خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ
١
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ
٢
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَاطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ
٣
-محمد

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: وصدوا عن سبيل الله، قال بعضهم: هو من الصدود، لأن صد في الآية لازمة.
وقال بعضهم: هو من الصد لأن صد في الآية متعدية.
وعليه فالمفعول محذوف أي صدوا غيرهم عن سبيل الله، أي عن الدخول في الإسلام.
وهذا القول الأخير هو الصواب، لأنه على القول بأن صد لازمة، فإن ذلك يكون تكراراً مع قوله { كَفَرُوا } لأن الكفر هو أعظم أنواع الصدود عن سبيل الله.
وأما على القول: بأن صد متعدية فلا تكرار لأن المعنى أنهم ضالون في أنفسهم، مضلون لغيرهم بصدهم إياهم عن سبيل الله، وقد قدمنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى:
{ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم } [النحل: 97] الآية، أن اللفظ إذا دار بين التأكيد والتأسيس وجب حمله على التأسيس، إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي أبطل ثوابها، فما عمله الكافر من حسن في الدنيا، كقري الضيف، وبر الوالدين، وحمي الجار، وصلة الرحمن، والتنفيس عن المكروب، يبطل يوم القيامة، ويضمحل ويكون لا أثر له، كما قال تعالى:
{ وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان: 23]، وهذا هو الصواب في معنى الآية.
وقيل: أضل أعمالهم أي أبطل كيدهم، الذي أرادوا أن يكيدوا به النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي غفر لهم ذنوبهم وتجاوز لهم عن أعمالهم السيئة { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي أصلح لهم شأنهم وحالهم إصلاحاً لا فساد معه، وما ذكره جل وعلا هنا في أول هذه السورة الكريمة، من أن يبطل أعمال الكافرين، ويبقي أعمال المؤمنين جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى:
{ مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [هود: 15-16]. وقوله تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [الشورى: 20] وقوله تعالى: { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [الفرقان: 24].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا مع بعض الأحاديث الصحيحة فيه، مع زيادة إيضاح مهمة في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى:
{ وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [الإسراء: 19]. وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [النحل: 97] الآية. وذكرنا طرفاً منه في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } [الأحقاف: 20] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { أَضَلَّ أَعْمَالَهُم } أصله من الضلال بمعنى الغيبة، والاضمحلال. لا من الضالة كما زعمه الزمخشري فهو كقوله:
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [الأنعام: 24].
وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن واللغة، في سورة الشعراء في الكلام على قوله:
{ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ } [الشعراء: 20]، وفي آخر الكهف في الكلام على قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الكهف: 104] الآية، وفي غير ذلك من المواضع.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } قد قدمنا إيضاحه في أول سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى
{ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ } [الكهف: 2] الآية، وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [النحل: 97] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّد }.
قال فيه ابن كثير: هو عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان، بعد بعثته صلى الله عليه وسلم اهـ منه.
ويدل لذلك قوله تعالى:
{ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } [هود: 17].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَهُوَ الْحَقُّ } جملة اعتراضية تتضمن شهادة الله بأن هذا القرآن المنزل على هذا النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله، كما قال تعالى:
{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ٱلْحَقُّ } [الأنعام: 66]، قال تعالى: { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } [الحاقة: 50-51] وقال تعالى: { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } [يونس: 108] الآية وقال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ } [النساء: 170] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْبَاطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبَعُواْ ٱلْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ } أي ذلك المذكور من إضلال أعمال الكفار أي إبطالها واضمحلالها، وبقاء ثواب أعمال المؤمنين، وتكفير سيئاتهم وإصلاح حالهم، كله واقع بسبب أن الكفار اتبعوا الباطل، ومن اتبع الباطل فعمله باطل.
والزائل المضمحل تسميه العرب باطلاً وضده الحق.
وبسبب أن الذين آمنوا اتبعوا الحق، ومتبع الحق أعماله حق، فهي ثابتة باقية، لا زائلة مضمحلة.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن اختلاف الأعمال، يستلزم اختلاف الثواب، لا يتوهم استواءهما إلا الكافر الجاهل، الذي يستوجب الإنكار عليه، جاء موضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى:
{ أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [القلم: 35-36]. وقوله تعالى: { أفَنَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ص: 28]. وقوله تعالى: { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الجاثية: 21].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { كَذَلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ }.
قال فيه الزمخشري: فإن قلت: أين ضرب الأمثال؟
قلت: في جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار.
واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين.
أو في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلاً لفوز المؤمنين اهـ. منه.
وأصل ضرب الأمثال يراد منه بيان الشيء بذكر نظيره الذي هو مثل له.