها أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعلها والله يقول:
{ { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21] الآية.
وقد قدمنا قول من قال من أهل الأصول إن فعله صلى الله عليه وسلم الذي لم تعلم جهته من وجوب أو غيره يحمل على الوجوب. وأوضحنا أدلة ذلك. وذكرنا أن صاحب مراقي السعود ذكره بقوله في كتاب السنة في مبحث أفعال النَّبي صلى الله عليه وسلم:

وكل ما الصفة فيه تجهل فللوجوب في الأصح يجعل

وذكرنا مناقشة الأقوال فيه في الحج، وغيره من سور القرآن.
ومن أدلتهم على وجوب الأضحية ما رواه البخاري في صحيحه: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا الأسود بن قيس: سمعت جندب بن سفيان البجلي قال: شهدت النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال:
"من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح" ا هـ. قالوا قوله: فليعد وقوله: فليذبح كلاهما صيغة أمر.
وقد قدمنا أن الصحيح عند أهل الأصول أن الأمر المتجرد عن القرائن، يدل على الوجوب، وبينا أدلة ذلك من الكتاب والسنة، ورجحناه بالأدلة الكثيرة الواضحة كقوله تعالى:
{ { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [النور: 63]. وقوله: { { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [طه: 93] فسمى مخالفة الأمر معصية، وقوله: { { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } [الأحزاب: 36] الآية. فجعل أمره وأمر رسوله مانعاً من الاختيار، موجباً للامتثال، وكقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" الحديث إلى آخر ما قدمنا، وحديث جندب بن سفيان الذي ذكرناه عن البخاري أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه بلفظ: "من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي أو نصلي، فليذبح مكانها أخرى ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله" وصيغة الأمر بالذبح في حديثه، واضحة كما بينا دلالتها على الوجوب آنفاً.
ومن أدلتهم على وجوب الأضحية: ما رواه أبو داود في سننه، حدثنا مسدد، ثنا يزيد ح وثنا حميد بن مسعدة، ثنا بشر عن عبدالله بن عون، عن عامر أبي رملة قال: أخبرنا مخنف بن سليم قال: ونحن وقوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات قال:
"يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة أتدرون ما العتيرة؟ هي: التي يقول عنها الناس: الرجبية" ا هـ منه.
وقال النووي في شرح المهذب: في هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، قال الترمذي: حديث حسن. قال الخطابي: هذا الحديث ضعيف المخرج، لأن أبا رملة مجهول. وهو كما قال الخطابي مجهول قال فيه ابن حجر في التقريب: عامر أبو رملة شيخ لابن عون لا يعرف ا هـ منه. وقال فيه الذهبي في الميزان: عامر أبو رملة شيخ لابن عون فيه جهالة له عن مخنف بن سليم عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:
"يا أيها الناس إن على كل بيت في الإسلام أضحية، وعتيرة" . قال عبد الحق: إسناده ضعيف، وصدقه ابن القطان لجهالة عامر، رواه عنه ابن عون ا هـ منه.
وبه تعلم أن قول ابن حجر في الفتح في حديث مخنف بن سليم أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي، خلاف التحقيق كما ترى. وقد قال أبو داود بعد أن ساق الحديث بسنده ومتنه كما ذكرناه عنه آنفاً. قال أبو داود: العتيرة: منسوخة هذا خبر منسوخ ا هـ منه. ولكنه لم يبين الناسخ، ولا دليل النسخ. وعلى كل حال فالحديث ضعيف لا يحتج به، لأن أبا رملة مجهول كما رأيت من قال ذلك.
ومن أدلتهم على وجوبها: ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا" قال ابن حجر في بلوغ المرام: في هذا الحديث رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم ورجح الأئمة غيره وقفه، وقال ابن حجر في فتح الباري: وأقرب ما يتمسك به لوجوب الأضحية، حديث أبي هريرة، رفعه "من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا" أخرجه ابن ماجه، وأحمد ورجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه والموقوف أشبه بالصواب. قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك فليس صريحاً في الإيجاب ا هـ منه.
وذكر النووي في شرح المهذب، من أدلة من أوجبها: ما جاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة يوم عيد" ثم قال رواه البيهقي. وقال: تفرد به محمد بن ربيعة، عن إبراهيم بن يزيد الخوزي وليسا بقويين، ثم قال: وعن عائذ الله المجاشعي، عن أبي داود نفيع "عن زيد بن أرقم أنهم قالوا: يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما هذه الأضاحي قال: سنة أبيكم إبراهيم (صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا وسلم)، قالوا: ما لنا فيها من الأجر؟ قال: بل كل قطرة حسنة" رواه ابن ماجه، والبيهقي. قال البيهقي: قال البخاري: عائذ الله المجاشعي عن أبي داود لا يصح حديثه، وأبو داود هذا ضعيف، ثم قال النووي: قال البخاري: عائذ الله المجاشعي عن أبي داود لا يصح حديثه، وأبو داود هذا ضعيف، ثم قال النووي: وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نسخ الأضحى كل ذبح، وصوم رمضان كل صوم والغسل من الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة" رواه الدارقطني والبيهقي قال: وهو ضعيف، واتفق الحفاظ على ضعفه، و "عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أستدين وأضحي؟ قال: نعم فإنه دين مقضي" رواه الدارقطني والبيهقي، وضعفاه قالا: وهو مرسل ا هـ كلام النووي. وما ذكره من تضعيف الأحاديث المذكورة: هو الصواب، وقد وردت أحاديث غير ما ذكرنا في الترغيب في الأضحية، وفيها أحاديث متعددة ليست بصحيحة. وهذا الذي ذكرنا هو عمدة من قال: بوجوب الأضحية، واستدلال بعض الحنفية على وجوبها بالإضافة في قولهم: يوم الأضحى قائلاً: إن الإضافة إلى الوقت، لا تحقق إلا إذا كانت موجودة فيه بلا شك، ولا تكون موجودة فيه بيقين، إلا إذا كانت واجبة لا يخفى سقوطه، لأن الإضافة تقع بأدنى ملابسة، فلا تقتضي الوجوب على التحقيق، كما لا يخفى.
وأقوى أدلة من قال بالوجوب: هو ما قدمنا في الصحيحين من حديث جندب بن سفيان البجلي، من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر من ذبح قبل الصلاة بالإعادة، وأمر من لم يذبح بالذبح. وقد قدمنا دلالة الأمر على الوجوب والحديث المختلف في وقفه ورفعه، الذي قدمنا، لأن قوله فيه
"فلا يقربن مصلانا" يفهم منه أن ترك الأضحية مخالفة غير هينة، لمنع صاحبها من قرب المصلى وهو يدل على الوجوب. والفرق بين المسافر والمقيم عند أبي حنيفة لا أعلم له مستنداً من كتاب ولا سنة، وبعض الحنفية يوجهه، بأن أداءها له أسباب تشق على المسافر، وهذا وحده لا يكفي دليلاً، لأنه من المعلوم أن كل واجب عجز عنه المكلف، يسقط عنه لقوله تعالى: { { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286].
وأما الذين قالوا: بأن الأضحية سنة مؤكدة، وليست بواجبة، فاستدلوا بأدلة منها: ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر المكي، حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن حميد بن عبدالرحمن بن عوف، سمع سعيد بن المسيب يحدث عن أم سلمة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاَ" قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه. قال: لكني أرفعه ا هـ وفي لفظ عنها، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم: "إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذن شعراً ولا يقلمن ظفراً" وفي لفظ له عنها مرفوعاً "إذا أراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره" ا هـ.
كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث زوجه أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، ووجه الاستدلال بها، على عدم الوجوب أن ظاهر الرواية: أن الأضحية موكولة إلى إرادة المضحي، ولو كانت واجبة لما كانت كذلك.
قال النووي في شرح المهذب: بعد أن ذكر بعد روايات حديث أم سلمة المذكورة ما نصه: قال الشافعي: هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم، وأراد فجعله مفوضاً إلى إرادته، ولو كانت واجبة لقال: فلا يمس من شعره، حتى يضحي ا هـ منه. وقال النووي في شرح المهذب أيضاً: واستدل أصحابنا، يعني لعدم الوجوب بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"هن علي فرائض وهن لكم تطوع: النحر، والوتر، وركعتا الضحى" رواه البيهقي بإسناد ضعيف. ورواه في موضع آخر وصرح بضعفه وللحديث المذكور طرق، ولا يخلو شيء منها من الضعف ولم يذكرها النووي. ثم قال النووي: وصح عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: أنهما كانا لا يضحيان، مخافة أن يعتقد الناس وجوبها ا هـ كلام النووي. وقال ابن حجر في فتح الباري: قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين. وقد استدل لعدم وجوبها: المجد في المنتقى بحديثين، ولا تظهر دلالتها على ذلك عندي كل الظهور. قال في المنتقى: باب ما احتج به في عدم وجوبها، بتضحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أمته: "عن جابر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه فقال: باسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي" وعن علي بن الحسين، عن أبي رافع "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب للناس أوتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: اللهم هذا عني وعن أمتي جميعاً من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول: هذا عن محمد وآل محمد فيطعمهما جميعاً المساكين، ويأكل هو وأهله منهما" فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤنة برسول الله صلى الله عليه وسلم والغرم رواه أحمد أ هـ من المنتقى.
