خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
١٣
-الحجرات

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى }.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه خلق الناس من ذكر وأنثى، ولم يبين هنا كيفية خلقه للذكر والأنثى المذكورين ولكنه بين ذلك في مواضع أخر من كتاب الله.
فبين أنه خلق ذلك الذكر الذي هو آدم من تراب، وقد بين الأطوار التي مر بها ذلك التراب، كصيرورته طيناً لازباً وحمأً مسنوناً وصلصالاً كالفخار.
وبين أنه خلق تلك الأنثى التي هي حواء من ذلك الذكر الذي هو آدم فقال في سورة النساء:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [النساء: 1] وقال تعالى في الأعراف { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [الأعراف: 189] وقال تعالى: في الزمر { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [الزمر: 6].
وقد قدمنا أنه خلق نوع الإنسان على أربعة أنواع مختلفة:
الأول منها: خلقه لا من أنثى ولا من ذكر وهو آدم عليه السلام.
والثاني: خلقه من ذكر بدون أنثى وهو حواء.
والثالث: خلقه من أنثى بدون ذكر وهو عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
الرابع: خلقه من ذكر وأنثى وهو سائر الآدميين، وهذا يدل على كمال قدرته جل وعلا.
مسألة
قد دلت هذه الآيات القرآنية المذكورة على أن المرأة الأولى كان وجودها الأول مستنداً إلى وجود الرجل وفرعاً عنه.
وهذا أمر كوني قدري من الله، أنشأ المرأة في إيجادها الأول عليه.
وقد جاء الشرع الكريم المنزل من الله ليعمل به في أرضه بمراعاة هذا الأمر الكوني القدري في حياة المرأة في جميع النواحي.
فجعل الرجل قائماً عليها وجعلها مستندة إليه في جميع شؤونها كما قال تعالى:
{ ٱلرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ } [النساء: 34].
فمحاولة استواء المرأة مع الرجل في جميع نواحي الحياة لا يمكن أن تتحقق لأن الفوارق بين النوعين كوناً وقدراً أولاً، وشرعاً منزلاً ثانياًن تمنع من ذلك منعاً باتاً.
ولقوة الفوارق الكونية والقدرية والشرعية بين الذكر والأنثى، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المتشبه من النوعين بالآخر.
ولا شك أن سبب هذا للعن هو محاولة من أراد التشبه منهم بالآخر، لتحطيم هذه الفوارق التي لا يمكن أن تتحطم.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حيدث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال"
وقد قدمنا هذا الحديث بسنده في سورة بني إسرائيل، وبينا هناك أن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في كتاب الله، فلو كانت الفوارق بين الذكر والأنثى يمكن تحطيمها وإزالتها لم يستوجب من أراد ذلك اللعن من الله ورسوله.
ولأجل تلك الفوارق العظيمة الكونية القدرية بين الذكر والأنثى فرق الله جل وعلا بينهما في الطلاق، فجعله بيد الرجل دون المرأة، وفي الميراث، وفي نسبة الأولاد إليه.
وفي تعدد الزوجات دون الأزواج: صرح بأن شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد في قوله تعالى:
{ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ } [البقرة: 282] الآية، فالله الذي خلقهما لا شك أنه أعلم بحقيقتهما، وقد صرح في كتابه بقيام الرجل مقام امرأتين في الشهادة.
وقد قال تعالى:
{ أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [النجم: 21-22] أي غير عادلة لعدم استواء النصيبين لفضل الذكر على الأنثى.
ولذلك: وقعت امرأة عمران في مشكلة لما وردت مريم، كما قال تعالى عنها:
{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } [آل عمران: 36] الآية.
فامرأة عمران تقول: { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ }، وهي صادقة في ذلك بلا شك.
والكفرة وأتباعهم يقولون: إن الذكر والأنثى سواء.
ولا شك عند كل عاقل في صدق هذه السالبة وكذب هذه الموجبة.
وقد أوضحنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى:
{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9] وجه الحكمة في جعل الطلاق بيد الرجل وتفضيل الذكر على الأنثى في الميراث وتعدد الزوجات، وكون الولد ينسب إلى الرجل، وذكرنا طرفاً من ذلك في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } [البقرة: 228] وبينا أن الفوارق الطبيعية بينهما كون الذكورة شرفاً وكمالاً وقوة طبيعية خلقية، وكون الأنوثة بعكس ذلك.
وبينا أن العقلاء جميعاً مطبقون على الاعتراف بذلك، وأن من أوضح الأدلة التي بينها القرآن على ذلك اتفاق العقلاء على أن الأنثى من حين نشأتها تجلى بأنواع الزينة من حلي وحلل، وذلك لجبر النقص الجبلي الخلقي الذي هو الأنوثة كما قال الشاعر:

وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا

وقد بينا أن الله تعالى أوضح هذا بقوله: { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } [الزخرف: 18]، فأنكر على الكفار أنهم مع ادعاء الولد له تعالى جعلوا له أنقص الولدين وأضعفهما خلقة وجبلة وهو الأنثى.
ولذلك نشأت في الحلية من صغرها، لتغطية النقص الذي هو الأنوثة وجبره بالزينة، فهو في الخصام غير مبين.
لأن الأنثى لضعفها الخلقي الطبيعي لا تقدر أن تبين في الخصام إبانة الفحول الذكور، إذا اهتضمت وظلمت لضعفها الطبيعي.
وإنكار الله تعالى على الكفار أنهم مع ادعائهم له الولد جعلوا له أنقص الولدين وأضعفهما كثير في القرآن كقوله تعالى:
{ أَصْطَفَى ٱلْبَنَاتِ عَلَىٰ ٱلْبَنِينَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [الصافات: 153-154] وقوله: { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } [الإسراء: 40] وقوله تعالى: { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } [الزمر: 4] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما الذكر فإنه لا ينشأ في الحلية، لأن كمال ذكورته وشرفها وقوتها الطبيعية التي لا يحتاج معه إلى التزين بالحلية التي تحتاج إليه الأنثى، لكماله بذكورته ونقصها بأنوثتها.
ومما لا نزاع فيه بين العقلاء أن الذكر والأنثى إذا تعاشرا المعاشرة البشرية الطبيعية التي لا بقاء للبشر دونها، فإن المرأة تتأثر بذلك تأثراً طبعياً كونياً قدرياً مانعاً لها من مزاولة الأعمال كالحمل والنفاس وما ينشأ عن ذلك من الضعف والمرض والألم.
بخلاف الرجل فإنه لا يتأثر بشيء من ذلك، ومع هذه الفوارق لا يتجرأ على القول بمساواتهما في جميع الميادين إلا مكابر في المحسوس، فلا يدعو إلى المساواة بينهما إلا من أعمى الله بصيرته.
وقد قدمنا في الموضعين اللذين أشرنا لهما من هذا الكتاب المبارك ما يكفي المنصف، فأغنى عن إعادته هنا.
قوله تعالى: { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ }
لما كان قوله تعالى: { إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى } يدل على استواء الناس في الأصل، لأن أباهم واحد وأمهم واحدة وكان في ذلك أكبر زاجر عن التفاخر بالأنساب وتطاول بعض الناس على بعض، بين تعالى أنه جعلهم شعوباً وقبائل لأجل أن يتعارفوا أي يعرف بعضهم بعضاً، ويتميز بعضهم عن بعض لا لأجل أن يفتخر بعضهم على بعض ويتطاول عليه.
وذلك يدل على أن كون بعضهم أفضل من بعض وأكرم منه إنما يكون بسبب آخر غير الأنساب.
وقد بين الله ذلك هنا بقوله: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُم } فاتضح من هذا أن الفضل والكرم إنما هو بتقوى الله لا بغيره من الانتساب إلى القبائل، ولقد صدق من قال:

فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب

وقد ذكروا أن سلمان رضي الله عنه كان يقول:

أبي الإسلام لا أب ليس سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم

وهذه الآيات القرآنية، تدل على أن دين الإسلام سماوي صحيح، لا نظر فيه إلى الألوان ولا إلى العناصر، ولا إلى الجهات، وإنما المعتبر فيه تقوى الله جل وعلا وطاعته، فأكرم الناس وأفضلهم أتقاهم لله، ولا كرم ولا فضل لغير المتقي، ولو كان رفيع النسب.
والشعوب جمع شعب، وهو الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة.
فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ والفخذ يجمع الفصائل.
خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة:
وسميت الشعوب، لأن القبائل تتشعب منها. اهـ.
ولم يذكر من هذه الست في القرآن إلا ثلاث الشعوب، والقبائل كما في هذه الآية، والفصيلة في المعارج في قوله:
{ وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ } [المعارج: 13] وقد قدمنا ما دلت عليه هذه الآيات موضحاً في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9].
واعلم أن العرب قد تطلق بعض هذه الست على بعض كإطلاق البطن على القبيلة في قول الشاعر:

وإن كلابا هذه عشر أبطن وأنت بريء من قبائلها العشر

كما قدمناه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: { ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } [البقرة: 228].