خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ
٢٩
-الحج

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [الحج: 29] صيغة الأمر في هذه الآية الكريمة: تدل على وجوب الإيفاء بالنذر، كما قدمنا مراراً أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب، على الأصح، إلا لدليل صارف عنه.
ومما يدل من القرآن على لزوم الإيفاء بالنذر: أنه تعالى أشار إلى أنه هو، والخوف من أهوال يوم القيامة، من أسباب الشرب من الكأس الممزوجة بالكافور في قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } [الإنسان: 5-6] ثم أشار إلى بعض أسباب ذلك فقال: { { يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } [الإنسان: 7] فالوفاء بالنذر ممدوح على كل حال، وإن كانت آية الإنسان ليست صريحة في وجوبه، وكذلك قوله في سورة البقرة: { { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ } [البقرة: 270] الآية. وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان بالقرآن، إن لم يكن وافياً بالمقصود أتممناه بالبيان بالسنة. ولذلك سنبين هنا ما تقتضيه السنة من النذر الذي يجب الإيفاء به، والذي لا يجب الإيفاء به.
اعلم أولاً: أن الأمر المنذور له في الجملة حالتان:
الأولى: أن يكون فيه طاعة لله.
والثانية: ألا يكون فيه طاعة لله، وهذا الأخير منقسم إلى قسمين.
أحدهما: ما هو معصية لله.
والثاني: ما ليس فيه معصية في ذاته، ولكنه ليس من جنس الطاعة كالمباح الذي لم يؤمر به.
والذي يجب اعتماده بالدليل في الأقسام الثلاثة المذكورة: أن المنذور إن كان طاعة لله، وجب الإيفاء به، سواء كان في ندب كالذي ينذر صدقة بدراهم على الفقراء، أو ينذر ذبح هدي تطوعاً أو صوم أيام تطوعاً، ونحو ذلك. فإن هذا ونحوه، يجب بالنذر، ويلزم الوفاء به. وكذلك الواجب إن تعلق النذر بوصف، كالذي ينذر أن يؤدي الصلاة في أول وقتها، فإنه يجب عليه الإيفاء بذلك.
أما لو نذر الواجب كالصلوات الخمس، وصوم رمضان، فلا أثر لنذره، لأن إيجاب الله لذلك أعظم من إيجابه بالنذر، وإن كان المنذور معصية لله: فلا يجوز الوفاء به، وإن كان جائزاً لا نهي فيه، ولا أمر فلا يلزم الوفاء به.
أما الدليل على وجوب الإيفاء في نذر الطاعة وعلى منعه في نذر المعصية فهو: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه ذلك.
قال البخاريرحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مالك، عن طلحة بن عبدالملك، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" اهـ. وهو ظاهر في وجوب الإيفاء بنذر الطاعة، ومنع الإيفاء بنذر المعصية.
وقال البخاري أيضاً: حدثنا أبو عاصم، عن مالك، عن طلحة بن عبدالملك، إلى آخر الإسناد والمتن المذكورين آنفاً.
وإذا علمت أن هذا الحديث الصحيح، قد دل على لزوم الإيفاء بنذر الطاعة، ومنعه في نذر المعصية.
فاعلم: أن الدليل على عدم الإيفاء بنذر الأمر الجائز: هو أنه ثبت أيضاً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
قال البخاريرحمه الله في صحيحه: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب، عن عكرمة عن ابن عباس قال:
"بينا النَّبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: مره فليتكلم، وليستظل وليقعد، وليتم صومه" اهـ محل الغرض من صحيح البخاري. وفيه التصريح بأن ما كان من نذره من جنس الطاعة، وهو الصوم أمره صلى الله عليه وسلم بإتمامه، وفاء بنذره وما كان من نذره مباحاً لا طاعة، كترك الكلام، وترك القعود، وترك الاستظلال، أمره بعدم الوفاء به، وهو صريح في أنه لا يجب الوفاء به.
واعلم أنا لم نذكر أقوال أهل العلم هنا للاختصار، ولوجود الدليل الصحيح من السنة على ما ذكرنا.
فروع تتعلق بهذه المسألة:
الفرع الأول: اعلم أنه لا نذر لشخص في التقرب بشيء لا يملكه، وقد ثبت ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
قال مسلم بن الحجاجرحمه الله في صحيحه: وحدثني زهير بن حرب، وعلي بن حجر السعدي واللفظ لزهير قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال:
"كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث بطوله.
وفيه ما نصه: وأسرت امرأة من الأنصار، وأصيبت العضباء فكانت المرأة في الوثاق، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإِبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء، فلم ترغ قال: وناقة منوقة فقعدت في عجزها، ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها فطلبوها، فأعجزتهم قال: ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها. فلما قدمت المدينة، رآها الناس فقال: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: سبحان الله بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد"
الحديث. ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا فيما لا يملك العبد" وهذا نص صحيح صريح فيما ذكرنا، ويؤيده حديث ثابت بن الضحاك: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا وفاء لنذر في معصية الله ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك ابن آدم" اهـ.
قال الحافظ في بلوغ المرام: رواه أبو داود والطبراني، واللفظ له، وهو صحيح الإسناد، وله شاهد من حديث كردم عند أحمد.
الفرع الثاني: اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن نذر نذراً لا يلزم الوفاء به هل تلزمه كفارة يمين، أو لا يلزمه شيء؟ وحجة من قال: لا يلزمه شيء: هو حديث نذر أبي إسرائيل، أنه لا يقعد ولا يتكلم، ولا يستظل، وقد أمره النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المذكور آنفاً: أنه لا يفي بهذا النذر، ولم يقل له إن عليه كفارة يمين.
وقد قدمنا هذا في سورة مريم موضحاً. وقد قدمنا أن القرطبي قال في قصة أبي إسرائيل: هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة، على من نذر معصية، أم ما لا طاعة فيه. فقد قال مالك: لما ذكره ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره بالكفارة، وأما الذين قالوا: إن النذر الذي لا يجب الوفاء به تجب فيه كفارة يمين فقد احتجوا بما رواه مسلم، في صحيحه: وحدثني هارون بن سعيد الأيلي، ويونس بن عبد الأعلى، وأحمد بن عيسى، قال يونس: أخبرنا وقال الآخران: حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن كعب بن علقمة، عن عبدالرحمن بن شماسة، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"كفارة النذر كفارة اليمين" اهـ، وظاهره شموله للنذر الذي لا يجب الوفاء به.
