خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
٢٢
-النساء

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } الآية.
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نكاح المرأة التي نكحها الأب، ولم يبين ما المراد بنكاح الأب هل هو العقد أو الوطء، ولكنه بين في موضع آخر أن اسم النكاح يطلق على العقد وحده، وإن لم يحصل مسيس وذلك في قوله تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [الأحزاب: 49] فصرح بأنه نكاح وأنه لا مسيس فيه.
وقد أجمع العلماء على أن من عقد عليها الأب حرمت على ابنه وإن لم يمسها الأب، وكذلك عقد الابن محرم على الأب إجماعاً، وإن لم يمسها وقد أطلق تعالى النكاح في آية أخرى مريداً به الجماع بعد العقد، وذلك في قوله:
{ { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [البقرة: 230]. لأن المراد بالنكاح هنا ليس مجرد العقد، بل لا بد معه من الوطء كما قال صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظي: "لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عُسَيْلتك" يعني الجماع ولا عبرة بما يروى من المخالفة عن سعيد بن المسيب. لوضوح النص الصريح الصحيح في عين المسألة.
ومن هنا قال بعض العلماء لفظ النكاح مشترك بين العقد والجماع، وقال بعضهم هو حقيقة في الجماع مجاز في العقد. لأنه سببه وقال بعضهم بالعكس.
تنبيه: قال بعض العلماء إن لفظة { مَا } [النساء: 22] من قوله: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } [النساء: 22] مصدرية وعليه فقوله: { مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [النساء: 22] متعلق بقوله: { تنْكِحُوا } [النساء: 22] لا بقوله: { نَكَحَ } [النساء: 22] وتقرير المعنى على هذا القول ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم أي: لا تفعلوا ما كان يفعله آباؤكم من النكاح الفاسد، وهذا القول هو اختيار ابن جرير، والذي يظهر وجزم به غير واحد من المحققين أن { مَا } [النساء: 22] موصولة واقعة على النساء التي نكحها الآباء، كقوله تعالى:
{ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآء } [النساء: 3] وقد قدمنا وجه ذلك. لأنهم كانوا ينكحون نساء آبائهم كما يدل له سبب النزول، فقد نقل ابن كثير عن أبي حاتم أن سبب نزولها. أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت خطب ابنه امرأته، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال: ارجعي إلى بيتك فنزلت { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } [النساء: 22] الآية.
قال مقيده - عفا الله عنه - نكاح زوجات الآباء كان معروفاً عند العرب، وممن فعل ذلك أبو قيس بن الأسلت المذكور، فقد تزوج أم عبيد الله وكانت تحت الأسلت أبيه، وتزوج الأسود بن خلف ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وكانت تحت أبيه خلف، وتزوج صفوان بن أمية فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد. وكانت تحت أبيه أمية، كما نقله ابن جرير عن عكرمة قائلاً إنه سبب نزول الآية، وتزوج عمرو بن أمية زوجة أبيه بعده فولدت له مسافراً وأبا مُعِيط، وكان لها من أمية أبو العِيص وغيره، فكانوا إخوة مسافر وأبي مُعيط وأعمامهما، وتزوج منظور بن زبّان بن سيار الفزاري زوجة أبيه مليكة بنت خارجة، كما نقله القرطبي وغيره ومليكة هذه هي التي قال فيها منظور المذكور بعد أن فسخ نكاحها منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ألا لا أبالي اليوم ما فعل الدهر إذا منعت مني مليكة والخمر
فإن تك قد أمست بعيداً مزارها فحي ابنة المري ما طلع الفجر

وأشار إلى تزويج منظور هذا زوجة أبيه ناظم عمود النسب، بقوله في ذكر مشاهير فزارة.

منظور الناكح مقتاً وحلف خمسين ماله على منع وقف

وقوله: وحلف إلخ قال شارحه: إن معناه أن عمر بن الخطاب حلفه خمسين يميناً بعد العصر في المسجد أنه لم يبلغه نسخ ما كان عليه أهل الجاهلية من نكاح أزواج الآباء، وذكر السهيلي وغيره أن كنانة بن خزيمة تزوج زوجة أبيه خزيمة فولدت له النضر بن كنانة، قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ولدت من نكاح لا من سِفاح" قال: فدل على أن ذلك كان سائغاً لهم.
قال ابن كثيرة وفيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر، وأشار إلى تضعيف ما ذكره السهيلي ناظم عمود النسب بقوله:

وهند بنت مر أم حارثه شخيصه وأم عنز ثالثه
برة أختها عليها خلفا كنانة خزيمة وضعفا
أختهما عاتكة ونسلها عذرة التي الهوى يقتلها

وذكر شارحه أن الذي ضعف ذلك هو السهيلي نفسه، خلافاً لظاهر كلام ابن كثير. ومعنى الأبيات أن هند بنت مر أخت تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس هي أم ثلاثة من أولاد وائل بن قاسط وهم الحارث وشخيص وعنز، وأن أختها برة بنت مر كانت زوجة خزيمة بن مدركة فتزوجها بعد ابنه كنانة، وأن ذلك مضعف، وأن أختهما عاتكة بنت مر هي أم عذرة أبي القبيلة المشهورة بأن الهوى يقتلها، وقد كان من مختلقات العرب في الجاهلية إرث الأقارب أزواج أقاربهم، كان الرجل منهم إذا مات وألقى ابنه أو أخوه مثلاً ثوباً على زوجته ورثها وصار أحق بها من نفسها، إن شاء نكحها بلا مهر وإن شاء أنكحها غيره وأخذ مهرها، وإن شاء عضلها حتى تفتدى منه، إلى أن نهاهم الله عن ذلك بقوله: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً } [النساء: 19] الآية. وأشار إلى هذا ناظم عمود النسب بقوله:

القول فيما اختلقوا واخترقوا ولم يقد إليه إلا النزق

ثم شرع يعدد مختلقاتهم إلى أن قال:

وإن من ألقى على زوج أبيه ونحوه بعد التوى ثوباً يريه
أولى بها من نفسها إن شاء نكح أو أنكح أو أساء
بالعضل كي يرثها أو تفتدى ومهرها في النكحتين للردى

وأظهر الأقوال: في قوله تعالى: { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [النساء: 22] أن الاستثناء منقطع، أي لكن ما مضى من ارتكاب هذا الفعل قبل التحريم فهو معفو عنه كما تقدم، والعلم عند الله تعالى.