خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٢٤
-يونس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه - { إِنَّمَا مَثَلُ... } المثًل بمعنى المِثْل، والمِثْل: النظير والشبيه، ثم اطلق على القول السائر بالمعروف لمماثلة مضربه - وهو الذى يضرب فيه - لمورده الذى ورد فيه أولا، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة، وعلى هذا المعنى يحمل المثل فى هذه الآية وأشباهها.
والأمثال إنما تضرب لتوضيح المعنى الخفى، وتقريب الشىء المعقول من الشىء المحسوس، وعرض الأمر الغائب فى صورة المشاهد، فيكون المعنى الذى ضرب له المثل أوقع فى القلوب، وأثبت فى النفوس.
والمعنى: إنما صفة الحياة الدنيا وحالها فى سرعة زوالها، وانصرام نعيمها بعد إقباله. كحال ماء { أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ } أى: فكثر بسببه نبات الأرض حتى التف وتشابك بعضه ببعض لازدهاره وتجاوزه ونمائه.
وشبه - سبحانه - الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض، لأن ماء السماء وهو المطر لا تأثير لكسب العبد فيه بزيادة أو نقص - بخلاف ماء الأرض - فكان تشبيه الحياة به أنسب.
وقوله: { مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ } معناه: وهذا النبات الذى نما وازدهر بسبب نزول المطر من السماء، بعضه مما يأكله الناس كالبقول والفواكه. وبعضه مما تأكله الأنعام كالحشائش والأعشاب المختلفة.
وجملة { مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ } حال من النبات.
وقوله: { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَت.. } تصوير بديع لما صارت عليه الأرض بعد نزول الماء عليها، وبعد أن أنبتت من كل زوج بهيج.
ولفظ { حتى } غاية لمحذوف: أى نزل المطر من السماء فاهتزت الأرض وربت وأنبتت النبات الذى ما زال ينمو ويزدهر حتى أخذت الأرض زخرفها.
والزخرف: الذهب وكمال حسن الشىء. ومن القول أحسنه، ومن الأرض ألوان نباتها.
أى: حتى إذا استوفت الأرض حسنها وبهاءها وجمالها، وازينت بمختلف أنواع النباتات ذات المناظر البديعة، والألوان المتعددة.
قال صاحب الكشاف: "وهو كلام فصيح. جعلت الأرض آخذة زخرفها وزينتها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها، وتزينت بغيرها من ألوان الزينة، أصل ازينت تزينت".
وقوله: { وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ } أى: وظن أهل تلك الأرض الزاخرة بالنباتات النافعة. أنهم قادرون على قطف ثمارها، ومتمكنون من التمتع بخيراتها، ومن الانتفاع بغلاتها.
وقوله: { أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً.. } تصوير معجز لما أصاب زرعها من هلاك بعد نضرته واستوائه و { أو } للتنويع أى: تارة يأتى ليلا وتارة يأتى نهارا.
والجملة الكريمة جواب إذا فى قوله { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا.. }.
أى: بعد أن بلغت الأرض الذروة فى الجمال وفى تعلق الآمال بمنافع زروعها، أتاها قضاؤنا النافذ، وأمرنا المقدر لإِهلاكها بالليل وأصحابها نائمون، أو بالنهار وهم لاهون، فجعلناها بما عليها كالأرض المحصودة، التي استؤصل زرعها.
وقوله: { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ } تأكيد لهلاكها واستئصال ما عليها من نبات بصورة سريعة حاسمة.
أى: جعلناها كالأرض المحصودة التى قطع زرعها، حتى لكأنها لم يكن بها منذ وقت قريب: الزرع النضير، والنبات البهيج، الباسق، والطلع النضيد.
قال القرطبى قوله: "{ كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ } أى: لم تكن عامرة. من غنى بالمكان إذا أقام فيه وعمره، والمغانى فى اللغة: المنازل التى يعمرها الناس".
وقال ابن كثير: قوله: { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ } أى كأنها ما كانت حينا قبل ذلك، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن، ولهذا جاء فى الحديث الشريف:
"يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس فى النار غمسة فيقال له: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا. ويؤتى بأشد الناس عذابا فى الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط فيقول لا" .
والمراد بالأمس هنا: الوقت الماضى القريب: لا خصوص اليوم الذى قبل يومك.
وقوله: { كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } تذييل قصد به الحض على التفكير والاعتبار.
أى: كهذا المثل فى وضوحه وبيانه لحال الحياة الدنيا، وقصر مدة التمتع بها نفصل الآيات ونضرب الأمثال الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا لقوم يحسنون التفكير والتدبر فى ملكوت السماوات والأرض.
قال الجمل ما ملخصه: "وهذه الآية مثل ضربه الله - تعالى - للمتشبث فى الدنيا الراغب فى زهرتها وحسنها.. ووجه التمثيل أن غاية هذه الدنيا التى ينتفع بها المرء، كناية عن هذا النبات الذى لما عظم الرجاء فى الانتفاع به، وقع اليأس منه، ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذتها".
وبعد أن بين - سبحانه - حال الحياة الدنيا، وقصر مدة التمتع بها، أتبع ذلك بدعوة الناس جميعا إلى العمل الصالح الذى يوصلهم إلى الجنة فقال - تعالى -:
{ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ... }