وقال النووي في شرح مسلم: اختلف العلماء في المراد به، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلاً: إن كلمت زيداً مثلاً، فلله علي حجة، أو غيرها، فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين، وبين ما التزمه. هذا هو الصحيح في مذهبنا، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله: علي نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث، على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير في جميع المنذورات بين الوفاء بما التزم، وبين كفارة يمين والله أعلم اهـ كلام النووي.
ولا يخفى بعد القول الأخير لقوله تعالى: { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [الحج: 29] فهو أمر جازم مانع للتخيير بين الإيفاء به، وبين شيء آخر.
والأظهر عندي في معنى الحديث: أن من نذر نذراً مطلقاً كأن يقول: علي لله نذر أنه تلزمه كفارة يمين، لما رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين" وروي نحوه أبو داود، وابن ماجه، عن ابن عباس، وفي الحديثين بيان المراد بحديث مسلم، بأن المراد به: النذر المطلق الذي لم يسم صاحبه ما نذهر، بل أطلقه والبيان يجوز بكل ما يزيد الإيهام، كما قدمناه مراراً، والمطلق يحمل على المقيد.
ومما يؤيد القول بلزوم الكفارة في نذر اللجاج: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما حرم شرب العسل على نفسه في قصة ممالأة أزواجه عليه. وأنزل الله في ذلك:
{ { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } [التحريم: 1] قال الله بعد ذلك: { { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [التحريم: 2] فدل ذلك على لزوم كفارة اليمين، وكذلك قال ابن عباس وغيره: بلزوم كفارة اليمين، على القول بأنه حرم جاريته، والأقوال فيمن حرم زوجته، أو جاريته، أو شيئاً من الحلال معروفة عند أهل العلم. فغير لزوجة والأمة لا يحرم بالتحريم قولاً واحداً والخلاف في لزوم كفارة اليمين، وعدم لزومها، وظاهر الآية لزومها، وبعض العلماء يقول: لا يلزم فيه شيء وهو مذهب مالك وأصحابه، أما تحريم الرجل امرأته أو جاريته، ففيه لأهل العلم ما يزيد على ثلاثة عشر مذهباً معروفة في محلها، وأجراها على القياس في تحريم الزوجة لزوم كفارة الظهار، لأن من قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فهو بمثابة ما لو قال لها: أنت حرام، والظهار نص الله في كتابه، على أن فيه كفارته المنصوصة في سورة المجادلة.
أما نذر اللجاج فقد قدمنا القول، بأن فيه كفارة يمين، والمراد بنذر اللجاج النذر الذي يراد به الامتناع من أمر لا التقرب إلى الله.
قال ابن قدامة في المغني: وجملته أنه إذا أخرج النذر مخرج اليمين، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئاً، أو يحث به على شيء مثل أن يقول: إن كلمت زيداً، فلله علي الحج أو صدقة مالي أو صوم سنة، فهذا يمين، حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه، فلا يلزمه شيء، وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين، ويسمى نذر اللجاج، والغضب، ولا يتعين الوفاء به، ثم قال: وهذا قول عمر وابن عباس، وابن عمر وعائشة وحفصة، وزينب بنت أبي سلمة، وبه قال عطاء، وطاوس وعكرمة، والقاسم والحسن، وجابر بن زيد، والنخعي، وقتادة وعبد الله بن شريك، والشافعي، والعنبري وإسحاق وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، وقال سعيد بن المسيب: لا شيء في الحلف بالحج، وعن الشعبي، والحارث العكلي وحماد والحكم: لا شيء في الحلف بصدقة ماله، لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله لحرمة الاسم، وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه، لأنه لم يخرجه مخرج القربة، وإنما التزمه على طريق العقوبة، فلم يلزمه. وقال أبو حنيفة ومالك: يلزمه الوفاء بنذره، لأنه نذر فيلزم الوفاء به كنذر البر. وروي نحو ذلك عن الشعبي.
ولنا ما روى عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين" إلى أن قال: "من حلف بالمشي والهدي، أو جعل ماله في سبيل الله أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته يمين" إلى أن قال: وعن أحمد رواية ثانية: أنه تتعين الكفارة، ولا يجزئه الوفاء بنذره. وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه يمين اهـ محل الغرض من المغني، وروى أبو داود، عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني القسمة، فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم وفيما لا تملك" اهـ رواه أبو داود وسعيد بن المسيب: لم يصح سماعه عن عمر. قاله بعضهم: وعليه فهو من مراسيل سعيد، وذكر جماعة أنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه، وعن أحمد ما يدل على سماع سعيد، من عمر وأنه قال: إن لم نقبل سعيداً، عن عمر، فمن يقبل. والظاهر سماعه من عمر كما صدر بما يدل عليه صاحب تهذيب التهذيب، وعن مالك وغيره أنه لم يدرك عمر وحديث سعيد المذكور عن عمر: إما متصل، وإما مرسل من مراسيل سعيد، وقد قدمنا كلام العلماء فيها.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب، فهو منقطع، وروي نحوه عن عائشة: أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة. فقالت: يكفر عن اليمين. أخرجه مالك، والبيهقي بسند صحيح. وصححه ابن السكن اهـ. ولفظ مالك في الموطأ فقالت عائشة رضي الله عنها: يكفره ما يكفر اليمين، وليس في الموطأ أن فتواها هذه في نذر لجاج بل الذي فيه: أنها سئلت عن رجل قال: مالي في رتاج الكعبة. وهو بابها وهو براء مكسورة، فمثناة فوقية بعدها ألف فجيم.
وهذا الذي ذكرنا هو: حاصل حجة من قال: إن نذر اللجاج فيه كفارة يمين، وهو الأقرب عندي لما ذكرنا، خلافاً لمن قال: لا شيء فيه. وأما نذر المعصية فلا خلاف في أنه حرام، وأن الوفاء به ممنوع، وإنما الخلاف في لزوم الكفارة به فذهب جمهور أهل العلم أنه لا كفارة فيه، وعن أحمد والثوري وإسحاق، وبعض الشافعية، وبعض الحنفية: فيه الكفارة وذكر الترمذي: اختلاف الصحابة في ذلك، واحتج من قال: بأنه ليس فيه كفارة بالأحاديث الصحيحة، الواردة بأنه: لا نذر في معصية، ونفي نذر المعصية مطلقاً: يدل على نفي أثره، فإذا انتفى النذر من أصله انتفت كفارته لأن التابع ينتفي بانتفاء المتبوع. وإن قلنا: إن الصيغة في قوله: لا نذر في معصية، خبر أريد به الإنشاء وهو النهي عن نذر المعصية، فالنهي يقتضي الفساد، وإذا فسد المنذور بالنهي، بطل معه تأثيره في الكفارة. قالوا: والأصل براءة الذمة من الكفارة. قالوا: ومما يؤيد ذلك الأحاديث الواردة بأنه: لا نذر إلا فيما ابتغى به وجه الله. قال المجد في المنتقى: رواه أحمد، وابو داود وفي لفظ عند أحمد: إنما النذر ما ابتغى به وجه الله، وهو من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده. وفي إسناده مناقشات تركناها اختصاراً، واحتج من قال: بأن في نذر المعصية كفارة ببعض الأحاديث الواردة بذلك.
منها: ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" قال المجد في المنتقى: رواه الخمسة، واحتج به أحمد، وإسحاق. ومعلوم أن مراده بالخمسة، الإمام أحمد وأصحاب السنن، ولفظ أبي داود في هذا الحديث:
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر، ثنا عبد الله بن المبارك، عن يونس عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" .
حدثنا ابن السرح قال: ثنا وهب عن يونس، عن ابن شهاب بمعناه. وإسناده قال أبو داود: سمعت أحمد بن شَبُّوَيه، يقول: قال ابن المبارك: يعني في هذا الحديث: حدث أبو سلمة، فدل ذلك على أن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة، وقال أحمد بن محمد: وتصديق ذلك، ما حدثنا أيوب يعني ابن سليمان قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أفسدوا علينا هذا الحديث، قيل له: وصح إفساده عندك، وهل رواه غير ابن أبي أويس؟ قال: أيوب كان أمثل منه، يعني: أيوب بن سليمان بن بلال، وقد رواه أيوب.
حدثنا أحمد بن محمد المروزي، ثنا أيوب بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن ابن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سليمان بن أرقم: أن يحيى بن أبي كثير أخبره، عن أبي سملة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" قال أحمد بن محمد المروزي: إنما الحديث حديث علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير، عن أبيه عن عمران بن حصين، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أراد أن سليمان بن أرقم وهم فيه، وحمله عنه الزهري، وأرسله عن أبي سلمة عن عائشة رحمها الله!
قال أبو داود: روى بقية عن الأوزاعي، عن يحيى، عن محمد بن الزبير بإسناد علي بن المبارك مثله اهـ من سنن أبي داود بلفظه. وفيه سوء ظن كثير بالزهري، وهو أنه حذف من إسناد الحديث واسطتين: وهما سليمان بن أرقم، ويحيى بن أبي كثير، وأرسله عن أبي سلمة وكذلك قال الترمذي بعد إخراجه لحديث عائشة المذكور، لا يصح، لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة، ومما يقوي سوء الظن المذكور بالزهري: أن سليمان بن أرقم الذي حذفه من الإسناد متروك لا يحتج بحديثه، فحذف المتروك. ورواية حديثه عمن فوقه من العدول من تدليس التسوية، وهو شر أنواع التدليس وأقبحها، ولا شك أن هذا النوع من التدليس قادح فيمن تعمده. وما ذكره بعضهم: من أن الثوري والأعمش كانا يفعلان هذا النوع من التدليس مجاب عنه بأنهما لا يدلسان إلا عمن هو ثقة عندهما. وإن كان ضعيفاً عند غيرهما. ومن المستبعد أن يكون الزهري يحسن الظن بسليمان بن أرقم مع اتفاق الحفاظ على عدم الاحتجاج به.
والحاصل: أن لزوم الكفارة في نذر المعصية، جاءت فيه أحاديث متعددة، لا يخلو شيء منها من كلام. وقد يقوي بعضها بعضاً.
وقال الشوكاني: قال النووي في الروضة حديث
"لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" ضعيف باتفاق المحدثين. قال الحافظ: قلت: قد صححه الطحاوي، وأبو علي بن السكن، فأين الاتفاق انتهى منه. وقد تركنا تتبع الأحاديث الواردة فيه، ومناقشتها اختصاراً. والأحوط لزوم الكفارة، لأن الأمر مقدم على الإباحة كما تقرر في الأصول للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب. فمن أخرج كفارة عن نذر المعصية، فقد برئ من المطالبة بها باتفاق الجميع ومن لم يخرجها بقي مطالباً بها على قول أحمد، ومن ذكرنا معه.
الفرع الثالث: اعلم أن من نذر شيئاً من الطاعة لا يقدر عليه لا يلزمه الوفاء به، لعجزه عنه.
واختلف فيما يلزمه في ذلك المعجوز عنه، فلو نذر مثلاً أن يحج، أو يعتمر ماشياً على رجليه، وهو عاجز عن المشي: جاز له الركوب لعجزه عن المشي، وإن قدر على المشي: لزمه.
وفي حالة ركوبه عند العجز اختلف العلماء فيما يلزمه فقال بعضهم: لا شيء عليه، لأنه عاجز والله يقول:
{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286] فقد عجز عما نذر ولا يلزمه شيء غير ما نذر. وقال بعضهم: تلزمه كفارة يمين. وقال بعضهم: يلزمه صوم ثلاثة أيام. وقال بعضهم: تلزمه بدنة. وقال بعضهم: يلزمه هدي.
