خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٥٢
-الشورى

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا }.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى:
{ { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [النحل: 2] الآية.
قوله تعالى: { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا }.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ }. يبين الله جل وعلا فيه مِنَّتِهِ على هذا النبي الكريم، بأنه علمه هذا القرآن العظيم ولم يكن يعلمه قبل ذلك، وعلمه تفاصيل دين الإسلام ولم يكن يعلمها قبل ذلك.
فقوله: ما كنت تدري ما الكتاب: أي ما كنت تعلم ما هو هذا الكتاب الذي هو القرآن العظيم، حتى علمتكه، وما كنت تدري ما الإيمان الذي هو تفاصيل هذا الدين الإسلامي، حتى علمتكه.
ومعلوم أن الحق الذي لا شك فيه الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد.
وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة، منها: حديث وفد عبد القيس المشهور، ومنها حديث:
"من قام رمضان إيماناً واحتساباً" الحديث، فسمى فيه قيام رمضان إيماناً، وحديث "الإيمان بضع وسبعون شعبة" ، وفي بعض رواياته "بضع وستون شعبة أعلاها شهادة ألا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" .
والأحاديث بمثل ذلك كثيرة ويكفي في ذلك ما أورده البيهقي في شعب الإيمان فهو صلوات الله وسلامه عليه ما كان يعرف تفاصيل الصلوات المكتوبة وأوقاتها ولا صوم رمضان، وما يجوز فيه وما لا يجوز ولم يكن يعرف تفاصيل الزكاة ولا ما تجب فيه ولا قدر النصاب وقدر الواجب فيه ولا تفاصيل الحج ونحو ذلك، وهذا هو المراد بقوله تعالى: { وَلاَ ٱلإِيمَانُ }.
وما ذكره هنا من أنه لم يكن يعلم هذه الأمور حتى علمه إياها بأن أوحى إليه هذا النور العظيم الذي هو كتاب الله، جاء في غير هذا الموضع كقوله تعالى:
{ { وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [النساء: 113] الآية. وقوله جل وعلا { { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ } [يوسف: 3].
فقوله في آية يوسف هذه:
{ { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ } [يوسف: 3] كقوله هنا { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } [الشورى: 52] وقوله تعالى: { { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [الضحى: 7] على أصح التفسيرات كما قدمناه في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى: { { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ } [الشعراء: 20] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ }، الضمير في قوله: جعلناه راجع إلى القرآن العظيم المذكور في قوله: { رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52] وقوله: { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ } أي ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نوراً نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا.
وسمي القرآن نوراً، لأنه يضيء الحق ويزيل ظلمات الجهل والشك والشرك.
وما ذكره هنا من أن هذا القرآن نور، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى:
{ { يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [النساء: 174].
وقوله تعالى
{ { وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ مَعَهُ } [الأعراف: 157] وقوله تعالى: { { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [المائدة: 15-16] وقوله تعالى: { { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا } [التغابن: 8].
وما دلت عليه هذه الآيات الكريمة من كون هذا القرآن نوراً يدل على أنه هو الذي يكشف ظلمات الجهل، ويظهر في ضوئه الحق، ويتميز عن الباطل ويميز به بين الهدى والضلال والحسن والقبيح.
فيجب على كل مسلم أن يستضيء بنوره، فيعتقد عقائده، ويحل حلاله، ويحرم حرامه ويمتثل أوامره ويجتنب ما نهى عنه ويعتبر بقصصه وأمثاله.
والسنة كلها داخلة في العمل به، لقوله تعالى:
{ { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [الحشر: 7].
قوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.
الصراط المستقيم، قد بينه تعالى في قوله:
{ { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [الفاتحة: 6-7].
وقوله في هذه الآية الكريمة { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ } الآية، قد بينا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى:
{ { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُم } [فصلت: 17] الآية، وبينا هناك وجه الجمع بين قوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم } [الشورى: 52] مع قوله { { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56].
والصراط في لغة العرب: الطريق الواضح، والمستقيم. الذي لا اعوجاج فيه، ومنه قول جرير:

أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم