خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
٣٦
رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ
٣٧
-النور

أضواء البيان في تفسير القرآن

قرأ هذا الحرف جميع السبعة غير ابن عامر، وشعبة، عن عاصم: { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } بكسر الباء الموحدة المشددة، مبنياً للفاعل، وفاعله رجال والمعنى واضح على هذه القراءة. وقرأه ابن عامر، وشعبة، عن عاصم: { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } بفتح الباء الموحدة المشددة، مبيناً للمفعول، وعلى هذه القراءة فالفاعل المحذوف قد دلت القراءة الأولى على أن تقديره: رجال فكأنه لما قال يسبح له فيها، قيل: ومن يسبح له فيها؟ قال رجال: أي يسبح له فيها رجال.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ما لفظه، وقد التزمنا أنا لا نبينّ القرآن إلا بقراءة سبعية، سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبينة نفسها، أو آية أخرى غيرها إلى آخره، وإنما ذكرنا أن الآية يبين بعض القراءات فيها معنى بعض، لأن المقرر عند العلماء أن القراءتين في الآية الواحدة كالآيتين.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة الجمهور: يسبح بكسر الباء وفاعله رجال، مبينة أن الفاعل المحذوف في قراءة ابن عامر، وشعبة، عن عاصم: يسبح بفتح الباء مبنياً للمفعول لحذف الفاعل هو رجال كما لا يخفى. والآية على هذه القراءة حذف فيها الفاعل ليسبح، وحذف أيضاً الفعل الرافع للفاعل الذي هو رجال على حد قوله في الخلاصة:

ويرفع الفاعل فعل أضمرا كمثل زيد في جواب من قرا

ونظير ذلك في كلام العرب قول ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد أو غيره:

ليُبْكَ يَزيد ضارعٌ لخصومة ومُخْتَبطٌ مما تطيح الطوائح

فقوله: ليُبكَ يزيد بضم الياء المثناة التحتية، وفتح الكاف مبنياً للمفعول، فكأنه قيل ومن يبكيه؟ فقال: يبكيه ضارع لخصومة إلخ. وقراءة ابن عامر، وشعبة هنا كقراءة ابن كثير: { { كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ } [الشورى: 3] بفتح الحاء مبنياً للمفعول فقوله: الله فاعل يوحي المحذوفة، ووصفه تعالى لهؤلاء الرجال الذين يسبِّحون له بالغُدو والآصال، بكونهم لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة على سبيل مدحهم، والثناء عليهم. يدلّ على أن تلك الصفات لا ينبغي التساهل فيها بحال، لأن ثناء الله على المتصف بها يدل على أنّ من أخلّ بها يستحق الذمّ الذي هو ضد الثناء،ويوضح ذلك أن الله نهى عن الإخلال بها نهياً جازماً في قوله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [المنافقون: 9] وقوله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } [الجمعة: 9] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى: اعلم أنه على قراءة ابن عامر، وشعبة: يسبَّح بفتح الباء يحسن الوقف على قوله: بالآصال، وأما على قراءة الجمهور يسبَّح بالكسر، فلا ينبغي الوقف على قوله: بالآصال، لأن فاعل يسبح رجال، والوقف دون الفاعل لا ينبغي كما لا يخفى.
المسألة الثانية: اعلم أن الضمير المؤنث في قوله { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } راجع إلى المساجد المعبّر عنها بالبيوت في قوله: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } [النور: 36] والتحقيق: أن البيوت المذكورة، هي المساجد.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن تخصيصه من يسبح له فيها بالرجال في قوله { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ رِجَالٌ } يدل بمفهومه على أن النساء يسبحن له في بيوتهن لا في المساجد، وقد يظهر للناظر أن مفهوم قوله: رجال مفهوم لقب، والتحقيق عند الأصوليين أنه لا يحتج به.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: لا شك أن مفهوم لفظ الرجال، مفهوم لقب بالنظر إلى مجرَّد لفظه، وأن مفهوم اللقب ليس بحجة على التحقيق، كما أوضحناه في غير هذا الموضع، ولكن مفهوم الرجال هنا معتبر، وليس مفهوم لقب على التحقيق، وذلك لأن لفظ الرجال، وإن كان بالنظر إلى مجرّده اسم جنس جامد وهو لقب بلا نزاع، فإنه يستلزم من صفات الذكورة ما هو مناسب لإناطة الحكم به، والفرق بينه وبين النساء، لأنّ الرجال لا تخشى منهم الفتنة، وليسوا بعورة خلاف النساء، ومعلوم أو وصف الذكورة وصف صالح لإناطة الحكم به الذي هو التسبيح في المساجد، والخروج إليها دون وصف الأنوثة.