قال ابن قدامة في المغني: وجملته أن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام، لزمه الوفاء بنذره. وبهذا قال مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأبو عبيد، وابن المنذر، ولا نعلم فيه خلافاً، وذلك لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" ولا يجزئه المشي إلا في الحج أو العمرة. وبه يقول الشافعي. ولا أعلم فيه خلافاً، وذلك لأن المشي المعهود في الشرع: هو المشي في حج أو عمرة، فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي. ويلزمه المشي فيه لنذره، فإن عجز عن المشي: ركب، وعليه كفارة يمين، وعن أحمد رواية أخرى: أنه يلزم دم، وهو قول الشافعي، وأفتى به عطاء لما روى ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام، فأمرها النَّبي صلى الله عليه وسلم أن تركب، وتهدي هدياً. رواه أبو داود وفيه ضعف ولأنه أخل بواجب في الإحرام فلزمه هدي كتارك الإحرام من الميقات. وعن ابن عمر وابن الزبير قالا: يحج من قابل، بل ويركب ما مشي، ويمشي ما ركب ونحوه. قال ابن عباس وزاد فقال: ويهدي، وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة وعن النخعي روايتان: إحداهما: كقول ابن عمر والثانية: كقول ابن عباس، وهذا قول مالك. وقال أبو حنيفة: عليه هدي سواء عجز عن المشي، أو قدر عليه. وأقل الهدي: شاة، وقال الشافعي: لا يلزمه مع العجز كفارة بحال، إلا أن يكون النذر مشياً إلى بيت الله الحرام، فهل يلزمه هدي؟ فيه قولان. وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيء اهـ محل الغرض من المغني.
وإذا علمت أقوال أهل العلم: فيما يلزم من نذر شيئاً، وعجز عنه، فهذه أدلة أقوالهم نقلناها ملخصة بواسطة نقل المجد في المنتقى، لأنه جمعها في محل واحد أما من قال: تلزمه كفارة يمين فقد احتج بنا رواه أبو داود، وابن ماجه، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من نذر نذراً ولم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً لم يطقه فكفارته كفارة يمين" اهـ.
قال الحافظ في بلوغ المرام: في حديث ابن عباس، هذا إسناده صحيح، إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه اهـ كما تقدمت الإشارة إليه.
ومن أدلة أهل هذا القول ما رواه كريب، عن ابن عباس قال:
"جاءت امرأة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً. لتخرج راكبة ولتكفر عن يمينها" رواه أحمد، وأبو داود وقال في نيل الأوطار: في هذا الحديث سكت عنه أبو داود، والمنذري، ورجاله رجال الصحيح. والظاهر المتبادر: أن المراد بالتكفير عن اليمين: هو كفارة اليمين المعروفة، ولقد صدق الشوكاني في أن رجال حديث أبي داود المذكور رجال الصحيح، لأن أبا داود قال: حدثنا حجاج بن أبي يعقوب، ثنا أبو النضر، ثنا شريك عن محمد بن عبدالرحمن مولى آل طلحة، عن كريب عن ابن عباس إلى آخر الحديث المذكور بمتنه فطبقة إسناده الأولى حجاج بن أبي يعقوب وهو حجاج بن الشاعر الذي أكثر مسلم في صحيحه من الإخراج له، وهو ثقة حافظ وطبقته الثانية: أبو النضر وهو هاشم بن القاسم بن مسلم بن مقسم الليثي البغدادي خراساني الأصل ولقبه قيصر، وهو ثقة ثبت، أخرج له الجميع وطبقته الثالثة هي: شريك، وهو ابن عبدالله بن أبي شريك النخعي، أبو عبدالله الكوفي القاضي. أخرج له البخاري تعليقاً، وهو من رجال مسلم وظاهر كلام ابن حجر في تهذيب التهذيب: أن مسلماً إنما أخرج له في المتابعات، وكلام أهل العلم فيه كثير بين مثن وذاكر غير ذلك، وطبقته الرابعة: محمد بن عبدالرحمن مولى آل طلحة، وهو من رجال مسلم وهو ثقة. وطبقته الخامسة: كريب بن أبي مسلم الهاشمي، مولى ابن عباس ومعلوم أنه ثقة، وأنه أخرج له الجميع.
هذا هو حاصل حجة من قال: إن على من نذر نذراً، ولم يطقه كفارة يمين، وأما الذين قالوا: عليه صيام ثلاثة أيام، فقد احتجوا بما رواه أحمد، وأصحاب السنن
"عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن أخته نذرت أن تمشي حافية، غير مختمرة، فسأل النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً، مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام" اهـ بواسطة نقل المجد في المنتقى. قال الشوكاني في هذا الحديث: حسنه الترمذي ولكن في إسناده عبيد الله بن زحر وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة اهـ محل الغرض منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ظاهر كلام أبي داود في عبيد الله بن زحر المذكور: أنه ثقة عنده، لأنه ذكر تزكيته عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ولم يتعقب ذلك بشيء.
فقد
"قال أبو داود في هذا الحديث: حدثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد القطان قال: أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري، أخبرني عبيد الله بن زحر: أن أبا سعيد أخبره أن عبدالله بن مالك أخبره: أن عقبة بن عامر أخبره: أنه سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم، عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة، فقال: مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام" . حدثنا مخلد بن خالد، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج قال: كتبت إلى يحيى بن سعيد أخبرني عبيد الله بن زحر، مولى لبنى ضمرة، وكان أيما رجل أن أبا سعيد الرعيني، أخبره بإسناد يحيى، ومعناه اهـ من سنن أبي داود، فكتابة يحيى بن سعيد الأنصاري إلى ابن جريج في ابن زحر المذكور. وكان أيما رجل فيه أعظم تزكية، لأن قولهم فكان أيما رجل يدل على أنه من أفاضل الرجال والتفضيل في هذا المقام، إنما هو في الثقة والعدالة، كما ترى ومن هذا القبيل قول الراعي:

فأومأت إيماء خفيا لحبتر فلله عيناً حبتر أيما فتى

وقال ابن حجر في التقريب في ابن زحر المذكور: صدوق يخطئ، وكلام أئمة الحديث فيه كثير منهم المثنى ومنهم القادح.
وحجة من قال إن عليه بدنة: هي ما رواه عكرمة، عن ابن عباس:
"أن عقبة بن عامر سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: إن الله غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة" رواه أحمد، وأبو داود. وقال الشوكاني في هذا الحديث: سكت عنه أبو داود والمنذري، ورجاله رجال الصحيح: قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح.
