خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً
٧٧
-الفرقان

أضواء البيان في تفسير القرآن

العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، يقولون: ما عبأت بفلان أي ما باليت به، ولا اكترثت به: أي ما كان له عندي وزن، ولا قدر يستوجب الاكتراث، والمبالاة به، وأصله من العبء، وهو الثقل ومنه قول أبي زيد يصف أسداً:

كان بنحره وبمنكبيه عبيراً بات يعبؤه عروس

وقوله: يعبؤه: أي يجعل بعضه فوق بعض لمبالاته به واكتراثه به.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن كلام أهل التفسير في هذه الآية الكريمة، يدور على أربعة أقوال:
واعلم أولاً أن العلماء اختلفوا في المصدر في قوله: لولا دعاؤكم، هل هو مضاف إلى فاعله، أو إلى مفعوله، وعلى أنه مضاف إلى فاعله فالمخاطبون بالآية، داعون: لا مدعوون: أي ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم: أي عبادتكم له. وأما على أن المصدر مضاف إلى مفعوله فالمخاطبون بالآية، مدعوون، لا داعون: أي ما يعبؤ بكم، لولا دعاؤه إياكم إلى توحيده، وعبادته على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام.
واعلم أيضاً أن ثلاثة من الأقوال الأربعة المذكورة في الآية مبنية على كون المصدر فيها مضافاً إلى فاعله. والرابع: مبني على كونه مضافاً إلى مفعوله.
أما الأقوال الثلاثة المبنية على كونه مضافاً إلى فاعله.
فالأول منها أن المعنى: ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم: أي عبادتكم له وحده جل وعلا، وعلى هذا القول فالخطاب عام للكافرين والمؤمنين ثم أفرد الكافرين دون المؤمنين بقوله:
{ { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } } [الفرقان: 77] الآية.
والثاني منها: أن المعنى: لولا دعاؤكم أيها الكفار له وحده عند الشدائد والكروب: أي ولو كنتم ترجعون إلى شرككم، إذا كشف الضر عنكم.
والثالث: أن المعنى ما يعبؤ بكم ربي: أي ما يصنع بعذابكم، لولا دعاؤكم معه آلهة أخرى، ولا يخفى بعد هذا القول، وأن فيه تقدير ما لا دليل عليه، ولا حاجة إليه.
أما القول الرابع المبني على أن المصدر في الآية، مضاف إلى مفعوله فهو ظاهر، أي ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤه إياكم على ألسنة رسله.
وإذا عرفت هذه الأقوال فاعلم أن كل واحد منها، قد دل عليه قرآن وسنبين هنا إن شاء الله تعالى دليل كل قول منها من القرآن مع ذكر ما يظهر لنا أنه أرجحها.
أما هذا القول الأخير المبني على أن المصدر في الآية مضاف إلى مفعوله، وأن المعنى: ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم إياكم إلى الإيمان به، وتوحيده، وعبادته على ألسنة رسله، فقد دلت عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى في أول سورة هود:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [هود: 7] وقوله تعالى في أول سورة الكهف: { { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [الكهف: 7] وقوله في أول سورة الملك: { { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2].
فهذه الآيات قد أوضحت أن الحكمة في خلقه السماوات والأرض، وجميع ما على الأرض والموت والحياة، هي أن يدعوهم على ألسنة رسله، ويبتليهم أي أن يختبرهم أيهم أحسن عملاً. وهذه الآيات تبين معنى قوله تعالى:
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56].
وفي هذه الآيات إيضاح لأن معنى قوله: لولا دعاؤكم: أي دعاؤه إياكم على ألسنة رسله، وابتلاؤكم أيكم أحسن عملاً، وعلى هذا فلا إشكال في قوله: فقد كذبتم: أي ما يعبؤ بكم لولا دعاؤه إياكم: أي وقد دعاكم فكذبتم، وهذا القول هو وحده الذي لا إشكال فيه. فهو قوي بدلالة الآيات المذكورة عليه.
وأما القول بأن معنى: لولا دعاؤكم: أي إخلاصكم الدعاء له أيها الكفار عند الشدائد، والكروب، فقد دلت على معناه آيات كثيرة كقوله تعالى:
{ { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [العنكبوت: 65] وقوله تعالى: { { جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّين } [يونس: 22].
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى:
{ { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء: 67] الآية، وهذا القول وإن دلت عليه آيات كثيرة، فلا يظهر كونه هو معنى آية الفرقان هذه.
أما القول بأن المعنى: ما يصنع بعذابكم، لولا دعاؤكم معه آلهة أخرى، فقد دل على معناه قوله تعالى:
{ { مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } [النساء: 147] الآية.
والقول الأول الذي هو أشهر الأقوال وأكثرها قائلاً، وهو أن المعنى: لولا دعاؤكم: أي عبادتكم له وحده، قد دل عليه جميع الآيات الدالة على ما يعيطه الله لمن أطاعه، وما أعده لمن عصاه، وكثرتها معلومة لا خفاء بها.
واعلم أن لفظة ما، في قوله: { قُلْ مَا يَعْبَؤا بِكُمْ رَبِّي } قال بعض أهل العلم: هي استفهامية. وقال بعضهم: هي نافية وكلاهما له وجه من النظر.
واعلم أن قول من قال: لولا دعاؤكم: أي دعاؤكم إياي لأغفر لكم، وأعطيكم ما سألتم راجع إلى القول الأول، لأن دعاء المسألة داخل في العبادة كما هو معلوم. وقوله: فقد كذبتم: أي بما جاءكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قدمنا في الكلام على قوله تعالى:
{ { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [الفرقان: 65] أن معنى قوله تعالى: { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي سوفي يكون العذاب ملازماً لهم غير مفارق، كما تقدم إيضاحه.
وقال جماعة من أهل العلم: إن المراد بالعذاب اللازم لهم المعبر عن لزومه لهم بقوله: { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أنه ما وقع من العذاب يوم بدر، لأنهم قتل منهم سبعون وأسر سبعون، والذين قتلوا منهم ما أصابهم عذاب القتل، واتصل به عذاب البرزخ والآخرة فهو ملازم لا يفارقهم بحال، وكون اللزام المذكور في هذه الآية: العذاب الواقع يوم بدر، نقله ابن كثير عن عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومحمد بن كعب القرظي، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم ثم قال: وقال الحسن البصري: { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي يوم القيامة، ولا منافاة بينهما. انتهى من ابن كثير، ونقله صاحب الدر المنثور عن أكثر المذكورين وغيرهم.
وقال جماعة من أهل العلم: إن يوم بدر ذكره الله تعالى في آيات من كتابه، قالوا هو المراد بقوله تعالى:
{ { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ } [السجدة: 21] أي يوم بدر { { دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ } [السجدة: 21] أي يوم القيامة، وأنه هو المراد بقوله: { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً }، وأنه هو المراد بالبطش والانتقام، في قوله تعالى: { { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } [الدّخان: 16] وأنه هو الفرقان الفارق بين الحق والباطل في قوله تعالى: { { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ } } [الأنفال: 41] وهو يوم بدر، وأنه هو الذي فيه النصر في قوله تعالى: { { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ } [آل عمران: 123] الآية، وكون المراد بهذه الآيات المذكورة يوم بدر ثبت بعضه في الصحيح، عن ابن مسعود، وهو المراد بقول الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في الكلام على بدر:
وقد أتى منوها في الذكر:

لأنه العذاب واللزام وأنه البطش والانتقام
وأنه الفرقان بين الكفر والحق والنصر سجيس الدهر

ومعنى سجيس الدهر: أي مدته.
وأظهر الأقوال في الآية عندي، هو القول بأن المصدر فيها مضاف إلى مفعوله لجريانه على اللغة الفصيحة من غير إشكال ولا تقدير، وممن قال به قتادة. والعلم عند الله تعالى.