والحاصل: أن لفظ الرجال في الآية، وإن كان في الاصطلاح لقباً فإنما يشتمل عليه من أوصاف الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث، يقتضي اعتبار مفهوم المخالفة في لفظ رجال، فهو في الحقيقة مفهوم صفة لا مفهوم لقب، لأن لفظ الرجال مستلزم لأوصاف صالحة لإناطة الحكم به، والفرق في ذلك بين الرجال والنساء كما لا يخفى.
المسألة الثالثة: إذا علمت أن التحقيق أن مفهوم قوله: رجال مفهوم صفة باعتبار ما يستلزمه من صفات الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث، في حكم الخروج إلى المساجد لا مفهوم لقب، وأن مفهوم الصفة معتبر عند الجمهور خلافاً لأبي حنيفة.
فاعلم أن مفهوم قوله هنا: رجال فيه إجمال، لأنّ غاية ما يفهم منه أن النساء لسن كالرجال في الخروج للمساجد، وقد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان القرآني إذا كان غير واف بالمقصود من تمام البيان. فإنّا نتمم البيان من السنة من حيث إنها تفسير للمبين باسم الفاعل، وتقدّمت أمثلة لذلك.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن السنة النبوية بينت مفهوم المخالفة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: رجال،فبينت أن المفهوم المذكور معتبر، وأن النساء لسن كالرجال في حكم الخروج إلى المساجد، وأوضحت أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لهن من الخروج إلى المساجد والصلاة فيها في الجماعة، بخلاف الرجال، وبينت أيضاً أنهن يجوز لهن الخروج إلى المساجد بشروط سيأتي إيضاحها إن شاء الله تعالى، وأنهن إذا استأذن أزواجهن في الخروج إلى المساجد فهم مأمورون شرعاً بالإذن لهن في ذلك مع التزام الشروط المذكورة.
أما أمر أزواجهن: بالإذن لهن في الخروج إلى المساجد إذا طلبن ذلك فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال البخاريرحمه الله في صحيحه في كتاب النكاح: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
"إذا استأْذَنَت امرَأةُ أحَدِكم إلى المسجد فلا يمنَعْها" وقال البخاري أيضاً في صحيحه في كتاب الصلاة: باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد: حدثنا مُسَّدد، حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن مَعْمَر عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم "إذا استأذنت امرأةُ أحدِكُم فلا يَمْنَعْها" وقال البخاريرحمه الله في صحيحه أيضاً، حدثنا عُبيد الله بن موسى، عن حَنْظلة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عُمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجدِ فأذنوا لهنَّ" تابعه شُعبة عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مسلم بن الحجاجرحمه الله في صحيحه: حدثني عمرو الناقد، وزُهير بن حرب جميعاً عن ابن عُيينة. قال زهير: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري. سمع سالماً يحدث عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها" وفي لفظ عند مسلم، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تمنعوا نساءكم المساجِد إذا استأذنَّكم إليها" وفي لفظ عند مسلم أيضاً، عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" وفي لفظ له عنه أيضاً: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا استأذنكم نساؤكم إلى المسجد فأذنوا لهن" وفي لفظ له عنه أيضاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل" وفي رواية له عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد" وفي لفظه عنه أيضاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم" وفي رواية "إذا استأذنوكم" قال النووي في شرح مسلم: وهو صحيح وعوملن معاملة الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا الذي ذكرناه عن الشيخين بروايات متعددة، أخرجه أيضاً غيرهما وهو صريح في أنّ أزواج النساء مأمورون على لسانه صلى الله عليه وسلم بالإذن لهنّ في الخروج إلى المساجد، إذا طلبن ذلك، ومنهيُّون عن منعهن من الخروج إليها.
وذكر بعض أهل العلم أن أمر الأزواج بالإذن لهنّ في الروايات المذكورة ليس للإيجاب، وإنما هو للندب، وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن منعهن. قالوا: هو لكراهة التنزيه لا للتحريم.
قال ابن حجر في فتح الباري: وفيه إشارة إلى أنّ الإذن المذكور لغير الوجوب، لأنه لو كان واجباً لانتفى معنى الاستئذان، لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيّراً في الإجابة أو الرد.
وقال النووي في شرح المهذب: فإن منعها لم يحرِّم عليه هذا مذهبنا، قال البيهقي: وبه قال عامة العلماء. ويجاب عن حديث
"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" بأنه نهي تنزيه، لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه لفضيلة اهـ.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي في هذه المسألة: أن الزوج إذا استأذنته امرأته في الخروج إلى المسجد، وكانت غير متطيِّبة، ولا متلبسة بشيء يستوجب الفتنة مما سيأتي إيضاحه إن شاء الله، أنه يجب عليه الإذن لها، ويحرم عليه منعها للنهي الصريح منه صلى الله عليه وسلم عن منعها من ذلك، وللأمر الصريح بالإذن لها وصيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب، كما أوضحناه في مواضع من هذا الكتاب المبارك، وصيغة النهي كذلك تقتضي التحريم، وقد قال تعالى:
{ { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63] وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" إلى غير ذلك من الأدلة، كما قدمنا. وقول ابن حجر: إن الإذن لا يتحقق إلا إذا كان المستأذن مخيراً في الإجابة، والرد غير مسلم، إذ لا مانع عقلاً، ولا شرعاً ولا عادة من أن يوجب الله عيه الإذن لامرأته في الخروج إلى المسجد من غير تخيير، فإيجاب الإذن لا مانع منه. وكذلك تحريم المنع، وقد دلّ النص الصحيح على إيجابه فلا وجه لردّه بأمر محتمل كما ترى. وقول النووي: لأن حقّ الزوج في ملازمة المسكن واجب، فلا تتركه للفضيلة لا يصلح، لأن يرد به النص الصريح منه صلى الله عليه وسلم، فأمره صلى الله عليه وسلم الزوج بالإذن لها يلزمه ذلك، ويوجبه عليه، فلا يعارض بما ذكره النووي كما ترى. وما ذكره النووي عن البيهقي: من أن عدم الوجوب قال به عامة العلماء غير مسلم أيضاً، فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه لما حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الذي ذكرنا عنه في أمر الأزواج بالإذن للنساء في الخروج إلى المساجد، وقال ابنه: لا ندعهن يخرجن، غضب وشتمه ودفع في صدره منكراً عليه، مخالفته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك دليل واضح على اعتقاده وجوب امتثال ذلك الأمر بالإذن لهن.
قال مسلم بن الحجاجرحمه الله في صحيحه: حدثني حَرْمَلة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها" فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن، فأقبل عليه عبد الله فسبَّه سباً سيئاً ما سمعته سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: والله لنمنعهن، وفي لفظ عند مسلم: فَزَبره ابن عمر قال: أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لا ندعهن. وفي لفظ لمسلم أيضاً: فضرب في صدره.
واعلم أن ابن عبد الله بن عمر الذي زعم أنه لم يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإذن للنساء إلى المساجد جاء في صحيح مسلم أنه بلال بن عبد الله بن عمر.
وفي رواية عند مسلم: أنه واقد بن عبد الله بن عمر: والحقّ تعدد ذلك فقد قاله كل من بلال، وواقد ابني عبد الله بن عمر، وقد أنكر عمر على كلّ منهما. كما جاءت به الروايات الصحيحة عند المسلم وغيره، فكون ابن عمر رضي الله عنهما أقبل على ابنه بلال وسبَّه سبَّا سيئاً وقال منكراً عليه، أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لنمنعُهنّ: فيه دليل واضح أنّ ابن عمر يرى لزوم الإذن لهنّ، وأنّ منعهن لا يجوز، ولو كان يراه جائزاً ما شدّد النكير على ابنيه كما لا يخفى.