وحجة من قال: إن عليه هدياً هي: ما رواه أبو داود، حدثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو الوليد ثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن أخت عقبة بن عامر، نذرت أن تمشي إلى البيت، فأمرها النَّبي صلى الله عليه وسلم أن تركب، وتهدي هدياً. وقال الشوكاني في هذا الحديث: سكت عنه أبو داود والمنذري، ولزوم الهدي المذكور مروي عن مالك في الموطأ وفسر الهدي: ببدنة، أو بقرة، أو شاة، إن لم تجد غيرها.
هذا هو حاصل أدلة أقوال أهل العلم: فيما يلزم من نذر شيئاً، وعجز عن فعله. والقول بالهدي والقول بالبدنة، يمكن الجمع بينهما، لأن البدنة هدي، والخاص يقضي على العام.
وقد ذكرنا كلام الناس في أسانيد الأحاديث الواردة في ذلك وأحوطها: فيمن عجز عن المشي، الذي نذره في الحج: البدنة، لأنها أعظم ما قيل في ذلك، وليس من المستبعد، أن تلزمه البدنة، وأنه يجزئ الهدي والصوم وكفارة اليمين، لأن كل الأحاديث الواردة بذلك ليس فيها التصريح بنفي إجزاء شيء آخر. فحديث لزوم كفارة اليمين: لم يصرح بعدم إجزاء البدنة، وحديث الهدي: لم يصرح بعدم إجزاء الصوم مثلاً وهكذا.
وقد عرفت أقوال أهل العلم في ذلك مع أن الأحاديث لا يخلو شيء منها من كلام. وظاهر النصوص العامة: أنه لا شيء عليه، لأن الله يقول:
{ { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286] ويقول: { { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] ويقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" وقد ثبت في صحيح مسلم: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286] الآية. قال الله: قد فعلت. وفي رواية: نعم، ويدخل في حكم ذلك قوله تعالى: { { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة: 286] الآية.
الفرع الرابع: في حكم الإقدام على النذر مع تعريفه لغة وشرعاً.
اعلم أن الأحاديث الصحيحة، دلت على أن النذر، لا ينبغي وأنه منهي عنه، ولكن إذا وقع وجب الوفاء به، إن كان قربة كما تقدم.
قال البخاريرحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا فليح بن سليمان، حدثنا سعيد بن الحارث، أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أو لم ينهوا عن النذر، إن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخر وإنما يستخرج بالنذر من البخيل" وفي البخاري، عن ابن عمر قال: "نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن النذر فقال: إنه لا يرد شيئاً ولكنه يستخرج به من البخيل" وفي لفظ للبخاري من حديث أبي هريرة قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدّرته، ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قُدِّرَ له فيستخرج الله به من البخيل فَيُؤْتِي عليه ما لم يكن يُؤتِي عليه من قبل" اهـ من صحيح البخاري، وهو صريح في النهي عن النذر، وأنه ليس ابتداء فعله من الطاعات المرغب فيها.
وقال مسلم بن الحجاجرحمه الله في صحيحه: وحدثني زهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق: أخبرنا. وقال زهير: حدثنا جرير، عن منصور،
"عن عبدالله بن مرة، عن عبدالله بن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ينهانا عن النذر ويقول: إنه لا يرد شيئاً وإنما يستخرج به من الشحيح" وفي لفظ لمسلم، عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره وإنما يستخرج به من البخيل" وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر، "عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل" .
وقال مسلم في صحيحه أيضاً: وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبدالعزيز، يعني الدراوردي، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل" وفي لفظ لمسلم، عن أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يرد من القدر، وإنما يستخرج به من البخيل" وفي لفظ لمسلم، عن أبي هريرة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئاً لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج" اهـ. من صحيح مسلم.
وهذا الذي ذكرنا من حديث الشيخين، عن ابن عمر وأبي هريرة: فيه الدلالة الصريحة على النهي عن الإقدام على النذر، وأنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل. وفي الأحاديث المذكورة إشكال معروف، لأنه قد دل القرآن على الثناء على الذين يوفون بالنذر، وأنه من أسباب دخول الجنة كقوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } [الإنسان: 5-7] وقوله تعالى: { { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ } [البقرة: 270] وقد دل الكتاب والسنة على وجوب الوفاء، بنذر الطاعة، كقوله تعالى في هذه الآية، التي نحن بصددها { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [الحج: 29] الآية. وكقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح، من ذم الذين لم يوفوا بنذورهم.
قال البخاري في صحيحه: حدثنا مسدد، عن يحيى عن شعبة: حدثني أبو جمرة، حدثنا زهدم بن مضرب، قال: سمعت عمران بن حصين رضي الله عنهما، يحدث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:
"خيركم قرني، ثم الذين يلونهم قال عمران: لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثاً بعد قرنه ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن" اهـ من صحيح البخاري. وهو ظاهر جداً في إثم الذين لا يوفون بنذرهم، وأنهم كالذين يخونون، ولا يؤتمنون. وهذا الحديث أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه، عن عمران بن حصين. وقال النووي في شرحه لحديث عمران هذا فيه وجوب الوفاء بالنذر، وهو واجب، بلا خلاف، وإذا كان ابتداء النذر منهياً عنه: كما سبق في بابه، اهـ محل الغرض منه.
ولأجل هذا الإشكال المذكور اختلف العلماء في حكم الإقدام على النذر، فذهب المالكية: إلى جواز نذر المندوبات إلا الذي يتكرر دائماً كصوم يوم من كل أسبوع فهو مكروه عندهم، وذهب أكثر الشافعية: إلى أنه مكروه، ونقهل بعضهم عن نص الشافعي للأحاديث الدالة على النهي عنه. ونقل نحوه عن المالكية أيضاً، وجزم به عنهم ابن دقيق العيد. وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم، والجزم عن الشافعية بالكراهة. وجزم الحنابلة بالكراهة، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم، وتوقف بعضهم في صحتها، وكراهته مروية عن بعض الصحابة. اهـ بواسطة نقل ابن حجر في الفتح. وجزم صاحب المغني: بأن النهي عنه نهي كراهة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الظاهر لي في طريق إزالة هذا الإشكال، الذي لا ينبغي العدول عنه: أن نذر القربة على نوعين.
أحدهما: معلق على حصول نفع كقوله: إن شفى الله مريضي، فعلي لله نذر كذا أو إن نجاني الله من الأمر الفلاني المخوف، فعلي لله نذر كذا، ونحو ذلك.
والثاني: ليس معلقاً على نفع للناذر، كأن يتقرب إلى الله تقرباً خالصاً بنذر كذا، من أنواع الطاعة، وأن النهي إنما هو في القسم الأول، لأن النذر فيه لم يقع خالصاً للتقرب إلى الله، بل بشرط حصول نفع للناذر وذلك النفع الذي يحاوله الناذر هو الذي دلت الأحاديث على أن القدر فيه غالب على النذر وأن النذر لا يرد فيه شيئاً من القدر.
أما القسم الثاني: وهو نذر القربة الخالص من اشتراط النفع في النذر، فهو الذي فيه الترغيب والثناء على الموفين به المقتضي أنه من الأفعال الطيبة، وهذا التفصيل قالت به جماعة من أهل العلم.
وإنما قلنا: إنه لا ينبغي العدول عنه لأمرين:
الأول: أن نفس الأحاديث الواردة في ذلك فيها قرينة واضحة، دالة عليه، وهو ما تكرر فيها من أن النذر لا يرد شيئاً من القدر ولا يقدم شيئاً، ولا يؤخر شيئاً ونحو ذلك. فكونه لا يرد شيئاً من القدر، قرينة واضحة على أن الناذر أراد بالنذر جلب نفع عاجل، أو دفع ضر عاجل فبين صلى الله عليه وسلم أن ما قضى الله به في ذلك واقع لا محالة، وأن نذر الناذر لا يرد شيئاً كتبه الله عليه، ولكنه إن قدر الله ما كان يريده الناذر بنذره، فإنه يستخرج بذلك من البخيل الشيء الذي نذر وهذا واضح جداً كما ذكرنا.
الثاني: أن الجمع واجب إن أمكن وهذا جمع ممكن بين الأدلة واضح تنتظم به الأدلة، ولا يكون بينها خلاف، ويؤيده أن الناذر الجاهل، قد يظن أن النذر قد يرد عنه ما كتبه الله عليه. هذا هو الظاهر في حل هذا الإشكال. وقد قال به غير واحد. والعلم عند الله تعالى.
تنبيه:
فإن قيل: إن النذر المعلق كقوله: إن شفى الله مريضي أو نجاني من كذا، فلله علي نذر كذا، فقد ذكرتم أنه هو المنهي عنه، وإذا تقرر أنه منهي عنه لم يكن من جنس القربة، فكيف يجب الوفاء بمنهي عنه.
والجواب: أن النص الصحيح دل على هذا فدل على النهي عنه أولاً، كما ذكرنا الأحاديث الدالة على ذلك، ودل على لزوم الوفاء به بعد الوقوع فقوله صلى الله عليه وسلم:
"وإنما يستخرج به من البخيل" نص صريح في أن البخيل يلزمه إخراج ما نذر إخراجه، وهو المصرح بالنهي عنه أولاً، ولا غرابة في هذا، لأن الواحد بالشخص قد يكون له جهتان. فالنذر المنذور له جهة هو منهي عنه من أجلها ابتداء: وهي شرط حصول النفع فيه، وله جهة أخرى هو قربة بالنظر إليها، وهو إخراج المنذور تقرباً لله وصرفه في طاعة الله، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن النذر في اللغة النحب وهو ما يجعله الإنسان نحباً واجباً عليه قضاؤه، ومنه قول لبيد:

ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحبٌ فيقضى أم ضلالٌ وباطل

وحاصله: أنه إلزام الإنسان نفسه بشيء لم يكن لازماً لها، فيجعله واجباً عليها وهو في اصطلاح الشرع: التزام المكلف قربة لم تكن واجبة عليه. وقال ابن الأثير في النهاية: يقال: نذرت أنذر وأنذر نذراً إذا أوجبت على نفسي شيئاً تبرعاً من عبادة أو صدقة أو غير ذلك. وقد تكرر في أحاديثه ذكر النهي عنه وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه، وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية. فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعاً، ولا يصرف عنهم ضراً ولا يرد قضاء. فقال: لا تنذروا على أنكم قد تدركون بالنذر شيئاً لم يقدره الله لكم، أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فأخرجوا عنه بالوفاء، فإن الذي نذرتموه لازم لكم اهـ الغرض من كلام ابن الأثير. وقد قاله غيره، ولا يساعد عليه ظواهر الأحاديث.
فالظاهر أن الأرجح الذي لا ينبغي العدول عنه هو ما قدمنا من الجمع، والعلم عند الله تعالى.
واعلم: أن تعريف المالكية للنذر شرعاً: بأنه التزام مسلم مكلف، ولو غضبان إلى آخره فيه أمران.
الأول: أن اشتراط الإسلام في النذر فيه نظر، لأن ما نذره الكافر من فعل الطاعات قد ينعقد نذره له بدليل أنه يفعله إذا أسلم بعد ذلك، ولو كان لغواً غير منعقد، لما كان له أثر بعد الإسلام.
قال البخاريرحمه الله في صحيحه: حدثنا عبدالله أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر:
"أن عمر قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: أوف بنذرك" انتهى منه. فقوله صلى الله عليه وسلم لعمر في هذا الحديث الصحيح: "أوف بنذرك" مع أنه نذره في الجاهلية صريح في ذلك كما ترى، ولا التفات إلى ما أوله به بعض العلماء من المالكية وغيرهم. وقول المالكية في تعريف النذر، ولو غضبان لا يخفى أن العلماء مختلفون في نذر الغضبان، هل يلزم فيه ما نذر أو هو من نوع اللجاج، تلزم فيه كفارة يمين كما أوضحنا حكمه سابقاً.
