خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً
٧
أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً
٨
ٱنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً
٩
-الفرقان

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَقَالُواْ مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ }.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار قالوا في نبينا صلى الله عليه وسلم ما لهذا الرسول، يعنون ما لهذا الذي يدّعي أنه رسول، وذلك كقول فرعون في موسى:
{ { قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [الشعراء: 27] أي ما له يأكل الطعام كما نأكله، فهو محتاج إلى الأكل كاحتياجنا إليه، ويمشي في الأسواق أي لا حتياجه إلى البيع والشراء، ليحصل بذلك قوته يعنون أنه لو كان رسولاً من عند الله، لكان ملكاً من الملائكة لا يحتاج إلى الطعام، ولا إلى المشي في الأسواق، وادِّعاء الكفار أن الذي يأكل كما يأكل الناس، ويحتاج إلى المشي في الأسواق، لقضاء حاجته منها، ولا يمكن أن يكون رسولاً، وأن الله لا يرسل إلا ملكاً، لا يحتاج للطعام، ولا للمشي في الأسواق، جاء موضحاً في آيات كثيرة، وجاء في آيات أيضاً تكذيب الكفار في دعواهم هذه الباطلة.
فمن الآيات الدالة على قولهم مثل ما ذكر عنهم في هذه الآية قوله تعالى:
{ { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي ٱلْحَيـاةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [المؤمنون: 33ـ34] وقوله تعالى: { { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [الإسراء: 94]، وقوله تعالى عنهم: { { فَقَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } [المؤمنون: 47] الآية، وقوله تعالى: { { فَقَالُوۤاْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ } [القمر: 24] الآية. وقوله: { { فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ } [التغابن: 6] الآية. وقوله تعالى: { { قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا } [إبراهيم: 10].
ومن الآيات التي كذبهم الله بها في دعواهم هذه الباطلة، وبين فيها أن الرسل يأكلون ويمشون في الأسواق ويتزوجون ويولد لهم، وأنهم من جملة البشر، إلا أنه فضلهم بوحيه ورسالته، وأنه لو أرسل للبشر ملكاً لجعله رجلاً، وأنه لو كانت في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين، لنزل عليهم ملكاً رسولاً، لأن المرسل من جنس المرسل إليهم، قوله تعالى في هذه السورة الكريمة:
{ { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ } [الفرقان: 20] وقوله تعالى: { { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنا هُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } [الرعد: 38] وقوله تعالى: { { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَى } [يوسف: 109]، أي ولم نجعلهم ملائكة، لأن كونهم رجالاً وكونهم من أهل القرى، صريح في أنهم ليسوا ملائكة، وقوله تعالى: { { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [الأنعام: 9] وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار: إنه بشر، وإنه رسول. وذلك لأن البشرية لا تنافي الرسالة في قوله تعالى: { { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } } [الإسراء: 93]، وقوله تعالى: { { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا } [الكهف: 110]، وقوله تعالى: { { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَٱسْتَقِيمُوۤاْ إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ } [فصّلت: 6] الآية. وبين جل وعلا أن الرسل قالوا مثل ذلك في قوله: { { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [إبراهيم: 11] الآية، وقال تعالى: { { قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } } [الإسراء: 95]، وقوله تعالى: { وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ } جمع سوق وهي مؤنثة، وقد تذكر. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: { لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا }.
اعلم أولاً أن لولا في هذه الآية الكريمة حرف تحضيض على التحقيق، والتحضيض. هو الطلب بحث، وشدة، وإليه أشار في الخلاصة بقوله:

وبهما التحضيض مزوهلا ألاّ ألا وأولينها الفعلا

وبه تعلم أن المضارع في قوله: فيكون معه نذيراً منصوب بأن مستترة وجوباً، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض، كما أشار له في الخلاصة بقوله:

وبعد فاجواب نفي أو طلب محضين أن وسترها حتم نصب

ونظير هذا من النصب بأن المستترة بعد الفاء التي هي جواب التحضيض، قوله تعالى: { { فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [المنافقون: 10] لأن قوله: أخرتني طلب منه للتأخير بحث وشدة، كما دل عليه حرف التحضيض الذي هو لولا، نظيره من كلام العرب قول الشاعر:

لولا تعوجين يا سلمى على دنف فتخمدي نار وجد كاد يفنيه

فقوله تعالى في الآية الكريمة: فأصدقَ بالنصب، وقول الشاعر: فتخمدي منصوب أيضاً، بحذف النون، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض.
واعلم أن جزم الفعل المعطوف على الفعل المنصوب أعني قوله: { وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } إنما ساغ فيه الجزم، لأنه عطف على المحل لأن الفاء لو حذفت مع قصد جواب التحضيض لجزم الفعل، وجواز الجزم المذكور عند الحذف المذكور، هو الذي سوَّغ عطف المجزوم على المنصوب. وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:

وبعد غير النَّفي جزْماً اعتمد إن تسقط الفا والجزاء قد قصد

وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره، وأشار له الزمخشري من أن لولا في الآية للاستفهام، ليس بصحيح.
واعلم أن الكفار في هذه الآية الكريمة اقترحوا بحث وشدة عليه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور:
الأول: أن ينزل إليه ملك، فيكون معه نذيراً أي يشهد له بالصدق، ويعينه على التبليغ.
الثاني: أن يلقى إليه كنز، أي ينزل عليه كنز من المال ينفق منه، ويستغني به عن المشي في الأسواق.
الثالث: أن تكون له جنة يأكل منها، والجنة في لغة العرب البستان ومنه قول زهير:

كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا

فقوله: تسقي جنة أي بستاناً، وقوله: سحقاً يعني أن نخله طوال.
وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة التي اقترحها الكفار وطلبوها بشدة وحث، تعنتاً منهم وعناداً، جاءت مبينة في غير هذا الموضع، فبين جل وعلا في سورة هود اقتراحهم، لنزول الكنز، ومجيء الملك معه، وأن ذلك العناد والتعنت قد يضيق به صدره صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله تعالى:
{ { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ } [هود: 12]، وبين جل وعلا في سورة بني إسرائيل اقتراحهم الجنة، وأوضح أنهم يعنون بها بستاناً من نخيل وعنب، وذلك في قوله تعالى: { { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً } [الإسراء: 90ـ91] واقتراحهم هذا شبيه بقول فرعون في موسى: { { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [الزخرف: 53] تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم.
وقد قدمنا في الكلام على آية سورة بني إسرائيل، هذه الآيات الدالة على كثرة اقتراح الكفار، وشدة تعنتهم وعنادهم، وأن الله لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا كما قال تعالى:
{ { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [الأنعام: 7] وقال تعالى: { { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } [الحجر: 14ـ15] وقال تعالى: { { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [الأنعام: 111] الآية، وقال تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍَ } [يونس: 96ـ97] الآية. إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
وقال الزمخشري في تفسير آية الفرقان هذه: يأكل الطعام كما نأكل، ويتردد في الأسواق كما نتردد. يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكاً إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك، حتى يتساعدا في الإنذار والتخويف، ثم نزلوا أيضاً فقالوا إن لم يكن مرفوداً بذلك، فليكن مرفوداً بكنز يُلقى إليه من السماء، يستظهر به، لا يحتاج إلى تحصيل المعاش، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه، ويرتزق كالدهاقين أو يأكلون هم من ذلك البستان، فينتفعون به في دنياهم، ومعاشهم انتهى منه، وكل تلك الاقتراحات لشدة تعنتهم، وعنادهم. وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي يأكل منها بالمثناة التحتية، وقرأ حمزة والكسائي: جنة نأكل منها بالنون، وهذه القراءة هي مراد الزمخشري بقوله: أو يأكلون هم من ذلك البستان.
قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ٱنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً }.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الظالمين وهم الكفار قالوا للذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } يعنون: أنه أثر فيه السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره، وقال مجاهد: مسحوراً: أي مخدوعاً كقوله:
{ { فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ } [المؤمنون: 89]: أي من أين تخدعون، وقال بعضهم: مسحوراً: أي له سحر أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو بشر مثلكم، وليس بملك، وقد قدمنا كلام أهل العلم في قوله: مسحوراً بشواهده العربية في سورة طه في الكلام على قوله تعالى: { { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ } [طه: 69] ولما ذكر الله هذا الذي قاله الكفار في نبيه صلى الله عليه وسلم، من الإفك والبهتان خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: { ٱنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً }، وما قاله الكفار في هذه الآية أعني قولهم: { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } وما قاله الله لنبيه في ذلك، وهو قوله: { ٱنظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ } الآية. جاء كله مصرحاً به في سورة بني إسرائيل في قوله تعالى: { { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } [الإسراء: 47ـ48].
قال الزمخشري: ضربوا لك الأمثال قالوا فيك تلك الأقوال، واقترحوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة، من نبوة مشتركة بين إنسان وملك، وإلقاء كنز عليك من السماء، وغير ذلك، فبقوا متحيرين ضلالاً لا يجدون قولاً يستقرون عليه، أو فضلوا عن الحق، فلا يجدون طريقاً إليه اهـ.
والأظهر عندي في معنى الآية ما قاله غير واحد من أن معنى: ضربوا لك الأمثال: أنهم تارة يقولون إنك ساحر، وتارة مسحور، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وتارة كاهن، وتارة كذاب، ومن ذلك ما ذكر الله عنهم من قوله هنا:
{ { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ } [الفرقان: 4] الآية، وقوله: { { وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [الفرقان: 5] وقوله: { وَقَالَ ٱلظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } وقوله تعالى: { فَضَلُّواْ } أي عن طريق الحق، لأن الأقوال التي قالوها، والأمثال التي ضربوها كلها كذب وافتراء، وكفر مخلد في نار جهنم، فالذين قالوها هم أضل الضالين، وقوله تعالى: { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } فيه أقوال كثيرة متقاربة.
وأظهرها أن معنى: فلا يستطيعون سبيلاً: أي طريقاً إلى الحق والصواب، ونفي الاستطاعة المذكور هنا كقوله تعالى:
{ { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } [هود: 20] وقوله تعالى: { { ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } [الكهف: 101] وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: { { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } [هود: 20] وقد قدمنا أيضاً معنى الظلم والضلال وما فيهما من الإطلاقات في اللغة مع الشواهد العربية في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.