خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً
٢٧
يَٰوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً
٢٨
لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً
٢٩
-الفرقان

أضواء البيان في تفسير القرآن

من المشهور عند علماء التفسير أن الظالم الذي نزلت فيه هذه الآية، هو عقبة بن أبي معيط، وأن فلاناً الذي أضله عن الذكر أمية بن خلف، أو أخوه أبي بن خلف، وذكر بعضهم أن في قراءة بعض الصحابة. ليتني لم أتخذ أبياً خليلاً، وهو على تقدير ثبوته من قبيل التفسير، لا القراءة، وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ، لا بخصوص الأسباب، فكل ظالم أطاع خليله في الكفر، حتى مات على ذلك يجري له مثل ما جرى لابن أبي معيط.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات الكريمة جاء موضحاً في غيرها. فقوله: { وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ } كناية عن شدة الندم والحسرة، لأن النادم ندماً شديداً، يعض على يديه، وندم الكافر يوم القيامة وحسرته الذي دلت عليه هذه الآية، جاء موضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى في سورة يونس:
{ { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [يونس: 54] الآية. وقوله تعالى في سورة سبأ { { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [سبأ: 33] الآية: وقوله تعالى: { { قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } [الأنعام: 31] الآية. والحسرة أشد الندامة وقوله تعالى: { { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ } [البقرة: 167] إلى غير ذلك من الآيات، وما ذكره هنا من أن الكافر يتمنى أن يكون آمن بالرسول في دار الدنيا، واتخذ معه سبيلاً: أي طريقاً إلى الجنة في قوله هنا: { يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً } جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى: { { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَآ أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ } [الأحزاب: 66] وقوله تعالى: { { يَقُولُ يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [الفجر: 24] وقوله تعالى: { { رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } [الحجر: 2] إلى غير ذلك من الآيات.
والسبيل التي يتمنى الكافر أن يتخذها مع الرسول المذكورة في هذه الآية، ذكرت أيضاً في آيات أخر كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة سورة الفرقان
{ { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } [المزّمّل: 19] و [الإنسان: 29] في المزمل والإنسان، ويقرب من معناه المآب المذكورة في قوله تعالى: { { ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلْحَقُّ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآباً } [النبأ: 39] وما ذكره هنا من أن الكافر ينادي بالويل، ويتمنى أنه لم يتخذ من أضله خليلاً، ذكره في غير هذا الموضع، أما دعاء الكفار بالويل: فقد تقدم في قوله تعالى: { { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } [الفرقان: 13ـ14] وأما تمنيهم لعدم طاعة من أضلهم، فقد ذكره أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى: { { وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا } [البقرة: 167] فلفظة لو في قوله: { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } للتمني، ولذلك نصب الفعل المضارع بعد الفاء في قوله: { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُم } الآية. وهو دليل واضح على ندمهم على موالاتهم، وطاعتهم في الدنيا، وما ذكره جل وعلا هنا من أن أخلاء الضلال من شياطين الإنس والجن، يضلون أخلاءهم عن الذكر بعد إذ جاءهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى: { { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } [الأعراف: 202] وقوله تعالى: { { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } [فصلت: 25] الآية وقوله تعالى: { { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ } [الأنعام: 128] الآية، وقوله تعالى: { { وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } [الأحزاب: 67] وقوله تعالى: { { حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ ٱلنَّارِ } [الأعراف: 38] وقوله تعالى: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [سبأ: 31] الآيات. إلى غير ذلك من الآيات، وقوله تعالى هنا: { وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً } الأظهر أنه من كلام الله، وليس من كلام الكافر النادم يوم القيامة، والخذول صيغة مبالغة، والعرب تقول: خذله إذا ترك نصره مع كونه يترقب النصر منه، ومنه قوله تعالى: { { وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ } [آل عمران: 160] وقول الشاعر:

إن المرء ميتاً بانقضاء حياته ولكن بأن يبغي عليه فيخذلا

وقول الآخر:

إن الألى وصفوا قومي لهم فبهم هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا

ومن الآيات الدالة على أن الشيطان يخذل الإنسان قوله تعالى: { { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } [إبراهيم: 22] وقوله تعالى: { { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ } [الأنفال: 48] الآية. وقوله تعالى في هذه الآية: { لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكْرِ } [الفرقان: 29] الأظهر أن الذكر القرآن وقوله: { لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } العرب تطلق لفظة فلان كناية عن العلم: أي لم أتخذ أبياً أو أمية خليلاً، ويكنون عن علم الأنثى بفلانة ومنه قول عروة بن حزام العذري:

ألا قاتل الله الوشاة وقولهم فلانة أضحت خلة لفلان

وقوله: { يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ } [الفرقان: 27] من عضض بكسر العين في الماضي، يعض بفتحها في المضارع على القياس، ومنه قول الحارس بن وعلة الذهلي:

الآن لما أبيض مسربتي وعضضت من نابى على جذم

فإن الرواية المشهورة في البيت عضضت بكسر الضاد الأولى وفيها لغة بفتح العين في الماضي، والكسر أشهر، وعض تتعدى بعلى كما في الآية وبيت الحارث بن وعلة، المذكورين وربما عديت بالباء ومنه قول ابن أبي ربيعة:

فقالت وعضت بالبنان فضحتني وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر

وهذه الآية الكريمة تدل على أن قرين السوء، قد يدخل قرينه النار والتحذير من قرين السوء مشهور معروف، وقد بين جل وعلا في سورة الصافات: أن رجلاً من أهل الجنة أقسم بالله أن قرينه كاد يرديه أي يهلكه بعذاب النار، ولكن لطف الله به فتداركه برحمته وإنعامه فهداه وأنقذه من النار، وذلك في قوله تعالى: { { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ } [الصافات: 51ـ52] إلى قوله تعالى: { { فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ } [الصافات: 55ـ57].