وقال شارحه في نيل الأوطار: ووجه دلالة الحديثين، وما في معناهما على عدم الوجوب: أن تضحيته صلى الله عليه وسلم عن أمته وعن أهله تجزئ كل من لم يضح، سواء كان متمكناً من الأضحية أو غير متمكن، ثم تعقبه بقوله: ويمكن أن يجاب عن ذلك، بأن حديث
"على كل أهل بيت أضحية" يدل على وجوبها على كل أهل بيت، يجدونها فيكون قرينة على أن تضحية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غير الواجدين من أمته ولو سلم الظهور المدعي فلا دلالة له على عدم الوجوب، لأن محل النزاع من لم يضح عن نفسه، ولا ضحى عنه غيره، فلا يكون عدم وجوبها على من كان في عصره صلى الله عليه وسلم من الأمة مستلزماً، لعدم وجوبها على من كان في غير عصره صلى الله عليه وسلم منهم ا هـ. من نيل الأوطار. وقد رأيت أدلة القائلين بالوجوب، والقائلين بالسنة. والواقع في نظرنا أنه ليس في شيء من أدلة الطرفين، دليل جازم سالم من المعارض على الوجوب، ولا على عدمه لأن صيغة الأمر بالذبح في الحديث الصحيح وبإعادة من ذبح، قبل الصلاة، وإن كان يفهم منه الوجوب على أحد الأقوال، وهو المشهور في صيغة الأمر. فحديث أم سلمة الذي ظاهره: تفويض ذلك إلى إرادة المضحي، وهو في صحيح مسلم يمكن أ ن يكون قرينة صارفة عن الوجوب في صيغة الأمر المذكور، وكلا الدليلين لا يخلو من احتمال، وحديث "من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا" رجح أكثر الأئمة وقفه، وقد قدمنا أن ابن حجر قال: إنه ليس صريحاً في الإيجاب وأجاب القرطبي في المفهم عن دلالة صيغة الأمر في قوله: فليعد، وقوله: فليذبح وقال: لا حجة في شيء من ذلك، على الوجوب وإنما المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية، لمن أراد أن يفعلها أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأً أو جهلاً، فبين له وجه تدارك ما فرط منه ا هـ محل الغرض منه بواسطة نقل ابن حجر في الفتح.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي في مثل هذا الذي لم تتضح فيه دلالة النصوص على شيء معين إيضاحاً بيناً أنه يتأكد على الإنسان: الخروج من الخلاف فيه، فلا يترك الأضحية مع قدرته عليها، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ، فلا ينبغي تركها قادر عليها، لأن أداءها هو الذي يتيقن به براءة ذمته، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الأول: قد علمت: أن أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على أن الأضحية: سنة لا واجبة، والمالكية يقولون: إن وجوبها خاص به صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن الأحاديث الواردة في ذلك لا تخلو من ضعف، وقد استثنى مالك، وأصحابه الحاج بمنى، قالوا: لا تسن له الأضحية لأن ما يذبحه هدي لا أضحية، وخالفهم جماهير أهل العلم نظراً لعموم أدلة الأمر بالأضحية في الحاج وغيره، ولبعض النصوص المصرحة بمشروعية الأضحية للحاج بمنى. قال البخاري في صحيحه: باب الأضحية للمسافر والنساء: حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه،
"عن عائشة رضي الله عنها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وحاضت بسرف قبل أن تدخل مكة، وهي تبكي الحديث وفيه: فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ قالوا ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر" اهـ. وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة "عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، الحديث بطوله، وفيه فقالت: وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر" اهـ من صحيح مسلم. قالوا: فقد ثبت في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها: "أن النَّبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه ببقر يوم النحر بمنى" ، وهو دليل صحيح على مشروعية الأضحية للحاج بمنى.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين دليلاً عندي في هذا الفرع قول مالك وأصحابه، وإن خالفهم الجمهور، وأن الأضحية لا تسن للحاج بمنى، وأن ما يذبحه هدي لا أضحية، وأن الاستدلال بحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفاً لا تنهض به الحجة على مالك وأصحابه، ووجه كون مذهب مالك: أرجح في نظرنا هنا مما ذهب إليه جمهور أهل العلم، هو أن القرآن العظيم دال عليه، ولم يثبت ما يخالف دلالة القرآن عليه سالماً من المعارض من كتاب أو سنة، ووجه دلالة القرآن على أن ما يذبحه الحاج بمنى: هدي لا أضحية، هو ما قدمناه موضحاً لأن قوله تعالى: { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا } [الحج: 27- 28] الآية فيه معنى: أذن في الناس بالحج: يأتوك مشاة وركباناً لحكم. منها: شهودهم منافع لهم، ومنها: ذكرهم اسم الله: { عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } [الحج: 28]، عند ذبحها تقرباً إلى الله، والذي يكون من حكم التأذين فيهم بالحج، حتى يأتوا مشاة وركباناً، ويشهدوا المنافع ويتقربوا بالذبح، إنما هو الهدي خاصة دون الأضحية لإجماع العلماء على أن للمضحي: أن يذبح أضحيته في أي مكان شاءه من أقطار الدنيا ولا يحتاج في التقرب بالأضحية، إلى إتيانهم مشاة وركباناً من كل فج عميق. فالآية الظاهرة في الهدي، دون الأضحية، وما كان القرآن أظهر فيه وجب تقديمه على غيره، أما الاحتجاج بحديث عائشة المتفق عليه:
"أنه ضحى ببقر عن نسائه يوم النحر صلوات الله وسلامه عليه" فلا تنهض به الحجة، لكثرة الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنهن متمتعات، وأن ذلك البقر هدي واجب، وهو هدي التمتع المنصوص عليه في القرآن وأن عائشة منهن قارنة والبقرة التي ذبحت عنها: هدي قران، سواء قلنا إنها استقلت بذبح بقرة عنها وحدها، كما قدمناه في بعض الروايات الصحيحة، أو كان بالاشتراك مع غيرها في بقرة، كما قال به بعضهم: وأكثر الروايات ليس فيها لفظ: ضحى، بل فيها: أهدى، وفيها: ذبح عن نسائه وفيها: نحر عن نسائه فلفظ ضحى من تصرف بعض الرواة للجزم، بأن ما ذبح عنهم من البقر يوم النحر بمنى: هدي تمتع بالنسبة لغير عائشة، وهدي قران: بالنسبة إليها، كما هو معلوم بالأحاديث الصحيحة، التي لا نزاع فيها، وبهذا الذي ذكرنا تعلم أن ظاهر القرآن مع مالك، والحديث ليس فيه حجة عليه.
وقال ابن حجر في فتح الباري: في باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن بعد ذكره رواية: ضحى المذكورة ما نصه: والظاهر أن التصرف من الرواة، لأنه في الحديث ذكر النحر، فحمله بعضهم على الأضحية، فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك، كان عمن اعتمر من نسائه فقويت رواية من رواه بلفظ: أهدى، وتبين أنه هدي التمتع، فليس فيه حجة على مالك في قوله: لا ضحايا على أهل منى اهـ محل الغرض من فتح الباري، وهو واضح فيما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: اعلم أن من ذبح أضحية، قبل أن يصلي إمام المسلمين صلاة العيد، فإن ذبيحته لا تجزئه عن الأضحية، وإنما شاته التي ذبحها شاة لحم يأكلها هو من شاء. وليست بشاة نسك، وهذا ثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن زبيد اليامي، عن الشعبي، عن البراء رضي الله عنه قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:
"إن أول ما يبدأ به في يومنا هذا أن يصلي، ثم نرجع فننحر، من فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء" اهـ محل الغرض منه. وفي لفظ للبخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة. فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين" اهـ. وفي لفظ للبخاري، عن أنس بن مالك أيضاً قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر: "من كان ذبح قبل الصلاة فليعد" الحديث. وفي لفظ للبخاري من حديث البراء، عنه صلى الله عليه وسلم قال: "من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين" اهـ.
وقد قدمنا في حديث جندب بن سفيان البجلي أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى" الحديث إلى غير هذا من الروايات بمعناه في صحيح البخاري، وكون الأضحية المذبوحة قبل الصلاة: لا تجزئ صاحبها الذي ذكرنا في صحيح البخاري، أخرجه مسلم أيضاً من حديث جندب بن سفيان البجلي، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك رضي الله عنهم، فهذه الأحاديث المتفق عليها عن جندب والبراء وأنس: نصوص صريحة في أن من ذبح أضحيته قبل صلاة الإمام صلاة العيد: أنها لا تجزئه، وإن كان الإمام الأعظم، هو إمام الصلاة فلا إشكال، وإن كان إمام الصلاة غيره، فالظاهر: أن المعتبر إمام الصلاة، لأن ظاهر الأحاديث: أنها يشترط لصحتها، أن تكون بعد الصلاة، وظاهرها العموم سواء كان إمام الصلاة الإمام الأعظم أو غيره، والعلم عند الله تعالى.
والأظهر: أن من أراد أن يضحي بمحل لا تقام فيه صلاة العيد، أنه يتحرى بذبح أضحيته قدر ما يصلي فيه الإمام صلاة العيد عادة، ثم يذبح. والله تعالى أعلم.
وقد جاء في صحيح مسلم وغيره، ما يدل على عدم إجزاء ما نحر قبل نحره صلى الله عليه وسلم. وظاهره: أنه لا بد لإجزاء الأضحية، من أن تكون بعد الصلاة، وبعد نحر الإمام، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث: في سن الأضحية التي تجزئ. والأظهر: أن السن التي تجزئ في الأضحية هي التي تكون مسنة، فإن تعسرت المسنة أجزأته جذعة من الضأن.
قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" اهـ.
وقال النووي في شرح هذا الحديث ما نصه: قال العلماء: المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم، فما فوقها. وهذا تصريح: بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال. وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض، ونقل العبدري وغيره، من أصحابنا، عن الأوزاعي أنه قال: يجزئ الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن. وحكي هذا عن عطاء. وأما الجذع من الضأن فمذهبنا، ومذهب العلماء كافة: أنه يجزئ سواء وجد غيره أو لا وحكوا عن ابن عمر والزهري: أنهما قالا: لا يجزئ. وقد يحتج لهما بظاهر هذا الحديث. قال الجمهور: هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل، وتقديره: يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فجذعة ضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزئ بحال. وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره، لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن، مع وجود غيره وعدمه. وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم. إلى أن قال: والجذع من الضأن: ما له سنة تامة، هذا هو الأصح عند أصحابنا، وهو الأشهر عند أهل اللغة وغيرهم، وقيل ما له ستة أشهر.
وقيل: سبعة، وقيل: ثمانية، وقيل: ابن عشرة. حكاه القاضي، وهو غريب.
وقيل: إن كان متولداً من بين شابين، فستة أشهر، وإن كان من هرمين فثمانية أشهر اهـ محل الغرض منه. وقال في شرح المهذب: ثم الجذع ما استكمل سنة على أصح الأوجه إلى آخر الأوجه التي ذكرها في شرح مسلم. وتقدم نقلها عنه آنفاً. وقال أيضاً: وأما الثني من الإبل فما استكمل خمس سنين، ودخل في السادسة. وروى حرملة عن الشافعي أنه الذي استكمل ست سنين، ودخل في السابعة.
قال الروياني: وليس هذا قولاً آخر للشافعي، وإن توهمه بعض أصحابنا، ولكنه إخبار عن نهاية سن الثني، وما ذكره الجمهور بيان لابتداء سنه، وأما الثني من البقر فهو ما استكمل سنتين، ودخل في الثالثة.
وروى حرملة عن الشافعي: أنه اما استكمل ثلاث سنين، ودخل في الرابعة. والمشهور من نصوص الشافعي الأول وبه قطع الأصحاب وغيرهم من أهل اللغة وغيرهم. والثني من المعز فيه عندهم وجهان: أصحهما: ما استكمل سنتين. والثاني: ما استكمل سنه اهـ منه.
وقد علمت أن الثني هو المسن. قال ابن الأثير في النهاية في الجذع: هو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز: ما دخل في السنة الثانية، وقيل: البقر في الثالثة ومن الضأن: ما تمت له سنة، وقيل: أقل منها، ومنهم من يخالف بعض هذا في التقدير اهـ منه. وقال ابن الأثير في النهاية أيضاً: الثنية من الغنم ما دخلت في السنة الثالثة، ومن البقر كذلك، ومن الإبل: في السادسة والذكر ثني، وعلى مذهب أحمد بن حنبل: ما دخل من المعز في الثانية، ومن البقر في الثالثة.
وقال ابن الأثير في النهاية في المسنة، قال الأزهري: البقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن، إذا أثنيا، ويثنيان في السنة الثالثة.
وقال الجوهري في صحاحه: الجذع، قبل الثني والجمع جذعان وجذاع، والأنثى: جذعة، والجمع: جذعات تقول منه لولد الشاة في السنة الثانية، ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة، وللإبل في السنة الخامسة: أجذع والجذع اسم له في زمن ليس بسن تنبت ولا تسقط، وقد قيل: في ولد النعجة: إنه جذع في ستة أشهر، أو تسعة أشهر، وذلك جائز في الأضحية انتهى منه. وفي القاموس: والثنية: الناقة الطاعنة في السادسة، والبعير ثني والفرس الداخلة في الرابعة والشاة في الثالثة كالبقرة. اهـ منه.
وقد علمت مما مر: أن حديث مسلم الثابت فيه دل على أن الأضحية لا تكون إلا بمسنة، وأنها إن تعسرت فجذعة من الضأن، فمن ضحى بمسنة، أو بجذعة من الضأن عند تعسرها: فضحيته مجزئة إجماعاً.
واختلف أهل العلم فيما سوى ذلك، وهذه مذاهبهم وأدلتها.
فذهب مالكرحمه الله وأصحابه: إلى أن المجزئ في الضحية: جذع الضأن، وثني المعز والبقر، والإبل. وجذع الضأن عندهم: هو ما أكمل سنة على المشهور، وثني المعز عندهم: هو ما أكمل سنة، ودخل في الثانية دخولاً بيناً، فالدخول في السنة الثانية، دخولا بيناً هو الفرق عندهم بين جذع الضأن، وثني المعز.
ودليل مالك وأصحابه على ما ذكرنا عنهم في سن الأضحية: أن جذع الضأن عندهم، لا فرق بينه وبين جذعة الضأن المنصوص على إجزائها في صحيح مسلم، وأن الثني ثبت إجزاؤه مطلقاً، وتحديدهم له في المعز بما دخل في الثانية دخولاً بيناً من تحقيق المناط، والثني عندهم من البقر ابن ثلاث سنين والأنثى والذكر سواء عندهم. والثني عندهم من الإبل: ابن خمس سنين، والذكر والأنثى سواء.
ومعلوم أن الذكورة، والأنوثة في الضحايا والهدايا، وصفان طرديان، لا أثر لواحد منهما في الحكم فهما سواء. وقال بعض المالكية: إن الثني من البقر: ابن أربع سنين. والظاهر: أنه غير مخالف للقول الأول، وأن المراد به ابن ثلاث ودخل في الرابعة.
وقال ابن حبيب من المالكية: والثني من الإبل ابن ست سنين، والظاهر أيضاً أنه غير مخالف للقول الأول، لأن المراد به ابن خمس ودخل في السادسة، فإن قيل... سلمنا أن جذعة الضأن المنصوص عليها في حديث جابر عند مسلم: لا فرق بينها، وبين الجذع الذكر، لأن الذكورة والأنوثة في الهدايا والضحايا وصفان طرديان، لا أثر لهما في الحكم. ولكن ظاهر الحديث، يدل على أن جذعة الضأن الأنثى المذكورة في الحديث، لا يذبحها، إلا من تعسرت عليه المسنة، التي هي التثنية، لأن لفظ الحديث المتقدم
"لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" .
فالجواب: أن ظاهر الحديث أن الجذعة من الضأن: لا تجزئ إلا عند تعسر المسنة، وظاهره: أن الجذع الذكر من الضأن: لا يجزئ سواء عسر وجود المسنة، أو لم يعسر، وجمهور أهل العلم خالفوا ظاهر هذا الحديث من الجهتين المذكورتين، إلا ما روي عن ابن عمر، والزهري: من أن الجذع الذكر من الضأن لا يجزئ مطلقاً لظاهر هذا الحديث.
قال النووي: في شرحه لحديث مسلم: هذا ما نصه: قال العلماء: المسنة هي الثنية: من كل شيء من الإبل والبقر والغنم، فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال، وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض، ونقل العبدري وغيره من أصحابنا أنه قال: يجوز الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن، وحكي هذا عن عطاء، وأما الجذع من الضأن: فمذهبنا، ومذهب العلماء كافة: أنه يجزئ، سواء وجد غيره أو لا، وحكوا عن ابن عمر والزهري أنهما قالا: تجزئ، وقد يحتج لهما بظاهر الحديث، قال الجمهور: هذا الحديث محمول على الاستحباب، والأفضل وتقديره: يستحب لكم ألا تذبحوا إلا مسنة، فإن عجزتم فجذعة ضأن، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن، وأنها لا تجزئ بحال، وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره، لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه، وابن عمر والزهري: يمنعانه مع وجود غيره وعدمه، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الحديث ظاهر في أن جذعة الضأن: لا تجزئ إلا إذا تعسر وجود المسنة، لأن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح:
"لا تذبحوا إلا مسنة" نهي صريح عن ذبح غير المسنة، التي هي الثنية. والنهي: يقتضي التحريم كما تقرر في الأصول، إلا إذا وجد صارف عنه، وهو دليل ظاهر على أن جذعة الضأن: لا تجزئ إلا عند تعسر المسنة كما ترى، وسيأتي إن شاء الله إيضاح بقية هذا البحث بعد ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة، ومناقشة أدلتهم، وأما مذهب الشافعيرحمه الله في هذه المسألة: فهو أن الجذع لا يجزئ إلا من الضأن خاصة، والجذع من الضأن والجذعة عنده سواء، وأما غير الضأن: فلا يجزئ عنده منه إلا الثنية، أو الثني. وقد قدمنا كلام أهل العلم، واللغة في سن الجذع، والثني والجذعة والثنية والوجه الذي حكاه الرافعي: أن جذع المعز يجزئ عند الشافعية غلط كما صرح به النووي. وأما مذهب أبي حنيفة: فهو كمذهب الشافعي، وهو جواز التضحية بالجذع من الضأن خاصة، وبالثني من غير الضأن وهو المعز والإبل والبقر.
وقال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي ما نصه: والجذع من الضأن: ما تمت له ستة أشهر عند الفقهاء، وذكر الزعفراني: أنه ابن سبعة أشهر. والثني من الضأن، والمعز ابن سنة، ومن البقر: ابن سنتين، ومن الإبل: ابن خمس سنين، وفي القرب: الجذع من البهائم قبل الثني إلا أنه من الإبل قبل السنة الخامسة، ومن البقر والشاة في السنة الثانية، ومن الخيل في الرابعة، وعن الزهري الجذع من المعز لسنة، ومن الضأن لثمانية أشهر. اهـ منه.
والأصح: هو ما قدمنا في سن الجذع والثني عن الفقهاء، وأهل اللغة، ومذهب الإمام أحمد كمذهب أبي حنيفة والشافعي، فلا يجوز عنده الجذع إلا من الضأن خاصة، ولا يجوز من غير الضأن: إلا الثني، والجذع من الضأن عندهم: ما له ستة أشهر، ودخل في السابع، وثني المعز عندهم: إذا تمت له سنة، ودخل في الثانية، وثني البقر عندهم: إذا تمت له سنتان، ودخل في الثالثة، وثني الإبل عندهم: إذا تمت له خمس سنين، ودخل في السادسة. قاله ابن قدامة في المغني: وقال أيضاً قال الأصمعي، وأبو زياد الكلابي، وأبو زيد الأنصاري: إذا مضت السنة الخامسة على البعير، ودخل في السادسة، وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني، ونرى أنه إنما سمي ثنياً، لأنه ألقى ثنيته. وأما البقرة فهي التي لها سنتان، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تذبحوا إلا مسنة" ومسنة البقر التي لها سنتان، وقال وكيع: الجذع من الضأن يكون ابن سبعة أشهر. انتهى كلام المغني. وقد عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في السن، التي تجزئ ضحية من بهيمة الأنعام، وأنهم متفقون على إجزاء جذع الضأن، والثني من غيره مع بعض الاختلاف، الذي رأيت في سن الجذع والثني.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي: هو ما عليه جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وغيرهم: أنه لا يجزئ في الأضحية: الجذع إلا من الضأن خاصة، ومن غير الضأن وهو المعز، والإبل والبقر: لا يجزئ إلا الثني. فما فوقه. والذكر والأنثى سواء في الهدايا، والأضاحي كما تقدم.
والتأويل الذي قدمنا عن النووي في حديث جابر في قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" أنه متعين بحمله على الاستحباب، والأفضل يظهر لي أنه متعين كما قاله النووي، والقرينة الصارفة عن ظاهر حديث جابر المذكور عند مسلم: هي أحاديث أُخر جاءت من طرق عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أن الجذع من الضأن يجزئ، وظاهرها، ولو كان المضحي قادراً على المسنة، وسنذكرها هنا بواسطة نقل المجد في المنتقى، لأنه ذكرها في محل واحد، فمنها ما رواه الإمام أحمد والترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم أو نعمت الأضحية: الجذع من الضأن" ومنها: ما روه الإمام أحمد وابن ماجه، عن أم بلال بنت هلال، عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يجوز الجذع من الضأن ضحية" ومنها: ما رواه أبو داود وابن ماجه، عن مجاشع بن سليم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية" ومنها: ما رواه النسائي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجذع من الضأن" اهـ. بواسطة نقل المجد في المنتقى.
وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً، فتصلح بمجموعها للاحتجاج، وتعتضد بأن عامة أهل العلم، على العمل بها، إلا ما نقل عن ابن عمر والزهري. وقد دل حديث جابر المذكور عند مسلم: على أن الجذع من غير الضأن لا يجزئ، وهو كذلك، وحديث البراء بن عازب الثابت في الصحيحين أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بردة:
"ضح بجذعة من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك" دليل: على أن جذع المعز لا يجزئ في الأضحية. قال البخاري في صحيحه: باب قول النَّبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: "ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك" . حدثنا مسدد، حثدنا خالد بن عبدالله، حدثنا مطرف، "عن عامر عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: ضحى خال لي يقال له أبو بردة، قبل الصلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: شاتك شاة لحم، فقال: يا رسول الله، إن عندي داجناً جذعة من المعز. قال: اذبحها ولا تصلح لغيرك اهـ منه. وفي لفظ للبخاري من حديث البراء ولن تجزئ عن أحد بعدك وكذلك هي في بعض ألفاظ مسلم في حديث البراء المذكور ولن تجزئ عن أحد بعدك وفي لفظ عند مسلم من حديث البراء ضح بها ولا تصلح لغيرك وفي لفظ له عنه ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك" .
والروايات بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم رخص لأبي بردة في التضحية بعناق جذعة من المعز وصرح: بأنها لا تجزئ عن أحد بعده معروفة في الصحيحين وغيرهما: وهي دليل على أن جذع المعز لا يجزئ. فمن قال من أهل العلم بأنه يجزئ رد قوله بهذا الحديث الصحيح، المصرح بأن جذعة المعز لا تجزئ عن أحد بعد أبي بردة.
فإن قيل: جاء في الصحيحين من
"حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنماً يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضح به أنت" وهذا لفظ البخاري في صحيحه، وفي لفظ لمسلم "عن عقبة بن عامر الجهني المذكور رضي الله عنه قال: قسم النَّبي صلى الله عليه وسلم فينا ضحايا فأصابني جذع، فقلت: يا رسول الله أصابني جذع فقال: ضح به" اهـ منه. وروايات هذا الحديث الصحيح، عن عقبة بن عامر: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يضحي بجذع المعز، لأن العتود لا تطلق إلا على ولد المعز، والروايات مصرحة بأن المذكور جذع. وقال ابن الأثير في النهاية: والعتود من ولد المعز إذا قوي ورعى، وأتى عليه حول. وهذا حديث متفق عليه فيه الدلالة الصريحة: على جواز التضحية بجذع المعز، وذكر ابن حجر في الفتح: أن البيهقي ذكر زيادة في حديث عقبة بن عامر، المذكور "عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعقبة: ولا رخصة فيها لأحد بعدك" وقال ابن حجر: إن الطريق التي روى بها البيهقي الزيادة المذكورة صحيحة: وإن حاول بعضهم تضعيفها.
فالجواب: أن الجمع بين ما وقع لأبي بردة، وعقبة بن عامر أشكل على كثير من أهل العلم، ويزيده إشكالاً، أن الترخيص في الأضحية بجذع المعز ورد عنه صلى الله عليه وسلم لجماعة آخرين. قال ابن حجر في الفتح: فقد أخرج أبو داود وأحمد، وصححه ابن حبان من
"حديث زيد بن خالد أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتوداً جذعاً فقال: ضح به. فقلت: إنه جذع أفأضحي؟ قال: نعم ضح به فضحيت به" لفظ أحمد إلى أن قال: وفي الطبراني في الأوسط، من حديث ابن عباس "أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعاً من المعز فأمره أن يضحي به" وأخرجه الحاكم من حديث عائشة، وفي سنده ضعف، ولأبي يعلى، والحاكم من حديث أبي هريرة: "أن رجلاً قال: يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم هذا جذع من الضأن مهزول، وهذا جذع من المعز سمين، وهو خيرهما أفأضحي به؟ قال ضح به فإن لله الخير" انتهى بواسطة نقل ابن حجر في فتح الباري.
وإذا عرفت أن في الأحاديث المذكورة إشكالاً، فاعلم: أن الحافظ في الفتح تصدى لإزالة ذلك الإشكال، فقال في موضع بعد سوقه الأحاديث التي ذكرنا والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث، وبين حديثي أبي بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزئ، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك. وإنما قلت ذلك: لأن بعض الناس زعم أن هؤلاء شاركوا أبا بردة وعقبة في ذلك، والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير. انتهى محل الغرض منه بلفظه. ومقصوده:
"أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأحد ممن رخص لهم في التضحية بجذع المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك إلا لأبي بردة، وعقبة بن عامر على ما رواه البيهقي" ، والذين لم يقل لهم، ولن تجزئ عن أحد بعدك، لا إشكال في مسألتهم، لاحتمال أنها قبل تقرر الشرع بعدم إجزاء جذع المعز، فبقي الإشكال بين حديث أبي بردة، وحديث عقبة. وقد تصدى لحله ابن حجر في الفتح أيضاً فقال في موضع: وأقرب ما يقال فيه: إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، ولا مانع من ذلك، لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحا ا هـ محل الغرض منه. وقال في موضع آخر: وإن تعذر الجمع الذي قدمته، فحديث أبي بردة أصح مخرجاً ا هـ منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أما الجمع الذي ذكره ابن حجر، فالظاهر عندي: أنه لا يصح. وقوله: لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع غلط منهرحمه الله ، بل وقع في السياق التصريح باستمرار المنع لأن قوله صلى الله عليه وسلم
"ولن تجزئ عن أحد بعدك" صريح في استمرار منع الإجزاء عن غيره، لأن لفظة "لن" تدل على نفي الفعل في المستقبل من الزمن، فهي دليل صريح على استمرار عدم الإجزاء عن غيره، في المستقبل من الزمن ويؤيد ذلك أن قوله "عن أحد بعدك" نكرة في سياق النفي، فهي تعم كل أحد في كل وقت كما ترى.
والصواب: الترجيح بين الحديثين، وحديث أبي بردة لا شك أن لفظة
"ولن تجزئ عن أحد بعدك" فيه أصح سنداً من زيادة نحو ذلك في حديث عقبة، فيجب تقديم حديث أبي بردة، على حديث عقبة، كما ذكره ابن حجر في كلامه الأخير والله تعالى أعلم.
فإن قيل: ذكر جماعة من علماء العربية أن لفظة: لن: لا تدل على تأبيد النفي. قال ابن هشام في المغني في الكلام على لن: ولا تفيد توكيد النفي، خلافاً للزمخشري في كشافه، ولا تأبيده خلافاً له في أنموذجه، وكلاهما دعوى بلا دليل، قيل: ولو كانت للتأبيد، لم يقيد منفيها باليوم في
{ { فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } [مريم: 26] ولكان ذكر الأبد في { { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } [البقرة: 95] تكراراً والأصل عدمه اهـ محل الغرض منه.
فالجواب: أن قول الزمخشري بإفادة لن: التأبيد يجب رده، لأنه يقصد به استحالة رؤية الله تعالى يوم القيامة زاعماً أن قوله لموسى:
{ { لَن تَرَانِي } [الأعراف: 143] تفيد فيه لفظة: لن تأبيد النفي، فلا يرى الله عنده أبداً لا في الدنيا، ولا في الآخرة. وهذا مذهب معتزلي معروف باطل ترده النصوص الصحيحة في القرآن والأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن في ثبوتها. وقد بينا مراراً أن رؤية الله تعالى بالأبصار: جائزة عقلاً في الدنيا والآخرة. ولو كانت ممنوعة عقلاً في الدنيا لما قال نبي الله موسى { { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف: 143] لأنه لا يجهل المحال في حق خالقه تعالى، وأنها ممنوعة شرعاً في الدنيا ثابتة الوقوع في الآخرة، وإفادة لن التأبيد التي زعمها الزمخشري في الآية تردها النصوص الصحيحة الصريحة في الرؤية في الآخرة، ولا ينافي ذلك أن تفيد لن: التأبيد في موضع لم يعارضها فيه نص.
وبالجملة فقد اختلف أهل العربية في إفادة لن تأبيد النفي حيث لم يصرف عنه صارف، وعدم إفادتها لذلك، فعلى القول: بأنها تفيد التأبيد فقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة
"ولن تجزئ عن أحد بعدك" يدل على تأبيد نفي الإجزاء، كما ذكرنا وعلى عدم اقتضائها التأبيد، فلا تقل عن الظهور فيه، حتى يصرف عنه صارف، وبذلك كله تعلم: أن الجمع بين حديث أبي بردة، وحديث عقبة بن عامر، كالمتعذر فيجب الترجيح، وحديث أبي بردة أرجح. والعلم عند الله تعالى.
وهذا الذي ذكرنا في هذا الفرع هو حاصل كلام أهل العلم في السن التي تجزئ في الضحايا.
الفرع الرابع: اعلم: أنه لا يجوز في الأضحية إلا بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز بأنواعها، لقوله تعالى: { وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ } [الحج: 28] فلا تشرع التضحية بالظباء ولا ببقرة الوحش وحمار الوحش مثلاً. وقال النووي في شرح المهذب: ولا تجزئ بالمتولد من الظباء والغنم، لأنه ليس من بهيمة الأنعام. اهـ.
والظاهر أنه كذلك كما عليه جماهير أهل العلم، فما روي عن الحسن بن صالح من أن بقرة الوحش تجزئ عن سبعة، والظبي عن واحد، خلاف التحقيق. وعن أصحاب الرأي: أن ولد البقرة الإنسية يجزئ، وإن كان أبوه وحشياً وعن أبي ثور: يجزئ إن كان منسوباً إلى بهيمة الأنعام. والأظهر: أن المتولد من بين ما يجزئ، وما لا يجزئ، لا يجزئ بناء على قاعدة تقديم الحاظر على المبيح. ومعلوم أنها خالف فيها بعض أهل الأصول، وعلى كل حال، فالأحوط أن لا يضحي إلا ببهيمة الأنعام. لظاهر الآية الكريمة.
الفرع الخامس: اعلم: أن أكثر أهل العلم على أن أفضل أنواع الأضحية: البدنة، ثم البقرة، ثم الشاة، والضأن، أفضل من المعز. وسيأتي الكلام على حكم الاشتراك في الأضحية ببدنة، أو بقرة إن شاء الله. وكون الأفضل: البدنة، ثم البقرة، ثم شاة الضأن، ثم شاة المعز. قال النووي في شرح المهذب: هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، وأحمد، وداود. وقال مالك: أفضلها الغنم ثم البقر، ثم الإبل. قال: والضأن أفضل من المعز وإناثها أفضل من فحول المعز وفحول الضأن خير من إناث المعز، وإناث المعز خير من الإبل، والبقر. وقال بعض أصحاب مالك: الإبل أفضل من البقر.
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في أفضل ما يضحى به من بهيمة الأنعام فاعلم أن الجمهور الذين قالوا البدنة أفضل، ثم البقرة، ثم الشاة احتجوا بأدلة:
منها: أن البدنة أعظم من البقرة، والبقرة أعظم من الشاة، والله تعالى يقول:
{ { ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } [الحج: 32] الآية.
ومنها: ما قدمنا ثابتاً في الصحيح: أن البقرة والبدنة كلتاهما عن سبعة في الهدي، فكل واحد منهما تعدل سبع شياه. وكونها تعدل سبع شياه، دليل واضح على أنها أفضل من شاة واحدة.
ومنها: ما رواه الشيخان والإمام أحمد وأصحاب السنن، غير ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر" اهـ. قالوا: ففي هذا الحديث الصحيح الدلالة الواضحة، على أن البدنة أفضل، ثم البقرة، ثم الكبش الأقرن، ووجهه ظاهر. واحتج مالك، وأصحابه: على أن التضحية بالغنم: أفضل لأنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالغنم لا بالإبل ولا بالبقر. وقد قدمنا الأحاديث بتضحيته بكبشين أقرنين أملحين، وتضحيته بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، وكلها ثابتة في الصحيح كما قدمنا أسانيدها ومتونها. قالوا: وهو صلى الله عليه وسلم لا يضحي مكرراً ذلك عاماً بعد عام، إلا بما هو الأفضل في الأضحية. فلو كانت التضحية: بالإبل، والبقر أفضل لفعل صلى الله عليه وسلم ذلك الأفضل.
قالوا فإن قيل: أهدى في حجته الإبل، ولم يهد الغنم.
فالجواب: أنه أهدى الغنم أيضاً فبعث بها إلى البيت، ولو سلمنا أن الإبل أفضل في الهدي، فلا نسلم أنها أفضل في الأضحية، والمالكية لا ينكرون أفضلية الإبل في الهدي، وإنما يقولون: إن الغنم أفضل في الأضحية، ولكل من الغنم والإبل فضل من جهة، فالإبل أفضل من حيث كثرة لحمها، والغنم أفضل، من حيث إن لحمها أطيب، وألذ. وعند المالكية: فلا مانع من أن يراعي كل واحد من الوصفين في نوع من أنواع النسك، ودليل الجمهور ظاهر. لكن دليل المالكية أخص في محل النزاع، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يضح إلا بالغنم والخير كله في اتباعه في أقواله، وأفعاله، وما جاء عنه من تفضيل البدنة، ثم البقرة، ثم الكبش الأقرن، لم يأت في خصوص الأضحية. ولكن فعله صلى الله عليه وسلم في خصوص الأضحية والله تعالى يقول:
{ { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21].
والحاصل: أن لكل من القولين وجهاً من النظر. والله تعالى أعلم بالصواب.
واعلم: أن الجمهور أجابوا عن دليل مالك بأن تضحيته صلى الله عليه وسلم بالغنم، لبيان الجواز، أو لأنه لم يتيسر له في ذلك الوقت بدنة ولا بقرة، وإنما تيسرت له الغنم هكذا قالوا. وظاهر الأحاديث تكرر تضحيته صلى الله عليه وسلم بالغنم، وقد يدل ذلك على قصده الغنم دون غيرها، لأنه لو لم يتيسر له الإ الغنم سنة، فقد يتيسر له غيرها في سنة أخرى. والله تعالى أعلم.
فإن قيل: روى البيهقي عن ابن عمر كان صلى الله عليه وسلم يضحي بالجزور أحياناً وبالكبش إذا لم يجد الجزور.
فالجواب: أن الزرقاني في شرح الموطأ قال ما نصه: وحديث البيهقي عن ابن عمر كان صلى الله عليه وسلم يضحي بالجزور أحياناً، وبالكبش إذا لم يجد الجزور. ضعيف. في سنده عبد الله بن نافع، وفيه مقال. اهـ منه. وقد روى البيهقي في السنن الكبرى، عن أبي أمامة، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"خير الضحايا الكبش الأقرن" اهـ منه. وقد ذكر النووي أن فيه ضعفاً، ولا شك أنه تقويه الأحاديث الصحيحة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم على التضحية بالكبشين الأقرنين، أو الكبش الأقرن. كما تقدم إيضاحه.
الفرع السادس: اعلم: أن جمهور أهل العلم: أجازوا اشتراك سبعة، مضحين في بدنة أو بقرة، بأن يشتروها مشتركة بينهم، ثم يهدوا بها، أو يضحوا بها عن كل واحد سبعها.
وقد قدمنا النصوص الصريحة بذلك في الهدي، والظاهر: عدم الفرق في ذلك بين الهدي، والأضحية.
وخالف مالك وأصحابه الجمهور، فقالوا: لا يجوز ذبح بدنة مشتركة، ولا بقرة، وإنما يملكها واحد فيشرك غيره معه في الأجر. أما اشتراكهم في ملكها، فلا يجزئ عند مالك لا في الأضحية ولا في الهدي الواجب، وكذلك هدي التطوع خلافاً لأشهب من أصحابه.
واعلم: أن مالكاًرحمه الله حمل أحاديث اشتراك السبعة في البدنة والبقرة، على الاشتراك في الأجر، بأن يكون المالك واحداً، ويشكر غيره معه في الأجر لا في ملك الرقبة، وظاهر الأحاديث فيه الدلالة الواضحة على الاشتراك في الملك. وأجاز مالك للرجل: أن يضحي بالشاة الواحدة، ويشرك معه أهله في الأجر.
وقد قدمنا في الصحيح
"أن النَّبي صلى الله عليه وسلم ذبح كبشاً وقال: اللهم تقبل من محمد وآل محمد" .
والحاصل: أن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز اشتراك مالكين في شاة الأضحية، أما كون المالك واحداً فيضحي عن نفسه بالشاة وينوي اشتراك أهل بيته معه في الأجر، وأن ذلك يتأدى به الشعار الإسلامي عنهم جميعاً فلا ينبغي أن يختلف فيه. لدلالة النصوص الصحيحة عليه، كالحديث المذكور آنفاً وغيره، كحديث أبي أيوب الأنصاري: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه، وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، حتى تباهى الناس، فصار كما ترى. قال في المنتقى: رواه ابن ماجه، والترمذي، وصححه، وقال شارحه في النيل: وأخرجه مالك في الموطأ إلى غير ذلك من الأحاديث، والاشتراك المذكور في الأجر في الشاة الواحدة يصح ولو كانوا أكثر من سبعة، كما هو ظاهر النص، وكما صرح به المالكية وغيرهم واشترط المالكية لذلك شروطاً ثلاثة. وهي سكناهم مع المضحي، وقرابتهم منه، وإنفاقه عليهم، وإن تبرعاً. ولا أعلم لهذه الشروط مستنداً من الوحي إلا أن يكون يراد بها تحقيق المناط في مسمى الأهل، وأن أهل الرجل هم ما اجتمع فيهم الأوصاف الثلاثة، ولا تساعد على الشروط المذكورة في جميع النسك الأحاديث المتقدمة باشتراك كل سبعة من الصحابة في بدنة أو بقرة في عمرة الحديبية وفي الحج، لأن ذلك الاشتراك عند مالك في الأجر لا في الرقبة، وظاهر الأحاديث أنهم لم تجتمع فيهم الشروط المذكورة، والعلم عند الله تعالى.
وما ذكرنا من التضحية بالشاة الواحدة عن المضحي وأهله. قال ابن قدامة في المغني: نص عليه أحمد، وبه قال مالك، والليث والأوزاعي، وإسحاق، وروي ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة ثم قال: وكره ذلك الثوري، وأبو حنيفة، لأن الشاة لا تجزئ عن أكثر من واحد، فإذا اشترك فيها اثنان لم تجزئ عنهما كالأخبيبين اهـ منه. والحديث المتفق عليه المذكور: حجة على من خالفه.
الفرع السابع: اعلم: أنا قدمنا وقت الأضحية والهدي وأقوال أهل العلم في ذلك، بما أغنى عن إعادته هنا، وقد قدمنا حديث أم سلمة، عند مسلم المقتضي: أن من أراد أن يضحي لا ينبغي له أن يحلق شيئاً من شعره، ولا أن يقلم شيئاً من أظفاره في عشر ذي ا لحجة، حتى يضحي، وظاهر الحديث: تحريم ذلك، لأن في لفظ الحديث عند مسلم، عن أم سلمة عنه صلى الله عليه وسلم
"فلا يأخذن شعراً، ولا يقلمن ظفراً" وفي لفظ له عنها عنه صلى الله عليه وسلم: "فلا يمس من شعره وبشره شيئاً" وفي الألفاظ المذكورة في الحديث الصحيح النهي عن حلق الشعر، وتقليم الأظفار في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي، والنهي يقتضي التحريم إلا لصارف عنه يجب الرجوع إليه كما تقرر في الأصول، وقال الشافعية والمالكية، ومن وافقهم: إن الحلق وتقليم الأظفار مكروه كراهة تنزيه لا تحريم، لأن المضحي ليس بمحرم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحريم أظهر لظاهر الحديث، ولأنه صلى الله عليه وسلم يقول:
"وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" والتحريم المذكور لظاهر النص وجه للشافعية، قال النووي: حكاه أبو الحسن العبادي في كتابه الرقم، وحكاه الرافعي عنه لظاهر الحديث، وحكى الشيخ المواق في شرحه لخليل، عن أحمد، وإسحاق: تحريم الحلق، وتقليم الأظافر في عشر ذي الحجة لمريد التضحية، وقال ابن قدامة في المغني: قال بعض أصحابنا: بالتحريم، وحكاه ابن المنذر عن أحمد، وإسحاق، وسعيد بن المسيب، وقال القاضي، وجماعة من أصحابنا: هو مكروه غير محرم، وبه قال مالك والشافعي لقول عائشة: "كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقلدها بيده" ، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له، حتى ينحر الهدي متفق عليه، وقال أبو حنيفة: لا يكره ذلك، لأنه لا يحرم عليه الوطء واللباس، فلا يكره له حلق الشعر، وتقليم الأظفار، كما لو لم يرد أن يضحي. اهـ محل الغرض منه بلفظه.