وقال النووي في شرح مسلم: قوله: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبَّا سيئاً. وفي رواية فزبره. وفي رواية: فضرب في صدره، فيه تعزير المعترض على السنة والمعارض لها برأيه.
قال مقيّده عفا الله وغفر له: وكلام النووي هذا الذي رأيت اعتراف منه بأن مذهبه وهو مذهب الشافعي ومن قال بقوله، كما نقل عن البيهقي، أنه قول عامة العلماء، أن جميع القائلين بذلك مستحقُّون للتعزير، معترضون على السنة، معارضون لها برأيهم، والعجب منه كيف يقرّ بأن بلال بن عبد الله بن عمر مستحق للتعزير لاعتراضه على السنة، ومعارضته لها برأيه، مع أن مذهبه الذي ينصره وينقل أنه قول عامة العلماء عن البيهقي هو بعينه قول بلال بن عبد الله بن عمر الذي صرح هو بأنه يستحق به التعزير، وأنّه اعتراض على السنة ومعارضة لها بالرأي. وقال النووي: قوله: فزبره. أى نهره. وقال ابن حجر في فتح الباري: ففي رواية بلال عند مسلم، فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبَّا شديداً ما سمعتُه سبه مثله قط، وفسر عبد الله بن هُبيرة في رواية الطبراني السبّ المذكور باللّعن ثلاث مرات وفي رواية زائدة عن الأعمش فانتهره وقال: أفٍّ لك. وله عن ابن نمير عن الأعمش فعل الله بك وفعل، ومثله للترمذي من رواية عيسى بن يونس. ولمسلم من رواية أبي معاوية: فزبره. ولأبي داود من رواية جرير: فسبّه وغضب، إلى أن قال: وأخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه، وهو اعتراف منه أيضاً بأنّ من خالف الحديث المذكور معترض على السنن برأيه.
وبه تعلم أن ما قدّمنا عنه من كون الأمر بالإذن لهن إلى المساجد ليس للوجوب اعتراض على السنن بالرأي كما ترى.
وبما ذكرنا أن الدليل قد دلّ من السنة الصحيحة على وجوب الإذن للنساء في الخروج إلى المساجد كما ذكرنا، ويؤيده أن ابن عمر لم ينكر أحد من الصحابة تشنيعه على ولديه كما أوضحناه آنفاً. والعلم عند الله تعالى.
وإذا علمت أن ما ذكرنا من النصوص الصريحة في الأمر بالإذن لهن يقتضي جواز خروجهن إلى المساجد، فاعلم أنه ثبت في الصحيح أنهنّ كنّ يخرجن إلى المسجد، فيصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم. قال البخاريرحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن بُكير قال: أخبرنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني عُرْوَة بن الزُّبير: أنّ عائشة رضي الله عنها أخبرته قالت: كُنّ نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الفجر منلفعات بمروطِهنَّ، ثم ينقَلبن إلى بيوتهن حين يقضينَ الصلاة لا يعرفُهُنَّ أحدٌ مِن الغَلَس اهـ. وهذا الحديث أخرجه أيضاً مسلم وغيره. وقد جاءت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما دالة على ما دل عليه حديث عائشة هذا المتفق عليه من كون النساء كنّ يشهدن الصلاة في المسجد معه صلى الله عليه وسلم.
تنبيه
قد علمت مما ذكرنا في روايات حديث ابن عمر المتفق عليه: أنّ في بعض رواياته المتفق عليها تقييد أمر الرجال بالإذن للنساء في الخروج إلى المسجد باللّيل، وفي بعضها الإطلاق وعدم التقييد بالليل، وهو أكثرالروايات كما أشار له ابن حجر في الفتح.
