خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ ٱلْمُجْرِمُونَ
٥٠
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
٥١
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
٥٢
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ
٥٣
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي ٱلأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٥٤
-يونس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله "أرأيتم" بمعنى أخبرونى. وكلمة أرأيت تستعمل فى القرآن للتنبيه والحث على الرؤية والتأمل، فهو استفهام للتنبيه مؤداه: أرأيت كذا أو عرفته؟ إن لم تكن أبصرته أو عرفته فانظره وتأمله وأخبرنى عنه.
ولما كانت الرؤية للشىء سببا لمعرفته وللإِخبار عنه، أطلق السبب وأريد المسبب فهو مجاز مرسل علاقته السببية والمسببية.
وقوله: بياتا أى: ليلا، ومنه البيت لأنه يبات فيه. يقال: بات يبيت بيتا وبياتا.
والمعنى: أخبرونى أيها الجاهلون الحمقى: أى دافع جعلكم تستعجلون نزول العذاب؟ إن وقوع العذاب سواء أكان بالليل أم بالنهار لا يمكن دفعه، ولا يمكن أن يتعجله عاقل، لأنه - كما يقول صاحب الكشاف - : كل مكروه، مر المذاق، موجب للنفار منه، فكيف ساغ لكم أن تستعجلوا نزول شىء فيه هلاككم ومضرتكم؟!!
وقال - سبحانه - { بياتا } ولم يقل ليلا، للإِشعار بمجئ العذاب فى وقت غفلتهم ونومهم بحيث لا يشعرون به، فهم قد يقضون جانبا من الليل فى اللهو واللعب، ثم ينامون فيأتيهم العذاب فى هذا الوقت الذى هجعوا فيه.
فالآية الكريمة توبيخ لهم على استعجالهم وقوع شىء من شأن العقلاء أنهم يرجون عدم وقوعه.
ولذا قال القرطبى: "قوله: { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ ٱلْمُجْرِمُونَ } استفهام معناه التهويل والتعظيم. أى: ما أعظم ما يستعجلون به. كما يقال لمن يطلب أمرا تستوخم عاقبته: ماذا تجنى على نفسك".
وجواب الشرط لقوله: { إِنْ أَتَاكُمْ... } محذوف والتقدير: إن أتاكم عذابه فى أحد هذين الوقتين أفزعكم وأهلككم فلماذا تستعجلون وقوع شىء هذه نتائجه؟
وقد ذكر صاحب الكشاف وجها آخر بعد أن ذكر هذا الوجه فقال: فإن قلت: فهلا قيل ماذا يستعجلون منه؟ قلت: أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإِجرام، لأن من شأن المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعا من مجيئه وإن أبطأ - فضلا عن أن يستعجله - ويجوز أن يكون { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ ٱلْمُجْرِمُونَ } جوابا للشرط كقولك إن أتيتك ماذا تطعمنى.
وقوله - سبحانه - { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ... } زيادة فى تجهيلهم وتأنيبهم والهمزة داخلة على محذوف، و { ثم } حرف عطف يدل على الترتيب والتراخى وجىء به هنا للدلالة على زيادة الاستبعاد.
والمعنى: إنكم أيها الجاهلون لستم بصادقين فيما تطلبون، لأنكم قبل وقوع العذاب تتعجلون وقوعه، فإذا ما وقع وشاهدتم أهواله. وذقتم مرارته.. آمنتم بأنه حق، وتحول استهزاؤكم به إلى تصديق وإذعان وتحسر.
وقوله: { الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } قصد به زيادة إيلامهم وحسرتهم ولفظ { الآنَ } ظرف زمان يدل على الحال الحاضرة، وهو فى محل نصب على أنه ظرف لفعل مقدر.
أى: قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب: الآن آمنتم بأنه حق؟ مع أنكم قبل ذلك كنتم به تستهزئون، وتقولون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأتباعه:
{ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ألا فلتعلموا: أن إيمانكم فى هذا الوقت غير مقبول، لأنه جاء فى غير أوانه، وصدق الله إذ يقول: { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْكَافِرُونَ } وقوله: { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } تأكيد لتوبيخهم وتأنيبهم بعد أن نزل بهم العذاب، وهو معطوف على لفظ "قيل" المقدر قبل لفظ { الآن }.
أى: قيل لهم: الآن آمنتم بأن العذاب حقيقة بعد أن كنتم به تستعجلون؟ ثم قيل لهؤلاء الظالمين الذين أصروا على الكفر واقتراف المنكرات: ذوقوا عذاب الخلد أى العذاب الباقى الدائم، إذ الخلد والخلود مصدر خلد الشىء إذا بقى على حالة واحدة لا يتغير.
والاستفهام فى قوله: { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } للنفى والإِنكار. أى لا تجزون إلا بالجزاء المناسب لما كنتم تكسبونه فى الدنيا من كفر بالحق، وإيذاء للدعاة إليه، وتكذيب بوحى الله - تعالى -.
ثم قال - سبحانه - { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ } النبأ: كما يقول الراغب. خبر ذو فائدة عظيمة، يحصل به علم أو غلبة ظن.
والاستنباء: طلب الأخبار الهامة.
أى: إن هؤلاء الضالين يطلبون منك - أيها الرسول الكريم - على سبيل التهكم والاستهزاء، أن تخبرهم عن هذا العذاب الذى توعدتهم به، أهو واقع بهم على سبيل الحقيقة، أم هو غير واقع ولكنك تحدثهم عنه على سبيل الإِرهاب والتهديد؟
وقوله: { قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } إرشاد من الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى الجواب الذى يرد به عليهم.
ولفظ { أي } بكسر الهمزة وسكون الياء - حرف جواب وتصديق بمعنى نعم، إلا أنه لا يستعمل إلا مع القسم.
أى: قل لهم يا محمد: نعم وحق ربى إن العذاب الذى أخبرتكم به لا محيص لكم عنه وما أنتم بمعجزى الله - تعالى - إذا أراد أن ينزله بكم فى أى وقت يريده، بل أنتم فى قبضته وتحت سلطانه وملكه، فاتقوا الله، بأن تخلصوا به العبادة، وتتبعوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءكم به من عنده - سبحانه -.
وقد أكد سبحانه - الجواب عليهم بأتم وجوه التأكيد، لأنهم كانوا قوما ينكرون أشد الإِنكار أن يكون هناك عذاب وحساب وبعث وجنة ونار.
قال ابن كثير: "وهذه الآية ليس لها نظير فى القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله - تعالى - رسوله فيهما أن يقسم به على من أنكر المعاد، أما الآية الأولى فهى قوله - تعالى -:
{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ.. } وأما الآية الثانية فهى قوله - تعالى -: { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ.. } وجملة { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } إما معطوفة على جواب القسم، أو مستأنفة سبقت لبيان عجزهم عن الخلاص، وتأكيد وقوع العذاب عليهم.
ثم بين - سبحانه - أنهم لن يستطيعوا افتداء أنفسهم من العذاب عند وقوعه فقال - تعالى -: { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي ٱلأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ }.
أى: ولو أن لكل نفس تلبست بالظلم بسبب شركها وفسوقها، جميع ما فى الأرض من مال ومتاع، وأمكنها أن تقدمه كفداء لها من العذاب يوم القيامة، لقدمته سريعا دون أن تبقى منه شيئا حتى تفتدى ذاتها من العذاب المهين.
ومفعول { افتدت } محذوف. أى لافتدت نفسها به.
ولو هنا امتناعية، أى: امتنع افتداء كل نفس ظالمة، لامتناع ملكها لما تفدى به ذاتها وهو جميع ما فى الأرض من أموال، ولامتناع قبول ذلك منها فيما لو ملكته على سبيل الفرض.
وقوله { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } بيان لما انتابهم من حسرات عند مشاهدتهم لأهوال العذاب المعد لهم.
و { أَسَرُّواْ } من الإِسرار بمعنى الإِخفاء والكتمان. يقال: أسر فلان الحديث. أى: خفض صوته به، ويقابله الإِعلان والجهر، ومنه قوله - تعالى -
{ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } والندامة والندم: ما يجده الإِنسان فى نفسه من آلام وحسرات على أقوال أو أفعال سيئة، فات أوان تداركها.
أى: وأخفى هؤلاء الظالمون الندامة حين رأوا بأبصارهم مقدمات العذاب، وحين أيقنوا أنهم لا نجاة لهم منه، ولا مصرف لهم عنه.
قال صاحب الكشاف: "قوله - سبحانه - { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه، ولم يخطر ببالهم، وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه، ما سلبهم قواهم، وبهرهم، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا ولا ما يفعله الجازع، سوى إسرار الندم والحسرة فى القلوب، كما ترى المقدم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخبط ويغلب، حتى لا ينبس بكلمة ويبقى جامدا مبهوتا.
وقيل: أسر رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم، حياء منهم وخوفا من توبيخهم..
وقيل أسروا الندامة: أظهروها من قولهم أسر الشىء إذا أظهره وليس هناك تجلد".
وقوله: { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بيان لعدالة الله فى أحكامه بين عباده.
أى: وقضى الله - تعالى - بين هؤلاء الضالمين وبين غيرهم بالعدل دون أن يظلم أحدا.
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على كمال قدرته، وسعة رحمته،، وعلى أنه وحده الذى يملك التحليل والتحريم، ويعلم السر وأخفى فقال - تعالى - :
{ أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ... }