الفرع الخامس: اعلم: أنه قد دل الحديث على أن من نذر أن ينحر تقرباً لله في محل معين، فلا بأس بإيفائه بنذره، بأن ينحر في ذلك المحل المعنين إذا لم يتقدم عليه أنه كان به وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية. ومفهومه أنه إن كان قد سبق أن فيه وثناً يعبد، أو عيداً من أعياد الجاهلية: أنه لا يجوز النحر فيه.
قال أبو داود في سننه: حدثنا داود بن رشيد، ثنا شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني ثابت بن الضحاك، قال:
"نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم" اهـ منه.
وفيه الدلالة الظاهرة على أن النحر بموضع كان فيه وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية من معصية الله تعالى، وأنه لا يجوز بحال، والعلم عند الله تعالى. وإسناد الحديث صحيح.
الفرع السادس: اعلم: أن الأحاديث الصحيحة دلت على أن من مات وعليه نذر أنه يقضى عنه، وسنقتصر هنا على قليل منها اختصاراً لصحته، وثبوته.
قال البخاريرحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبدالله أن عبدالله بن عباس، أخبره "أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النَّبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه، فتوفيت قبل أن تقضيه، فأفتاه: أن يقضيه عنها فكانت سُنَّةً بَعْدُ" اهـ من صحيح البخاري.
وقد قدمنا بعض الأحاديث الدالة على ذلك فيمن مات وعليه نذر الحج أنه يقضي عنه كما تقدم إيضاحه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة معروفة.
تنبيه
اعلم: أن ابن عمر وابن عباس أفتيا بقضاء الصلاة المنذورة عن الميت إذا مات ولم يصل ما نذر. قال البخاري في صحيحه: باب من مات وعليه نذر، وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء فقال: صلِّي عنها. وقال ابن عباس نحوه اهـ من البخاري. وفي الموطأ عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته: أنها حدثته، عن جدته أنها كانت جعلت على نفسها مشياً إلى مسجد قباء، فماتت ولم تقضه، فأفتى عبدالله بن عباس ابنتها: أن تمشي عنها. قال يحيى: وسمعت مالكاً يقول: لا يمشي أحد عن أحد اهـ من الموطأ. وقال الزرقاني، في شرحه: قال ابن القاسم: أنكر مالك الأحاديث في المشي إلى قباء، ولم يعرف المشي إلا إلى مكة خاصة. قال ابن عبدالبر يعني: لا يعرف إيجاب المشي للحالف، والناذر. وأما المتطوع، فقد روى مالك فيما مر أنه صلى الله عليه وسلم، كان يأتي قباء راكباً وماشياً، وأن إتيانه مرغب فيه. اهـ منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي عليه جمهور أهل العلم، وحكى ابن بطال الإجماع عليه أنه لا يصلي أحمد عن أحمد، أما الصوم والحد عن الميت فقد قدمنا مشروعيتهما. وإن خالف جل أهل العلم في الصوم عن الميت، والعلم عند الله تعالى. وفي الموطأ عن مالك بعد أن ذكر حديث
"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" قال يحيى: وسمعت مالكاً يقول: معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام، أو إلى مصر، أو إلى الرَّبَذَةِ، أو ما أشبه ذلك مما ليس لله بطاعة، إن كلم فلاناً أو ما أشبه ذلك فليس عليه في شيء من ذلك شيء إن هو كلمه، أو حنث بما حلف عليه، لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة. وإنما يوفي لله بما له فيه طاعة اهـ. من الموطأ.
الفرع السابع: الأظهر عندي: أن من نذر جميع ماله لله ليصرف في سبيل الله، أنه يكفيه الثلث ولا يلزمه صرف الجميع، وهذا قول مالك وأصحابه وأحمد وأصحابه، والزهري. وفي هذه المسألة للعلماء عشرة مذاهب أظهرها عندنا: هو ما ذكرنا، ويليه في الظهور عندنا قول من قال: يلزمه صرفه كله، وهو مروي عن الشافعي والنخعي، وعن أحمد رواية أخرى: أن عليه كفارة يمين، وعن ربيعة تلزمه الصدقة بقدر الزكاة، وعن جابر بن زيد، وقتادة: إن كان كثيراً وهو ألفان تصدق بعشره، وإن كان متوسطاً وهو ألف تصدق بسبعه، وإن كان قليلاً، وهو خمسمائة تصدق بخمسه، وعن أبي حنيفة: يتصدق بالمال الزكوي كله، وعنه في غيره روايتان.
إحداهما: يتصدق به.
والثانية: لا يلزم منه شيء، وعن النخعي، والبتي، والشافعي: يتصدق بماله كله، وعن الليث: إن كان ملياً لزمه، وإن كان فقيراً فعليه كفارة يمين، ووافقه ابن وهب وزاد وإن كان متوسطاً يخرج قدر زكاة ماله وهذا مروي أيضاً عن أبي حنيفة، وهو قول ربيعة كما تقدم. وعن الشعبي: لا يلزم شيء أصلاً، وقيل: يلزم الكل إلا في نذر اللجاج، فكفارة يمين، وعن سحنون: يلزمه إخراج ما لا يضر به. وعن الثوري والأوزاعي، وجماعة: يلزمه كفارة يمين بغير تفصيل.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة.
فاعلم: أن أكثرها لا يعتضد بدليل، والذي يعتضد بالدليل منها ثلاثة مذاهب:
الأول: هو ما قدمنا أنه أظهرها عندنا، وهو الاكتفاء بالثلث.
والثاني: لزوم الصدقة بالمال كله.
والثالث: قول سحنون: أنه يلزمه إخراج ما لا يضر به. أما الاكتفاء بالثلث الذي هو أقربها عندنا، فقد يستدل له ببعض الأحاديث الصحيحة التي فيها النهي عن التصدق بالمال كله، وفيها أن الثلث كثير.
قال البخاريرحمه الله في صحيحه: باب إذا أهدى ماله على وجه النذر، والتوبة: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عبدالرحمن بن عبدالله عن عبدالله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي، قال:
"سمعت كعب بن مالك يقول في حديثه: { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } [التوبة: 118] فقال في آخر حديثه: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" اهـ.