وقد يتبادر للناظر أن الأزواج ليسوا مأمورين بالإذن للنساء إلا في خصوص الليل، لأنه أستر، ويترجّح عنده هذا بما هو مقرر في الأصول من حمل المطلق على المقيّد، فتحمل روايات الإطلاق على التقييد بالليل، فيختصّ الإذن المذكور باللّيل.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر عندي تقديم روايات الإطلاق وعدم التقييد بالليل لكثرة الأحاديث الصحيحة الدالة على حضور النساء الصلاة معه صلى الله عليه وسلم في غير الليل، كحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفاً الدال على حضورهن معه صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، وهي صلاة نهار لا ليل، ولا يكون لها حكم صلاة الليل، بسبب كونهنّ يرجعن لبيوتهن، ولا يعرفن من الغلس، لأن ذلك الوقت من النهار قطعاً، لا من الليل، وكونه من النهار مانع من التقييد باللّيل، والعلم عند الله تعالى. وأما ما يشترط في جواز خروج النساء إلى المساجد فهو المسألة الرابعة.
اعلم أن خروج المرأة إلى المسجد يشترط فيه عند أهل العلم شروط يرجع جميعها إلى شيء واحد، وهو كون المرأة وقت خروجها للمسجد ليست متلبسة بما يدعو إلى الفتنة مع الأمن من الفساد.
قال النووي في شرح مسلم في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم
"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" ما نصّه: هذا وما أشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع المسجد، ولكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث، وهي ألا تكون متطيبة، ولا متزينة، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها، ولاثياب فاخرة، ولا مختلطة بالرجال، ولا شابة ونحوها. ممن يفتتن بها، وألا يكون في الطريق ما يخاف منه مفسدة ونحوها. انتهى محل الغرض من كلام النووي.
قال مقيده عفا الله وغفر له: هذه الشروط التي ذكرها النووي وغيره منها ما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لا نص فيه، ولكنه ملحق بالمنصوص لمشاركته له في علته، وإلحاق بعضها لا يخلو من مناقشة كما سترى إيضاح ذلك كلّه إن شاء الله تعالى. أما ما هو ثابت عنه صلى الله عليه وسلم من تلك الشروط، فهو عدم التطيّب، فشرط جواز خروج المرأة إلى المسجد ألاّ تكون متطيبة.
قال مسلم بن الحجاجرحمه الله في صحيحه: حدثنا هارون بن سعيد الأيليُّ، حدثنا ابن وَهبْ، أخبرني مخرمة، عن أبيه عن بُسرِ بن سعيد أن زَينب الثقفية كانت تُحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال
"إذا شَهَدَتْ إحداكُنَّ العشاء، فلا تطيِّب تلك الليلة"
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن محمد بن عجلان حدثني بكير بن عبد الله الأشج، عن بُسر بن سعيد، عن زينب امرأة عبد الله قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسَّ طيباً"
حدثنا يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم، قال يحيى: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي فَرْوة، عن يزيد بن خُصَيْفَة، عن بُسر بن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأةٍ أصابت بخوراً فلا تَشهد معنا العشاء الآخرة" اهـ. فهذا الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن صحابيين، وهما: أبو هريرة، وزينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، صريح في أن المتطيّبة ليس لها الخروج إلى المسجد، ويؤيِّد ذلك ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حمّاد عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات" اهـ. وقوله: وهنّ تفلات: أي غير متطيبات. وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث وراه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم. وتفلات بفتح التاء المثناة فوق وكسر الفاء: أي تاركات الطيب اهـ. ومنه قول امرئ القيس:

إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها تميل عليه هونة غير متغالي

وهذا الحديث أخرجه أيضاً الإمام أحمد وابن خزيمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه ابن حبّان من حديث زيد بن خالد. قاله الشوكاني وغيره.
وإذا علمت أن هذه الأحاديث دلّت على المتطيِّبة ليس لها الخروج إلى المسجد، لأنها تحرِّك شهوة الرجال بريح طيبها.
