خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ
٧٠
-المؤمنون

أضواء البيان في تفسير القرآن

أم المذكورة في هذه الآية هي المعروفة عند النحويين بأم المنقطعة. وضابطها ألا تتقدم عليها همزة تسوية نحو { { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [البقرة: 6] الآية أو همزة مغنية، عن لفظة: أي كقولك أزيد عندك أم عمرو؟ أي أيهما عندك فالمسبوقة بإحدى الهمزتين المذكورتين، هي المعروفة عندهم بأم المتصلة، والتي لم تسبق بواحدة منهما هي المعروفة بالمنقطعة كما هنا. وأم المنقطعة تأتي لثلاثة معان.
الأول: أن تكون بمعنى: بل الإضرابية.
الثاني: أن تكون بمعنى همزة استفهام الإنكار.
الثالث: أن تكون بمعناهما معاً فتكون جامعة بين الإضراب والإنكار، وهذا الأخير هو الأكثر في معناها، خلافاً لابن مالك في الخلاصة في اقتصاره على أنها بمعنى: بل في قوله:

وبانقطاع وبمعنى بل وفت إن تك مما قيدت به خلت

ومراده بخلودها مما قيدت به: ألا تسبقها إحدى الهمزتين المذكورتين، فإن سبقتها إحداهما، فهي المتصلة كما تقدم قريباً، وعلى ما ذكرنا فيكون المعنى متضمناً للإضراب عما قبله إضراباً انتقالياً، مع معنى استفهام الإنكار، فتضمن الآية الإنكار على الكفار في دعواهم: أن نبينا صلى الله عليه وسلم به جنة: أي جنون يعنون: أن هذا الحق الذي جاءهم به هذيان مجنون، قبحهم الله ما أجحدهم للحق، وما أكفرهم ودعواهم عليه هذه أنه مجنون كذبها الله هنا بقوله: { بَلْ جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ } فالإضراب ببل إبطالي.
والمعنى: ليس بمجنون بل هو رسول كريم جاءكم بالحق الواضح، المؤيد بالمعجزات الذي يعرف كل عاقل، أنه حق، ولكن عاندتم وكفرتم لشدة كراهيتكم للحق، وما نفته هذه الآية الكريمة من دعواهم عليه الجنون صرح الله بنفيه في مواضع أخر كقوله تعالى:
{ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } [التكوير: 22] وقوله تعالى: { { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } [الطور: 29] وهذا الجنون الذي افترى على آخر الأنبياء، افترى أيضاً على أولهم، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة عن قوم نوح أنهم قالوا فيه { { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ } [المؤمنون: 25] وقد بين في موضع آخر أن الله لم يرسل رسولاً إلا قال قومه: إنه ساحر، أو مجنون، كأنهم اجتمعوا فتواصوا على ذلك لتواطئ أقوالهم لرسلهم عليه، وذلك في قوله تعالى: { { كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات: 52-53] فبين أن سبب تواطئهم على ذلك ليس التواصي به، لاختلاف أزمنتهم، وأمكنتهم. ولكن الذي جمعهم على ذلك هو مشابهة بعضهم لبعض في الطغيان، وقد أوضح هذا المعنى في سورة البقرة في قوله { { كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [البقرة: 118] فهذه الآيات تدل على أن سبب تشابه مقالاتهم لرسلهم، هو تشابه قلوبهم في الكفر والطغيان، وكراهية الحق وقوله: { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } ذكر نحو معناه في قوله تعالى: { { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [الزخرف: 78] وقوله تعالى: { { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمُنْكَرَ } [الحج: 72] الآية، وذلك المنكر الذي تعرفه في وجوههم، إنما هو لشدة كراهيتهم للحق، ومن الآيات الموضحة لكراهيتهم للحق. أنهم يمتنعون من سماعه، ويستعملون الوسائل التي تمنعهم من أن يسمعوه، كما قال تعالى في قصة أول الرسل الذين أرسلهم بتوحيده والنهي عن الإشراك به، وهو نوح: { { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } [نوح: 7] وإنما جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم خوف أن يسمعوا ما يقوله لهم نبيهم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، من الحق، والدعوة إليه. وقال تعالى في أمة آخر الأنبياء صلى الله عليه وسلم { { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } [فصلت: 26] الآية. فترى بعضهم ينهى بعضاً عن سماعه، ويأمرهم باللغو فيه، كالصياح والتصفيق المانع من السماع لكراهتهم للحق، ومحاولتهم أن يغلبوا الحق بالباطل.
وفي الآية الكريمة سؤال معروف وهو أن يقال: قوله: { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } يفهم من مفهوم مخالفته، أن قليلاً من الكفار، ليسوا كارهين للحق. وهذا السؤال وارد أيضاً على آية الزخرف التي ذكرنا آنفاً، وهو قوله تعالى:
{ { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [الزخرف: 78].
والجواب عن هذا السؤال: هو ما أجاب به بعض أهل العلم بأن قليلاً من الكفار. كانوا لا يكرهون الحق، وسبب امتناعهم عن الإيمان بالله ورسوله ليس هو كراهيتهم للحق، ولكن سببه الأنفة والاستنكاف من توبيخ قومهم، وأن يقولوا صبأوا وفارقوا دين آبائهم، ومن أمثلة من وقع له هذا أبو طالب فإنه لا يكره الحق، الذي جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان يشد عضده في تبليغه رسالته كما قدمنا في شعره في قوله:

اصدع بأمرك ما عليك غضاضة

الأبيات وقال فيها،

ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا

وقال فيه صلى الله عليه وسلم أيضاً:

لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعني بقول الأباطل

وقد بين أبو طالب في شعره: أن السبب المانع له من اعتناق الإسلام ليس كراهية الحق، ولكنه الأنفة والخوف من ملامة قومه أو سبهم له كما في قوله:

لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك يقينا