وأظهر شيء في محل النزاع وأصرحه وأخصه فيه: حديث أم سلمة، وظاهره التحريم. وقال النووي في شرح المهذب: مذهبنا أن إزالة الشعر والظفر في العشر لمن أراد التضحية: مكروه كراهة تنزيه، حتى يضحي، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يكره، وقال سعيد بن المسيب، وأحمد، وربيعة، وإسحاق، وداود: يحرم، وعن مالك: أنه يكره، وحكى عنه الدارمي يحرم في التطوع، ولا يحرم في الواجب، ثم ذكر الدليلين المذكورين للقولين.
وقد ذكرنا آنفاً أن أخصهما في محل النزاع ظاهره التحريم: وهو حديث أم سلمة، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثامن: أجمع العلماء: على إجزاء الذكر والأنثى. واختلفوا أيهما أفضل، وظاهر النصوص الصحيحة: أن ذكور الضأن خير من إناثها، لتضحيته بالكبش، دون النعجة وبعضهم قال: بأفضلية الذكور مطلقاً، وبعضهم قال: بأفضلية الإناث مطلقاً ولم يقم دليل صحيح في غير ذكر الضأن فلا ينبغي أن يختلف في ذكر الضأن أنه أفضل من أنثاه.
الفرع التاسع: اعلم: أن منع ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث منسوخ. فقد دلت الأحاديث الصحيحة، على أنه صلى الله عليه وسلم منع ادخار لحم الأضاحي بعد ثلاث، ومنع المضحي أن يأكل من أضحيته، بعد ثلاث، ثم نسخ ذلك، وصار الأكل والادخار منها مباحاً مطلقاً. وسنذكر هنا إن شاء الله طرفاً من الأحاديث الصحيحة الدالة على المنع المذكور أولاً، وعلى نسخه وإباحة ذلك مطلقاً.
قال البخاريرحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو عاصم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:
"من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثه، وبقي في بيته منه شيء فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها" وحديث سلمة بن الأكوع، هذا أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه قريباً من لفظ البخاري. وقال مسلم بن الحجاجرحمه الله في صحيحه: حدثني عبد الجبار بن العلاء، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، "عن أبي عبيد قال: شهدت العيد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث" وفي لفظ لمسلم، عن علي أنه قال: "إنه صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا" .
وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأكل أحدكم من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام" وفي لفظ له عنه "أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث" ثم قال: قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. وفي لفظ: بعد ثلاث. وفي لفظ لمسلم، عن عبدالله بن واقد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال عبدالله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة فقالت: صدق سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: دف أهل أبيات من أهل البادية صفرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخروا ثلاثاً، ثم تصدقوا بما بقي فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويَجْمِلُونَ مِنْهَا الوَدَكَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قالوا نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال: إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا" .
وفي لفظ لمسلم عن جابر رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ثم قال بعد: كلوا وتزودوا وادخروا" .
وفي لفظ لمسلم عن عطاء، "عن جابر أيضاً أنه قال: كنا لا نأكل من لحوم بُدْنِنَا فوق ثلاث في منى فأرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا وتزودوا" قلت لعطاء: قال جابر: حتى جئنا المدينة: قال: نعم. وفي لفظ لمسلم، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: كنا لا نمسك لحوم الأضاحي، فوق ثلاث، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتزود منها، ونأكل يعني: فوق ثلاث، وفي لفظ له عنه: كنا نتزودها إلى المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أهل المدينة لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث" وقال ابن المثنى: ثلاثة أيام، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم عيالاً وَحَشَماً وخدماً فقال: "كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا" فقال ابن المثنى: شك عبد الأعلى.
وفي لفظ لمسلم،
"عن ثوبان رضي الله عنه قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحية ثم قال: يا ثوبان أصلح لهم هذه، فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة" .
وفي بعض ألفاظ حديث ثوبان، هذا عند مسلم أن ذلك في حجة الوداع.
وفي لفظ لمسلم، عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النَّبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً" اهـ منه.
فكل هذه الألفاظ الثابتة بالأسانيد الصحيحة في مسلم وبعضها في البخاري فيها الدلالة الصحيحة الصريحة: أن تحريم الادخار، والأكل من لحوم الأضاحي، فوق ثلاث: أنه منسوخ، وأن ذلك جائز مطلقاً، وفي بعض الروايات: تعليل ذلك النهي الموقت بمجيء بعض الفقراء من البادية، وهم المعبر عنهم في الحديث بالدافة.
قال ابن الأثير في النهاية: الدافة القوم يسيرون جماعة سيراً ليس بالشديد. يقال لهم يدفون دفيفاً، والدافة قوم من الأعراب يردون المصر يريد أنهم قدموا المدينة عند الأضحى، فنهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي، ليفرقوها ويتصدقوا بها، فينتفع أولئك القادمون بها. انتهى من النهاية.
تنبيه:
في هذا الحديث دليل لمن قال من أهل الأصول: باشتراط انعكاس العلة في صحتها، لأن علة تحريم ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث: هي وجود دافة فقراء البادية، الذين دفوا عليهم. ولما زالت هذه العلة زال الحكم معها، ودوران الحكم مع علته في العدم، هو المعروف في الاصطلاح بانعكاسها. والمقرر في الأصول: أن محل القدح في العلة بعدم انعكاسها فيما إذا كانت علة الحكم واحدة، لا إن كانت له علل متعددة، فلا يقدح في واحدة منها بعدم العكس، لأنه إذا انعدمت واحدة منها ثبت الحكم بالعلة الأخرى، كالبول، والغائط، لنقض الوضوء مثلاً. فإن البول يكون معدوماً وعلة النقض ثابتة بخروج الغائط، وهكذا. وكذلك مع كونها علة واحدة لا بد أيضاً في القدح فيها، بعدم العكس من عدم ورود دليل ببقاء الحكم مع ذهاب العلة، فإن دل دليل على بقاء الحكم، مع انتفاء العلة، فلا يقدح فيها بعدم العكس، كالرمل في الأشواط الأول، من الطواف، فإن علته هي أن يعلم المشركون: أن الصحابة أقوياء ولم تضعفهم حمى يثرب. وهذه العلة قد زالت مع أن حكمها وهو الرمل في الأشواط المذكورة باق لوجود الدليل على بقائه، لأنه صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع، والعلة المذكورة معدومة قطعاً زمن حجة الوداع كما قدمنا إيضاحه، وإلى هذه المسألة أشار صاحب مراقي السعود في مبحث القوادح بقوله:

وعدم العكس مع اتحاد يقدح دون النص بالتمادي

الفرع العاشر: أظهر قولي أهل العلم عندي: هو نسخ الأمر بالفرع والعتيرة. ونقل النووي في شرحه لمسلم، عن عياض: أن جماهير العلماء على نسخ الأمر بالفرع، والعتيرة. وذكر النووي أيضاً في شرحه لمسلم: أن الصحيح عند علماء الشافعية: استحباب الفرع والعتيرة قال: وهو نص الشافعي.
والدليل عندنا على أن الأظهر هو نسخهما: هو ثبوت ما يدل على ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال مسلم بن الحجاجرحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب قال يحيى: أخبرنا. وقال الآخرون: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ح وحدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد قال عبد: أخبرنا. وقال ابن رافع: حدثنا بعد الرزاق أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا فَرَعَ ولا عتيرة" زاد ابن رافع في روايته: والفرع: أول النتاج، كان ينتج لهم فيذبحونه اهـ من صحيح مسلم. وهذا الإسناد في غاية الصحة من طريقيه كما ترى. وفيه: تصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم، بأنه لا فرع. والعتيرة والفرع بالفاء والراء المفتوحتين بعدهما عين مهملة، جاء تفسيره، عن ابن رافع كما ذكره عنه مسلم فيما رأيت. وقال النووي: قال الشافعي، وأصحابه وآخرون: الفرع: هو أول نتاج البهيمة، كانوا يذبحونه، ولا يملكونه رجاء البركة في الأم، وكثرة نسلها، وهكذا فسره كثيرون من أهل اللغة وغيرهم، وقال كثيرون منهم: هو أول النتاج كانوا يذبحونه لآلهتهم: وهي طواغيتهم. وكذا جاء في هذا التفسير في صحيح البخاري، وسنن أبي داود وقيل: هو أول النتاج لمن بلغت إبله مائة يذبحونه. وقال شمر: قال أبو مالك: كان الرجل إذا بلغت إبله مائة قدم بكراً فنحره لصنمه، ويسمونه الفرع. اهـ محل الغرض منه.
وأما العتيرة بعين مهملة مفتوحة، ثم تاء مثناة من فوق فهي: ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب، ويسمونها الرجبية أيضاً، وحديث مسلم هذا الذي ذكرنا صريح في نسخ الأمر بها، لأن قوله
"لا فرع ولا عتيرة" نفي: أريد به النهي فيما يظهر كقوله: { { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ } [البقرة: 197] أي لا ترفثوا ولا تفسقوا، وعليه فيكون المعنى: لا تعملوا عمل الجاهلية في ذبح الفرع والعتيرة، ولو قدرنا أن الصيغة نافية، فالظاهر أن المعنى: لا فرع ولا عتيرة مطلوبان شرعاً، ونسخهما هو الأظهر عندنا للحديث الصحيح كما رأيت. ومن زعم بقاء مشروعيتهما، واستحبابهما فقد استدل ببعض الأحاديث، على ذلك، وسنذكر حاصلها بواسطة نقل النووي لأنه جمعها في محل واحد، فقال منها: حديث نبيشة رضي الله عنه قال: "نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فقال: اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا لله وأطعموا قال: إنا كنا نفرع فرعاً في الجاهلية، فما تأمرنا؟ فقال: في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه" رواه أبو داود، وغيره بأسانيد صحيحة. وقال ابن المنذر: هو حديث صحيح. قال أبو قلابة، أحد رواة هذا الحديث: السائمة مائة. ورواه البيهقي بإسناده الصحيح، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرعة من كل خمسين واحدة. وفي رواية: من كل خمسين شاة شاة. قال ابن المنذر: حديث عائشة صحيح، وفي سنن أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال الراوي: أراه عن جده. قال سئل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الفرع فقال: "الفرع حق وإن تركوه حتى يكون بكراً أو ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره وتكفأ إناؤك وتوله ناقتك" قال أبو عبيد في تفسير هذا الحديث: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "الفرع حق" ولكنهم كانوا يذبحونه حين يولد ولا شبع فيه، ولذا قال تذبحه، فيلزق لحمه بوبره، وفيه أن ذهاب ولدها يدفع لبنها، ولهذا قال "خير من أن تكفأ" يعني: أنك إذا فعلت ذلك، فكأنك كفأت إناءك وأرقته. وأشار به إلى ذهاب اللبن، وفيه: أنه يفجعها بولدها ولهذا قال: وتوله ناقتك فأشار بتركه، حتى يكون ابن مخاض، وهو ابن سنة، ثم يذهب وقد طاب لحمه واستمتع بلبن أمه، ولا تشق عليها مفارقته لأنه استغنى عنها. هذا كلام أبي عبيد. وروى البيهقي بإسناده عن الحارث بن عمر قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، أو قال: بمنى، وسأله رجل عن العتيرة؟ فقال: "من شاء عتر ومن شاء لم يعتر ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع" "وعن أبي رزين قال: يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنا كنا نذبح في الجاهلية ذبائح في رجب، فنأكل منها، ونطعم من جاءنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس بذلك" وعن أبي رملة، عن مخنف بن سليم قال: كنا وقوفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول: "يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدري ما العتيرة؟ هي: التي تسمى الرجبية" ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن. وقال الخطابي: هذا الحديث ضعيف المخرج، لأن أبا رملة مجهول، هذا مختصر ما جاء من الأحاديث في الفرع والعتيرة اهـ كلام النووي.
وقد قدمنا الكلام مستوفى على حديث مخنف بن سليم المقتضي: أن على كل أهل بيت في كل عام: أضحية وعتيرة، وقد علمت حجج الفريقين في الفرع والعتيرة.
وقد قدمنا أن الظهر عندنا فيهما: النسخ ويترجح ذلك بأمور:
منها: أن حديث مسلم المصرح بذلك أصح من جميع الأحاديث المذكورة في الباب.
ومنها: أن أكثر أهل العلم على النسخ في ذلك، كما ذكره النووي عن عياض.
ومنها: أن ذلك كان من فعل الجاهلية، وكانوا يتقربون بهما لطواغيتهم، وللمخالف أن يقول في هذا الأخير: إن المسلمين يتقربون بهما لله ويتصدقون بلحومهما. ولم نستقص أقوال أهل العلم في المسألة لقصد الاختصار، لطول الكلام في موضوع آيات الحج هذه.
الفرع الحادي عشر: اعلم: أن المعيبة لا تجوز التضحية بها، ولا تجزئ. والأصل في ذلك ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والبيهقي، والحاكم عن البراء بن عازب رضي الله عنه، وصححه الترمذي. وقال النووي: في حديث البراء: صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم، بأسانيد حسنة قال أحمد بن حنبل: ما أحسنه من حديث. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والعجفاء التي لا تنقى" وفي رواية "والكسير التي لا تنقى" والتي لا تنقى هي التي لا مخ فيها لأن النقى بكسر النون المشددة، وسكون القاف المخ. فقول العرب: أنقت تنقى إنقاء: إذا كان لها مخ ومنه قول كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه:

يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه إذا لم يكن في المنقيات حلوب

وقول الآخر:

ولا يسرق الكلب السرو نعالنا ولا ينتقي المخ الذي في الجماجم

وقال ابن الأثير في النهاية: الكسير: التي لا تنقى، أي التي لا مخ فيها لضعفها وهزالها. وقوله في الحديث: البين ضلعها: أي عرجها كما هو واضح، والضلع بفتح الضاد، واللام، وقد جاء في الحديث عن علي رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء" قال المجد في المنتقى: ورواه الخمسة، وصححه الترمذي. ومراده بالخمسة الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وقال الشوكاني في نيل الأوطار: في حديث علي المذكور: أخرجه أيضاً البزار وابن حبان والحاكم والبيهقي. وأعله الدارقطني، والمقابلة والمدابرة: كلتاهما بفتح الباء بصيغة اسم المفعول، والمقابلة، هي التي قطع شيء من مقدم أذنها ولم ينفصل، بل بقي لاصقاً بالأذن متدلياً والمدابرة: هي التي قطع شيء من مؤخر أذنها على نحو ما ذكرنا فيما قبلها، والخرقاء: التي في أذنها خرق مستدير، والشرقاء: مشقوق الأذن ا هـ. وضابط ما يمنع الإجزاء هو ما ينقص اللحم. وقال النووي في شرح المهذب: أجمعوا على أن العمياء لا تجزئ، وكذلك العوراء البيِّن عورها، والعرجاء البيِّن عرجها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء.
واختلفوا في ذاهبة القرن ومكسورته فمذهبنا: أنها تجزئ. قال مالك: إن كانت مكسورة القرن، وهو يدمي لم تجزه، وإلا فتجزئه. وقال أحمد: إن ذهب أكثر من نصف قرنها لم تجزه، سواء دميت أم لا، وإن كان دون النصف أجزأته. وأما مقطوعة الأذن، فمذهبنا: أنها لا تجزئ، سواء قطع كلها أو بعضها. وبه قال مالك، وداود وقال أحمد: إن قطع أكثر من النصف لم تجزه، وإلا فتجزئه. وقال أبو حنيفة: إن قطع أكثر من الثلث لم تجزه وقال أبو يوسف، ومحمد: إن بقي أكثر من نصف أذنها: أجزأت، وأما مقطوعة بعض الألية: فلا تجزئ عندنا، وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة في رواية: إن بقي الثلث أجزأت، وفي رواية: إن بقي أكثرها أجزأت وقال داود: تجزئ بكل حال. انتهى محل الغرض من كلام النووي.
ومعلوم أن هناك روايات أخر لم يذكرها عن الأئمة الذين نقل عنهم ولم نستقص هنا أقوال أهل العلم، لأن باب الأضحية جاء في هذا الكتاب استطراداً، مع أن الكلام في آيات الحج طال كثيراً، ولذلك اكتفينا هنا بهذه الجمل التي ذكرنا من أحكام الأضاحي.
مسألة
اعلم أنه لما كانت العمرة قرينة الحج في آيات من كتاب الله كقوله تعالى:
{ { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ } [البقرة: 196] وقوله: { { فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [البقرة: 158] وقوله: { { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ } [البقرة: 196] أردنا أن نذكر هنا حكم العمرة على سبيل الاختصار استطراداً والعمرة في اللغة الزيارة ومنه قول الراجز:

لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيداً من بعيد وخبر

وهي في الشرع: زيارة بيت الله للنسك المعروف المتركب من إحرام، وطواف وسعي وحلق أو تقصير.
واعلم: أن العلماء أجمعوا على أن من أحرم بالعمرة، وجب عليه إتمامها، ولا يجوز له قطعها وعدم إتمامها، لقوله تعالى:
{ { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ } [البقرة: 196].
أما حكم استئناف فعلها فقد اختلف فيه أهل العلم، فذهب بعضهم: إلى أنها واجبة في العمر كالحج، وذهب بعضهم: إلى أنها غير واجبة أصلاً، ولكنها سنة في العمر مرة واحدة، وممن قال: بأنها فرض في العمر مرة: الشافعي في الصحيح من مذهبه. قال النووي: وبه قال عمر وابن عباس، وابن عمر وجابر وطاوس، وعطاء، وابن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي، ومسروق، وأبو بردة بن أبي موسى الحضرمي، وعبدالله بن شداد، والثوري، وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وداود.
وممن قال: بأنها سنة في العمر ليست بواجبة: مالك وأصحابه، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وحكاه ابن المنذر وغيره، عن النخعي قاله النووي. وقال ابن قدامة في المغني: وتجب العمرة على من يجب عليه الحج في إحدى الروايتين. وروي ذلك عن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت، وابن عمر وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس ومجاهد والحسن، وابن سيرين، والشعبي. وبه قال الثوري، وإسحاق، والشافعي في أحد قوليه. والرواية الثانية ليست بواجبة، وروي ذلك عن ابن مسعود وبه قال مالك، وأبو ثور، وأصحاب الرأي اهـ. محل الغرض منه.
وإذا علمت أقوال العلماء في العمرة: هل هي فرض في العمر، أو سنة؟ فدونك أدلتهم، ومناقشتها باختصار مع بيان ما يظهر رجحانه منها.
أما الذين قالوا: العمرة فرض في العمر، فقد احتجوا بأحاديث:
منها: حديث أبي رزين العقيلي، وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى وهو أنه
"أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج، ولا العمرة ولا الظعن، فقال: حج عن أبيك واعتمر" رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي ومحل الدليل منه قوله: واعتمر، لأنه صيغة أمر بالعمرة، مقرونة بالأمر بالحج، فأفادت صيغة الأمر الوجوب كما أوضحنا توجيه ذلك مراراً في هذا الكتاب المبارك. وذكر غير واحد عن الإمام أحمدرحمه الله أنه قال: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثاً أجود من هذا ولا أصح.
ومن أدلتهم على وجوبها قوله تعالى:
{ { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ } [البقرة: 196] الآية بناء على أن المراد بإتمامها في الآية ابتداء فعلها على الوجه الأكمل، لا إتمامها بعد الشروع، وقد قدمنا الكلام في الآية بما أغنى عن إعادته هنا.
وأن الظاهر أن المتبادر منها: وجوب الإتمام بعد الشروع من غير تعرض إلى حكم ابتداء فعلها.
