خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

بَلِ ٱدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ
٦٦
-النمل

أضواء البيان في تفسير القرآن

أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه الآية الكريمة أن المعنى: بل ادراك علمهم: أي تكامل علمهم في الآخرة، حين يعاينونها أي يعلمون في الآخرة علماً كاملاً، ما كانوا يجهلونه في الدنيا، وقوله: { بَلِ ٱدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } أي في دار الدنيا، فهذا الذي كانوا يشكون فيه في دار الدنيا، ويعمون عنه مما جاءتهم به الرسل، يعلمونه في الآخرة علماً كاملاً لا يخالجه شك، عند معاينتهم لما كانوا ينكرونه من البعث، والجزاء.
وإنما اخترنا هذا القول دون غيره من أقوال المفسرين في الآية لأن القرآن دل عليه دلالة واضحة في آيات متعددة كقوله تعالى:
{ { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [مريم: 38] فقوله: أسمع بهم، وأبصر يوم يأتوننا بمعنى ما أسمعهم وما أبصرهم للحق الذي كانوا ينكرونه يوم يأتوننا: أي يوم القيامة، وهذا يوضح معنى قوله: { بَلِ ٱدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ } أي تكامل علمهم فيها لمبالغتهم في سمع الحق وإبصاره في ذلك الوقت. وقوله: { { لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [مريم: 38] يوضح معنى قوله: { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } لأن ضلالهم المبين اليوم: أي في دار الدنيا، هو شكهم في الآخرة، وعماهم عنها. وكقوله تعالى: { { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22] أي علمك اليوم بما كنت تنكره في الدنيا مما جاءتك به الرسل حديد: أي قوي كامل.
وقد بينا في كتابنا [دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب] في سورة الشورى، في الجواب عما يتوهم من التعارض بين قوله تعالى:
{ { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } [الشورى: 45]، وقوله تعالى: { { فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22] أن المراد بحدة البصر في ذلك اليوم: كمال العلم وقوة المعرفة. وقوله تعالى: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة: 12] فقوله: إنا موقنون: أي يوم القيامة، يوضح معنى قوله هنا: { بَلِ ٱدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ } وكقوله تعالى: { { وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَن لَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } [الكهف: 48] فعرضهم على ربهم صفاً يتدارك به علمهم، لما كانوا ينكرونه. وقوله: { بَلْ زَعَمْتُمْ أَن لَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } [الكهف: 48] صريح في أنهم في الدنيا كانوا في شك وعمى عن البعث والجزاء، كما ترى إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن قوله: بل ادارك فيه اثنتا عشرة قراءة اثنتان منها فقط سبعيتان، فقد قرأه عامة السبعة، غير ابن كثير وأبي عمرو: بل ادارك بكسر اللام من بل وتشديد الدال بعدها ألف والألف التي قبل الدال همزة وصل، وأصله تدارك بوزن: تفاعل: وقد قدمنا وجه الإدغام، واستجلاب همزة الوصل في تفاعل وتفعل وأمثلة ذلك في القرآن، وبعض شواهده العربية في سورة طه في الكلام على قوله تعالى:
{ { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } [الأعراف: 117] وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو: بل أدرك بسكون اللام من بل، وهمزة قطع مفتوحة، مع سكون الدال على وزن: أفعل.
والمعنى على قراءة الجمهور: بل ادارك علمهم: أي تدارك بمعنى: تكامل. كقوله:
{ { حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً } [الأعراف: 38] وعلى قراءة ابن كثير، وأبي عمرو: بل أدرك.
قال البغوي: أي بلغ ولحق. كما يقال أدركه علمي إذا لحقه وبلغه، والإضراب في قوله تعالى: { بَلِ ٱدَّارَك } { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ } { بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } إضراب انتقالي، والظاهر أن من في قوله تعالى: { بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } بمعنى عن، وعمون جمع عم، وهو الوصف من عمى يعمى فهو أعمى وعم، ومنه قوله تعالى:
{ { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } [الأعراف: 64] وقول زهير في معلقته:

واعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم