خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَىٰ وَهَـٰرُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ بِآيَـٰتِنَا فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
٧٥
فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ
٧٦
قَالَ مُوسَىٰ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَـٰذَا وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ
٧٧
قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ
٧٨
-يونس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه - { ثُمَّ بَعَثْنَا.. } معطوف على ما قبله وهو قوله: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ...) من باب عطف القصة على القصة، وهو من قبيل عطف الخاص على العام، لما فى هذا الخاص من عبر وعظات.
والمعنى: ثم بعثنا من بعد هؤلاء الرسل الكرام الذين جاءوا لأقوامهم بالأدلة والبينات. { مُّوسَىٰ وَهَارُونَ } عليهما السلام.. { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ } الذى قال لقومه "أنا ربكم الأعلى" وإلى { ملئه } أى: خاصته وأشراف مملكته وأركان دولته، ولذلك اقتصر عليهم، لأن غيرهم كالتابع لهم.
{ بِآيَاتِنَا } أى: بعثناهما إليهم مؤيدين بآياتنا، الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا وعلى صدقهما فيما يبلغانه عنا من هدايات وتوجيهات.
ويرى كثير من المفسرين أن المراد بقوله { بِآيَاتِنَا } الآيات التسع التى جاء ذكرها فى قوله تعالى فى سورة الإِسراء
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ... } قال الجمل: "وتقدم فى الأعراف منها ثمانية، ثنتان فى قوله - تعالى - { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } وقوله: { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } وواحدة فى قوله - تعالى -: { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } وخمسة فى قوله - تعالى -: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ... } . والتاسعة فى هذه السورة - سورة يونس - فى قوله - تعالى -: { رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ } ثم بين - سبحانه - موقف فرعون وملئه من دعوة موسى لهم فقال: { فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ }.
والاستكبار: ادعاء الكبر من غير استحقاق، والفاء فصيحة، والتقدير: ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى وهارون إلى فرعون وملئه، فأتياهم ليبلغاهم دعوة الله، ويأمراهم بإخلاص العبادة له، فاستكبروا عن طاعتهما، وأعجبوا بأنفسهم، وكانوا قوما شأنهم وديدنهم الإِجرام، وهو ارتكاب ما عظم من الذنوب، وقبح من الأفعال.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة: "فاستكبروا عن قبولها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها".
ثم بين - سبحانه - ما تفوهوا به من أباطيل عندما جاءهم موسى بدعوته فقال: { فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ }.
أى: فلما وصل إليهم الحق الذى جاءهم به موسى - عليه السلام - من عندنا لا من غيرنا { قالوا } على سبيل العناد والحقد والغرور { إِنَّ هَـٰذَا } الذى جئت به يا موسى { لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } أى: لسحر واضح ظاهر لا يحتاج إلى تأمل أو تفكير.
والتعبير بقوله { جَآءَهُمُ } يفيد أن الحق قد وصل إليهم بدون تعب منهم، فكان من الواجب عليهم - لو كانوا يعقلون - أن يتقبلوه بسرور واقتناع.
وفى قوله { مِنْ عِندِنَا } تصوير لشناعة الجريمة التى ارتكبوها فى جانب الحق، الذى جاءهم من عند الله - تعالى - لا من عند غيره.
والمراد بالحق هنا: الآيات والمعجزات التي جاءهم بها موسى - عليه السلام - لتكون دليلا على صدقه فيما يبلغه عن ربه.
وقولهم - كما حكى القرآن عنهم - { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } بالقسم المؤكد: يدل على تبجحهم الذميم، وكذبهم الأثيم، حيث وصفوا الحق الذى لا باطل معه بأنه سحر واضح، وهكذا عندما تقسو القلوب وتفسق النفوس، تتحول الحقائق فى زعمها إلى أكاذيب وأباطيل.
ثم حكى القرآن الكريم رد موسى - عليه السلام - على مفترياتهم فقال: { قَالَ مُوسَىٰ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَـٰذَا وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ }.
وفى الآية الكريمة كلام محذوف دل عليه المقام، والتقدير:
قال موسى لفرعون وملئه منكرا عليهم غرورهم وكذبهم، { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ } الذى هو أبعد ما يكون عن السحر، حين مشاهدتكم له.
أتقولون عنه { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ }.
يا سبحان الله!! أفلا عقل لكم يحجزكم عن هذا القول الذى يدل على الجهالة والغباء، انظروا وتأملوا { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } الذى ترون حقيقته بأعينكم، وترتجف من عظمته قلوبكم، والحال أنه { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ } فى أى عمل من شأنه أن يهدى إلى الخير والحق.
فقد حذفت جملة { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } لدلالة قوله { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } عليه.
قال صاحب الكشاف: "فإن قلت: هم قطعوا بقولهم: إن هذا لسحر مبين، على أنه سحر فكيف قيل لهم أتقولون: أسحر هذا؟
قلت: فيه أوجه: أن يكون معنى قوله { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ }: أتعيبونه وتطعنون فيه، وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم: فلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول، إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه.
وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم: { إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } كأنه قيل: أتقولون ما تقولون: يعنى قولهم: إن هذا لسحر مبين، ثم قيل: أسحر هذا؟
وأن يكون جملة قوله "أسحر هذا ولا يفلح الساحرون" حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا أجئتما إلينا بالسحر تطلبان به الفلاح { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ.. }.
وقال الجمل: "قوله - تعالى - { قَالَ مُوسَىٰ أَتقُولُونَ.. } أى: قال جملا ثلاثة: الأولى: { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ } والثانية { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } والثالثة { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ }.
وقوله { الحق } أى فى شأنه ولأجله، وقوله { لَمَّا جَآءَكُمْ } أى: حين مجيئه إياكم من أول الأمر من غير تأمل وتدبر، وهذا مما ينافى القول المذكور.
وقوله: { قَالَ مُوسَىٰ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ } هنا مقول القول محذوف لدلالة ما قبله عليه، وإِشارة إلى أنه لا ينبغى أن يتفوه به.
وقوله - سبحانه - حكاية عن موسى { أَسِحْرٌ هَـٰذَا } مبتدأ وخبر، وهو استفهام إنكار مستأنف من جهته - عليه السلام - تكذيبا لقولهم، وتوبيخا إثر توبيخ، وتجهيلا بعد تجهيل".
وقوله: { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ } جملة حالية من ضمير المخاطبين، وقد جئ بها تأكيدا للإِنكار السابق، وما فيه من معنى التوبيخ والتجهيل.
أى: أتقولون للحق إنه سحر، والحال أنه لا يفلح فاعله، أى: لا يظفر بمطلوب، ولا ينجو من مكروه، وأنا قد أفلحت، وفزت بالحجة، ونجوت من الهلكة.
ثم كشف القرآن الكريم عن حقيقة الدوافع التي جعلتهم يصفون الحق بأنه سحر مبين فقال - تعالى - : { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ }.
واللفت: الصرف واللى يقال: لفته يلفته لفتا، أى: صرفه عن وجهته إلى ذات اليمين أو الشمال.
أى: قال فرعون وملؤه لموسى - عليه السلام - بعد أن جاءهم بالحق المبين: أجئتنا يا موسى بما جئتنا به { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أى: لتصرفنا عن الدين الذى وجدنا عليه آباءنا، وتكون لك ولأخيك هارون { ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ } أى السيادة والرياسة والزعامة الدينية والدنيوية فى الأرض بصفة عامة، وفى أرض مصر بصفة خاصة.
ثم أكدوا إنكارهم لما جاءهم به موسى - عليه السلام - من الدين الحق فقالوا - كما حكى القرآن عنهم - { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } أى وما نحن لكما بمصدقين فيما جئتما به، لأن تصديقنا لكما يخرجنا عن الدين الذى وجدنا عليه آباءنا، وينزع منا ملكنا الذى تتمتع بكبريائه خاصتنا، وتعيش تحت سلطانه وقهره عامتنا.
وأفردوا موسى - عليه السلام - بالخطاب فى قولهم { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا.. } لأنه هو الذى كان يجابههم بالحجج التى تقطع دابر باطلهم، ويرد على أكاذيبهم بما يفضحهم ويكشف عن غرورهم وغبائهم.
وجمعوا بين موسى وهارون - عليهما السلام - فى قولهم { وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } باعتبار شمول الكبرياء والرياسة والملك لهما، وباعتبار أن الإِيمان بأحدهما يستلزم الإِيمان بالآخر.
هذا، والذى يتدبر هذه الآية الكريمة، يرى أن التهمة التى وجهها فرعون وملؤه إلى موسى وهارون - عليهما السلام - هى تهمة قديمة جديدة فقوم نوح - مثلا - يمتنعون عن قبول دعوته، لأنه فى نظرهم جاء بما جاء به بقصد التفضل عليهم، وفى هذا يقول القرآن الكريم:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ. فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أى: يريد أن تكون له السيادة والفضل عليكم، فيكون زعيما وأنتم له تابعون.
ولقد أفاض فى شرح هذا المعنى صاحب الظلال -رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية الكريمة فقال ما ملخصه:
وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة، التى يقوم عليها نظامهم السياسى والاقتصادى، وهو الخوف على السلطان فى الأرض، هذا السلطان الذى يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة.
إنها العلة القديمة الجديدة التى تدفع بالطغاة إلى مقاومة دعوات الإِصلاح ورمى الدعاة بأشنع التهم؛ والفجور فى مقاومة الدعوات والدعاة.. إنها هى "الكبرياء فى الأرض" وما تقوم عليه من معتقدات باطلة، يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة فى قلوب الجماهير، بكل ما فيها من زيف وفساد، وأوهام وخرافات، لأن تفتح القلوب على العقيدة الصحيحة، خطر على القيم الجاهلية الموروثة.
وما كان رجال من أذكياء قريش - مثلا - ليخطئوا إدراك ما فى رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من صدق وسمو، وما فى عقيدة الشرك من تهافت وفساد، ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة، القائمة على ما فى تلك العقيدة من خرافات وتقاليد، كما خشى الملأ من قوم فرعون على سلطانهم فى الأرض، فقالوا متبجحين { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ }.
ثم حكت الآيات الكريمة بعد ذلك ما طلبه فرعون من ملئه، وما دار بين موسى - عليه السلام - وبين السحرة من محاورات فقال - تعالى -:
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ٱئْتُونِي... }.