فظاهر هذا الحديث الصحيح: أن كعباً غير مستشير بل مريد التجرد من جميع ماله على وجه النذر والتوبة، كما في ترجمة الحديث. وقد أمره صلى الله عليه وسلم بأن يمسك بعض ماله، وصرح له بأن ذلك خير له. وقد جاء في بعض الروايات أنه فسر ذلك البعض الذي يمسكه بالثلثين، وأنه يتصدق بالثلث. وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث قوله:
"أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" زاد أبو داود عن أحمد بن صالح بهذا السند، فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر، وهو عند المصنف من وجه آخر عن ابن شهاب، ووقع في رواية ابن إسحاق عن الزهري بهذا السند، عند أبي داود: "إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله لله ورسوله صدقة قال: لا. قلت: فنصفه؟ قال: لا. قلت: فثلثه؟ قال: نعم. قلت: فإني أمسك سهمي الذي في خيبر" .
واعلم أن ابن إسحاق في حديثه هذا عند أبي داود، صرح بالتحديث عن الزهري، فأمن تدليسه ثم قال ابن حجر: وأخرج من طريق ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث وفيه: وإني أنخلع من مالي كله صدقة. قال: "يجزئ عنك الثلث" وفي حديث أبي لبابة، عند أحمد وأبي داود مثله اهـ محل الغرض من فتح الباري.
وقد رأيت الروايات المصرحة بأنه يجزئه الثلث عن جميع المال. وظاهر الحديث أنه جازم غير مستشير فمن زعم من أهل العلم أنه مستشير فهو مخالف لظاهر اللفظ، لأن اللفظ مبدوء بجملة خبرية مؤكدة بحرف التوكيد، الذي هو إن المكسورة في قوله: إن من توبتي أن أنخلع من مالي، واللفظ الذي هذه صفته، لا يمكن حمله على التوقف والاستشارة، كما ترى فقوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك وأبي لبابة: إن الثلث يكفي عن الصدقة بجميع المال. هو الدليل الذي ذكرنا بسببه: أن أقرب الأقوال عندنا الاكتفاء بالثلث. وأما قول من قال: يلزمه التصدق بجميعه، فيستدل له بالحديث الصحيح:
"من نذر أن يطيع الله فليطعه" وهو يدل على إيفائه بنذره، ولو أتى على كل المال، إلا أن دليل ما قبله أخص منه في محل النزاع والأخص مقدم على الأعم.
وأما قول سحنون: يلزمه التصدق بما لا يضر به فيستدل له بقوله تعالى:
{ { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } [البقرة: 219] الآية، لأن العفو في أصح التفسيرين، هو ما لا يضر إنفاقه بالمنفق، ولا يجحف به لإمساكه ما يسد خلته الضرورية. وهذا قد يرجع إلى الأول لأن الثلث من العفو الذي لا يجحف به إنفاقه. فأظهرها الأول كما ذكرنا وباقي الأقوال لا أعلم له دليلاً متجهاً من كتاب، ولا سنة، وما وجه به تلك الأقوال بعض أهل العلم لا يتجه عندي، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثامن: اعلم أنه قد دل النص الصحيح، على أن من نذر أن يسافر إلى مسجد ليصلي فيه كمسجد البصرة، أو الكوفة أو نحو ذلك: لا يلزمه السفر إلى مسجد من تلك المساجد، وليصل الصلاة التي نذرها به في موضعه الذي هو به.
والنص الصحيح المذكور هو حديث:
"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس" . والجاري على الأصول: أنه لا يخرج من هذا الحصر الذي صرح به النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح، إلا ما أخرجه نص صحيح يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة. والأظهر أن من نذر السفر لصلاة في مسجد إيلياء، وصلاها في مسجد مكة أو المدينة أجزأته، لأنهما أفضل منه.
وقد قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد أخبرنا حبيب المعلم، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبدالله:
"أن رجلاً قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين قال: صل ها هنا ثم أعاد عليه، فقال: صل ها هنا ثم أعاد عليه، فقال: شأنك إذاً" قال أبو داود: وروي نحوه عن عبدالرحمن بن عوف، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ لأبي داود عن عمر بن عبدالرحمن بن عوف، عن رجال من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي بعث محمداً بالحق لو صليت هنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس" اهـ. والعلم عند الله تعالى.
ولنكتف بما ذكر هنا من مسائل النذر لكثرة ما كتبنا في آيات سورة الحج من الأحكام الشرعية وأقوال أهل العلم فيها، والنذر باب مذكور في كتب الفروع، فمن أراد الإحاطة بجميع مسائله، فلينظرها في كتب فروع المذاهب الأربعة، وقد ذكرنا هنا عيون مسائله المهمة، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ }.
في المراد بالعتيق هنا للعلماء ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد به القديم، لأنه أقدم مواضع التعبد.
الثاني: أن الله أعتقه من الجبابرة.
الثالث: أن المراد بالعتق فيه الكرم، والعرب تسمي القديم عتيقاً ومنه قول حسان رضي الله عنه:

كالمسك تخلطه بماء سحابة أو عاتق كدم الذبيح مدام

لأن مراده بالعاتق الخمر القديمة التي طال مكثها في دنها زمناً طويلاً، وتسمى الكرم عتقاً ومنه قول كعب بن زهير:

قنواء في حرتيها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل

فقوله: عتق مبين: أي كرم ظاهر، ومنه قول المتنبي:

ويبين عتق الخيل في أصواتها

أي كرمها، والعتق من الجبابرة كالعتق من الرق، وهو معروف.
وإذا علمت ذلك فاعلم: أنه قد دلت آية من كتاب الله، على أن العتيق في الآية بمعنى: القديم الأول وهي قوله تعالى:
{ { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [آل عمران: 96] الآية مع أن المعنيين الآخرين كلاهما حق، ولكن القرآن دل على ما ذكرنا، وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
تنبيهان
الأول: دلت هذه الآية الكريمة، على لزوم طواف الإفاضة وأنه لا صحة للحج بدونه.
الثاني: دلت هذه الآية أيضاً على لزوم الطواف من وراء الحجر الذي عليه الجدار القصير شمال البيت لأن أصله من البيت، فهو داخل في اسم البيت العتيق، كما تقدم إيضاحه.