ومن أدلتهم على وجوبها: ما رواه الدارقطني من حديث زيد بن ثابت
"الحج والعمرة فريضتان لا يضرك أيهما بدأت" اهـ.
ومن أدلتهم على وجوب العمرة: ما جاء في بعض روايات حديث في سؤال جبريل: "وأن تحج وتعتمر" أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، وغيرهم. ورواه المجد في المنتقى بلفظ فقال:
"يا محمد ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء وتصوم رمضان" الحديث. وأنه قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" ثم قال المجد: رواه الدارقطني وقال: هذا إسناد ثابت صحيح. ورواه أبو بكر الجوزقي في كتابه المخرج على الصحيحين.
ومن أدلتهم على وجوبها: ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه
"عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هل على النساء من جهاد؟ قال: نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" اهـ قال المجد في المنتقى: رواه أحمد وابن ماجه، وإسناده صحيح، ومن أجوبة المخالفين عن هذه الأدلة الدالة على وجوب العمرة أن الحديث الذي قال أحمد: لا أعلم حديثاً أجود في إيجاب العمرة منه، وهو حديث أبي رزين العقيلي، الذي فيه: "حج عن أبيك واعتمر" أن صيغة الأمر في قوله: واعتمر واردة بعد سؤال أبي رزين، وقد قرر جماعة من أهل الأصول أن صيغة الأمر الواردة بعد المنع أو السؤال: إنما تقتضي الجواز لا الوجوب، لأن وقوعها في جواب السؤال، عن الجواز دليل صارف عن الوجوب، إلى الجواز والخلاف في هذه المسألة معروف.
وقد قدمنا الكلام عليه في آيات الحج هذه وأجابوا عن آية
{ وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَِّ } [البقرة: 196] بأن المراد بها: الإتمام بعد الشروع كما تقدم إيضاحه، وأجابوا عن حديث "الحج والعمرة فريضتان" الحديث. بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حجر في التلخيص: ثم هو عن ابن سيرين، عن زيد وهو منقطع ورواه البيهقي موقوفاً، على زيد من طريق ابن سيرين، وإسناده أصح وصححه الحاكم، ورواه ابن عدي والبيهقي من حديث ابن لهيعة، عن عطاء، عن جابر وابن لهيعة ضعيف. وقال ابن عدي: هو غير محفوظ، عن عطاء انتهى محل الغرض منه وبه تعلم أن حديث زيد بن ثابت المذكور: ليس بصالح للاحتجاج، وأجابوا عما جاء في حديث جبريل، عن عمر مرفوعاً بلفظ "وأن تحج وتعتمر" بجوابين.
أحدهما: أن الروايات الثابتة في صحيح مسلم، وغيره وليس فيها ذكر العمرة وهي أصح، وقد يجاب عن هذا بأن زيادة العدول مقبولة.
والجواب الثاني: هو ما ذكر الشوكانيرحمه الله في نيل الأوطار في شرحه للحديث المذكور، ونص كلامه.
فإن قيل: إن وقوع العمرة في جواب من سأل عن الإسلام: يدل على الوجوب فيقال: ليس كل أمر من الإسلام واجباً. والدليل على ذلك: حديث شعب الإسلام، والإيمان، فإنه اشتمل على أمور ليست بواجبة بالإجماع اهـ منه وله وجه من النظر.
وأجابوا عن حديث عائشة: بأن قوله صلى الله عليه وسلم:
"عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة" بأن لفظة: عليهن: ليست صريحة في الوجوب، فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة، وإذا كان محتملاً لإرادة الوجوب والسنة المؤكدة، لزم طلب الدليل بأمر خارج وقد دل دليل خارج على وجوب الحج، ولم يدل دليل خارج، يجب الرجوع إليه على وجوب العمرة.
هذا هو حاصل أدلة القائلين بوجوب العمرة مرة في العمر ومناقشة مخالفيهم لهم.
أما القائلون: بأن العمرة سنة لا فرض، فقد احتجوا أيضاً بأدلة:
منها: ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، والبيهقي، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد، عن جابر رضي الله عنه:
"أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ فقال: لا وأن تعتمر خير لك وفي رواية: أولى لك" وقال صاحب نيل الأوطار: وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عفير عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله، عن جابر بنحوه، ورواه ابن جريج، عن ابن المنكدر، عن جابر وقال ابن حجر في التلخيص، وفي الباب عن أبي صالح، عن أبي هريرة رواه الدارقطني، وابن حزم والبيهقي وإسناده ضعيف. وأبو صالح: ليس هو ذكوان السمان، بل هو: أبو صالح ماهان الحنفي، كذلك رواه الشافعي، عن سعيد بن سالم عن الثوري، عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحج جهاد والعمرة تطوع" ورواه ابن ماجه من حديث طلحة، وإسناده ضعيف. والبيهقي من حديث ابن عباس ولا يصح من ذلك شيء.
واستدل بعضهم ما رواه الطبراني من طريق يحيى بن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعاً:
"من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة" .
هذا هو حاصل أدلة من قالوا: بأن العمرة غير واجبة.
وأجاب مخالفوهم عن أدلتهم، قالوا: أما حديث سؤال الأعرابي النَّبي صلى الله عليه وسلم عن وجوب العمرة، وأنه أجابه: بأنها غير واجبة، وأنه إن اعتمر تطوعاً، فهو خير له بأنه حديث ضعيف، وتصحيح الترمذي له مردود، ووجه ذلك أن في إسناده: الحجاج بن أرطاة، وأكثر أهل الحديث على تضعيف الحجاج المذكور كما قدمناه مراراً، وقال ابن حجر في التلخيص: وفي تصحيحه نظر كثير من أجل الحجاج، فإن الأكثر على تضعيفه، والاتفاق على أنه مدلس، وقال النووي، ينبغي ألا يغتر بكلام الترمذي في تصحيحه، فإنه اتفق الحفاظ على تضعيفه وقد نقل الترمذي، عن الشافعي أنه قال: ليس في العمرة شيء ثابت: أنها تطوع. وأفرط ابن حزم فقال: إنه مكذوب باطل. اهـ محل الغرض من كلام ابن حجر. ثم قال بعد هذا في الحديث المذكور: أنه موقوف على جابر، وقال كذلك: رواه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر اهـ منه.
هذا هو حاصل حجج من قالوا: إن العمرة سنة لا واجبة.
وقال الشوكاني: في نيل الأوطار، بعد أن ساق الأحاديث، التي ذكرنا في عدم وجوب العمرة ما نصه: قال الحافظ: ولا يصح من ذلك شيء، وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره، وهو محتج به عند الجمهور، ويؤيده ما عند الطبراني: عن أبي أمامة مرفوعاً
"من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة، ومن مشى إلى صلاة غير مكتوبة، فأجره كعمرة" إلى أن قال والحق عدم وجوب العمرة، لأن البراءة الأصلية، لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف، ولا دليل يصلح لذلك، لا سيما مع اعتضاده بما تقدم من الأحاديث القاضية: بعدم الوجوب، ويؤيد ذلك اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الحج في حديث "بني الإسلام على خمس" واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله: { { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [آل عمران: 97] انتهى محل الغرض منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن ما احتج به كل واحد من الفريقين، لا يقل عن درجة الحسن لغيره، فيجب الترجيح بينهما، وقد رأيت الشوكاني: رجح عدم الوجوب بموافقته للبراءة الأصلية، والذي يظهر بمقتضى الصناعة الأصولية: ترجيح أدلة الوجوب، على أدلة عدم الوجوب وذلك من ثلاثة أوجه:
الأول: أن أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل: على الخبر المبقي على البراءة الأصلية، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار المدلول:

وناقل ومثبت والآمر بعد النواهي ثم هذا الآخر

على إباحة.. الخ.
لأن معنى قوله: وناقل أن الخبر الناقل عن البراءة الأصلية مقدم على الخبر المبقي عليها. وعزاه في شرحه المسمى: نشر البنود للجمهور، وهو المشهور عند أهل الأصول.
الثاني: أن جماعة من أهل الأصول: رجحوا الخبر الدال على الوجوب، على الخبر الدال على عدمه. ووجه ذلك: هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود المذكور آنفاً:

ثم هذا الآخر... على إباحة الخ

لأن مراده بالآخر المقدم على الإباحة: هو الخبر الدال على الأمر، فالأول الدال على النهي، لأن درأ المفاسد، مقدم على جلب المصالح، ثم الدال على الأمر للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب، ثم الدال على الإباحة ويشمل غير الواجب، فيدخل فيه المسنون والمندوب، لاشتراك الجميع في عدم العقاب على ترك الفعل.
الثالث: أنك إن علمت بقول من أوجبها فأديتها على سبيل الوجوب برئت ذمتك بإجماع أهل العلم من المطالبة بها، ولو مشيت على أنها غير واجبة فلم تؤدها على سبيل الوجوب بقيت مطالباً بواجب على قول جمع كثير من العلماء. والنَّبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ويقول: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" وهذا المرجح راجع في الحقيقة لما قبله، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن جميع السنة وقت للعمرة إلا أيام التشريق. فلا تنبغي العمرة فيها حتى تغرب شمس اليوم الرابع عشر، على ما قاله جمع من أهل العلم.
الفرع الثاني: اعلم أنه قد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:
"أن عمرة في رمضان، تعدل حجة. وفي بعض روايات الحديث في الصحيح حجة معي" .
الفرع الثالث: اعلم: أن التحقيق أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب بعد الهجرة قطعاً، وأنه لم يعتمر بعد الهجرة، إلا أربع عمر. الأولى: عمرة الحديبية في ذي القعدة، من عام ست، وصده المشركون، وأحل ونحر من غير طواف ولا سعي، كما هو معلوم. الثانية: عمرة القضاء في ذي القعدة، عام سبع: وهي التي وقع عليها صلح الحديبية.
وقد قدمنا في سورة البقرة وجه تسميتها عمرة القضاء وأوضحناه. الثالثة: عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان، بعد فتح مكة في رمضان عام ثمان. الرابعة: العمرة التي قرنها، مع حجة الوداع. هذا هو التحقيق.
وقد قدمنا الإشارة إليه ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام العمرة، لأن غالب أحكامها ذكرناه في أثناء كلامها على مسائل الحج. والعلم عند الله تعالى.