فاعلم أن أهل العلم ألحقوا بالطيب ما في معناه كالزينة الظاهرة، وصوت الخلخال والثياب الفاخرة، والاختلاط بالرجال، ونحو ذلك بجامع أن الجميع سبب الفتنة بتحريك شهوة الرجال، ووجهه ظاهر كما ترى. وألحق الشافعيّة بذلك الشابة مطلقاً، لأن الشباب مظنَّة الفتنة، وخصصوا الخروج إلى المساجد بالعجائز. والأظهر أن الشابة إذا خرجت مستترة غير متطيِّبة، ولا متلبِّسة بشيء آخر من أسباب الفتنة أن لها الخروج إلى المسجد لعموم النصوص المتقدّمة. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة: اعلم أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهنّ من الصلاة في المساجد، ولو كان المسجد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبه تعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم:
"صلاة في مسجدي هذا، خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" خاص بالرجال، أما النساء فصلاتهنّ في بيوتهن خير لهن من الصلاة في الجماعة في المسجد.
قال أبو داود في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام بن حوشب، حدثني حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"لا تمنعوا نساءكم المساجدّ وبيوتُهنَّ خيرٌ لهنَّ" وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: وحديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود بلفظه هذا، بإسناد صحيح على شرط البخاري اهـ.
وهذا الحديث أخرجه أيضاً الإمام أحمد. وقال ابن حجر في فتح الباري: وقد ورد في بعض روايات هذا الحديث وغيره، ما يدلّ على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وذلك في رواية حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر بلفظ
"لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن" أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة، ولأحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحبُّ الصلاة معك، فقال: "قد علمتُ وصلاتك في بيتك خيرٌ لكِ من صلاتك في حُجرتك، وصلاتك في حجرتك خيرٌ من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة" وإسناد أحمد حسن وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود، ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل، الأمن فيه من الفتنة. انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر.
وحديث ابن مسعود الذي أشار له هو ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا ابن المثنى، أن عمرو بن عاصم حدثهم قال: ثنا همام عن قتادة، عن مورق عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حُجرتها وصلاتها في مُخدعها أفضل من صلاتها في بيتها" اهـ.
وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم، وقد روى أحمد عن أم سلمة عنه صلى الله عليه وسلم:
"خير مساجد النساء قعر بيوتهن"
وبما ذكرنا من النصوص تعلم أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهن من صلاتهن في الجماعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره من المساجد لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يؤكد صلاتهن في بيوتهن ما أحدثنه من دخول المسجد في ثياب قصيرة هي مظنًّة الفتنة، ومزاحمتهنَّ للرجال في أبواب المسجد عند الدخول والخروج، وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: لو أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى من النساء ما رأينا، لمنعهنَّ منَ المسجد كما مَنَعت بنو إسرائيل نساءَها.
وقد علمت مما ذكرنا من الأحاديث أن مفهوم المخالفة في قوله تعالى: { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ رِجالٌ } الآية معتبر، وأنه ليس مفهوم لقب، وقد أوضحنا المفهوم المذكور بالسنة كما رأيت. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ }.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الرجال الذين يسبحون له في المساجد بالغدو والآصال، إلى آخر ما ذكر من صفاتهم: أنهم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهو يوم القيامة لشدة هوله، وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من عظم هول ذلك اليوم، وتأثيره في القلوب والأبصار، جاء في آيات كثيرة من كتاب الله العظيم كقوله تعالى:
{ { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } [النازعات: 8ـ9] وقوله تعالى: { { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } [إبراهيم: 42] وقوله تعالى: { { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلأَزِفَةِ إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ } [غافر: 18] الآية. ونحو ذلك من الآيات الدالة على عظم ذلك اليوم كقوله تعالى: { { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } } [المزمل: 17ـ18] الآية. وقوله تعالى: { { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } [الإنسان: 9ـ10] إلى غير ذلك من الآيات. وفي معنى تقلب القلوب والأبصار أقوال متعددة لأهل التفسير، ذكرها القرطبي وغيره.
وأظهرها عندي: أن تقلب القلوب هو حركتها من أماكنها من شدّة الخوف كما قال تعالى:
{ { إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ } [غافر: 18] وأن تقلب الأبصار هو زيغوغتها ودورانها بالنظر في جميع الجهات من شدة الخوف، كما قال تعالى: { { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } [الأحزاب: 19] الآية. وكقوله تعالى: { { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } [الأحزاب: 10] فالدوران والزيغوغة المذكوران يعلم بهما معنى تقلب الأبصار، وإن كانا مذكورين في الخوف من المكروه في الدنيا.