خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٧
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
١٨
-الأحقاف

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } الآية.
التحقيق إن شاء الله أن، { الذي } في قوله: { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ } بمعنى الذين، وأن الآية عامة في كل عاق لوالديه مكذب بالبحث.
والدليل من القرآن على أن الذي، بمعنى الذين، وأن المراد به العموم، أن { الذي } في قوله: { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ } مبتدأ خبره قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } الآية.
والإخبار عن لفظة الذين في قوله { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ } القول بصيغة الجمع، صريح في أن المراد بالذي، العموم لا الإفراد. وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
وبهذا الدليل القرآني تعلم أن قول من قال في هذه الآية الكريمة أنها نازلة في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ليس بصحيح، كما جزمت عائشة رضي الله عنها ببطلانه.
وفي نفس آية الأحقاف هذه دليل آخر واضح على بطلانه، وهو أن الله صرح بأن الذين قالوا تلك المقالة حق عليهم القول، وهو قوله
{ وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة: 13].
ومعلوم أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم وحسن إسلامه، وهو من خيار المسلمين وأفاضل الصحابة، رضي الله عنهم.
وغاية ما في هذه الآية الكريمة هو إطلاق الذي وإرادة الذين، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، لأن لفظ الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم، كما أشار له في مراقي السعود بقوله:

صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع

فمن إطلاق الذي وإرادة الذين في القرآن، هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف، وقوله تعالى في سورة البقرة: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } [البقرة: 17] الآية. أي كمثل الذين استوقدوا بدليل قوله { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [البقرة: 17] بصيغة الجمع في الضمائر الثلاثة التي هي { بِنُورِهِمْ } { وَتَرَكَهُمْ }، والواو في { لاَّ يُبْصِرُونَ } وقوله تعالى في البقرة أيضاً: { كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ }[البقرة: 264] أي كالذين ينفقون بدليل قوله { لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ } [البقرة: 264]. وقوله في الزمر: { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [الزمر: 33] وقوله في التوبة { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [التوبة: 69] أي كالذين خاضوا بناء على أنها موصولة لا مصدرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة:

فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد

وقول عديل بن الفرخ العجلي:

وبت أساقي القوم إخوتي الذيغوايتهم غيي ورشدهم رشدي

وقول الراجز:

يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد
إلا الذي قاموا بإطراف المسد

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { أُفٍّ لَّكُمَآ } كلمة تضجر. وقائل ذلك عاق لوالديه غير مجتنب نهى الله في قوله: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } [الإسراء: 23] الآية. وقوله { أَتَعِدَانِنِيۤ }: فعل مضارع وعد، وحذف واوه في المضارع مطرد، كما ذكره في الخلاصة بقوله:

فا أمر أو مضارع من كوعد احذف وفي كعدة ذاك اطرد

والنون الأولى نون الرفع، والثانية نون الوقاية كما لا يخفى.
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وابن عامر في رواية ابن ذكوان وعاصم وحمزة والكسائي: أتعدانني بنونين مكسورتين مخففتين وياء ساكنة.
وقرأه هشام عن ابن عامر بنون مشددة مكسورة وبياء ساكنة.
وقرأه نافع وابن كثير بنونين مكسورتين مخففتين وياء مفتوحة، والهمزة للإنكار.
وقوله { أَنْ أُخْرَجَ } أي أبعث من قبري حياً بعد الموت.
والمصدر المنسبك من أن وصلتها هو المفعول الثاني لتعدانني يعني أتعدانني الخروج من قبري حياً بعد الموت، والحال قد مضت القرون أي هلكت الأمم الأولى، ولم يحيي منهم أحد، ولم يرجع بعد أن مات.
وهما أي والداه يستغيثان الله أي يطلبانه أن يغيثهما بأن يهدي ولدهما إلى الحق والإقرار بالبعث، ويقولان لولدهما: ويلك آمن. أي بالله وبالبعث بعد الموت.
والمراد بقولهما ويلك: حثة على الإيمان إن وعد الله حق، أي وعده بالبعث بعد الموت حق لا شك فيه، فيقول ذلك الولد العاق المنكر للبعث: { مَا هَـٰذَآ } إن الذي تعدانني إياه من البعث بعد الموت، { إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِين }.
والأساطير جمع أسطورة. وقيل جمع إسطارة، ومراده بها ما سطره الأولون، أي كتبوه من الأشياء التي لا حقيقة لها.
وقوله { أُولَئِكَ } ترجع الإشارة فيه، إلى العاقين المكذبين، بالبعث المذكورين في قوله: { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ } الآية.
وقوله: { حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } أي وجبت عليهم كلمة العذاب.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة يس في الكلام على قوله تعالى
{ لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } يس: 7].
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن منكري البعث يحق عليهم القول لكفرهم، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى
{ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً } [الفرقان: 11].