خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ
٨٣
وَقَالَ مُوسَىٰ يٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ
٨٤
فَقَالُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٨٥
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٨٦
وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨٧
-يونس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الجمل: "قوله - سبحانه - { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ... }. لما ذكر الله - تعالى - ما أتى به موسى - عليه السلام - من المعجزات العظيمة الباهرة، أخبر - سبحانه - أنه مع مشاهدة هذه المعجزات، ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه. وإنما ذكر الله هذا تسلية لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان كثير الاهتمام بإيمان قومه، وكان يغتم بسبب إعراضهم عن الإِيمان به، واستمرارهم على الكفر والتكذيب، فبين الله له أن له أسوة بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. لأن ما جاء به موسى من المعجزات، كان أمرا عظيما. ومع ذلك فما آمن له إلا ذرية من قومه".
والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يدل عليه السياق، والتقدير: لقد أتى موسى - عليه السلام - بالمعجزات التى تشهد بصدقه، والتى على رأسها، أن ألقى عصاه فإذا هى تبتلع ما فعله السحرة، ومع كل تلك البراهين الدالة على صدقه، فما آمن به إلا ذرية من قومه.
والمراد بالذرية هنا: العدد القليل من الشباب، الذين آمنوا بموسى، بعد أن تخلف عن الإِيمان آباؤهم وأغنياؤهم.
قال الآلوسى: قوله { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } أى: إلا أولاد بعض بنى إسرائيل حيث دعا - عليه السلام - الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من شبابهم فالمراد من الذرية: الشبيان لا الأطفال.
والضمير فى قوله { مِّن قَوْمِهِ } يعود لموسى - عليه السلام - وعليه يكون المعنى:
فما آمن لموسى - عليه السلام - فى دعوته إلى وحدانية الله، إلا عدد قليل من شباب قومه بنى إسرائيل، الذين كانوا يعيشون فى مصر، والذين كان فرعون يسومهم سوء العذاب، أما آباؤهم وأصحاب الجاه فيهم، فقد انحازوا إلى فرعون طمعا فى عطائه، وخوفا من بطشه بهم.
ويرى بعض المفسرين أن الضمير فى قوله { مِّن قَوْمِهِ } يعود إلى فرعون لا إلى موسى.
فيكون المعنى: فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قوم فرعون.
قال ابن كثير ما ملخصه مرجحا هذا الرأى: "يخبر الله - تعالى - أنه لم يؤمن بموسى - عليه السلام - مع ما جاء به الآيات والحجج، إلا قليل من قوم فرعون، من الذرية - وهم الشباب -، على وجل وخوف منه ومن ملئه.
قال العوفى عن ابن عباس: "إن الذرية التى آمنت لموسى من قوم فرعون منهم: امرأته، ومؤمن آل فرعون، وخازنه، وامرأة خازنه".
ثم قال: "واختار ابن جرير قول مجاهد فى الذرية، أنها من بنى إسرائيل، لا من قوم فرعون. لعود الضمير على أقرب مذكور.
وفى هذا نظر، لأن من المعروف أن بنى إسرائيل كلهم آمنوا بموسى. واستبشروا به، فقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به.
وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى وهم بنو إسرائيل؟".
والذى نراه أن ما اختاره ابن جرير من عودة الضمير إلى موسى - عليه السلام - أرجح، لأن هناك نوع خفاء فى إطلاق كلمة الذرية على من آمن من قوم فرعون، ومنهم زوجته، وامرأة خازنه.
ولأنه لا دليل على أن بنى إسرائيل كلهم قد آمنوا بموسى، بل الحق أن منهم من آمن به ومنهم من كفر به، كقارون والسامرى وغيرهما.
ولأن رجوع الضمير إلى موسى - هو الظاهر المتبادر من الآية، لأنه أقرب مذكور، وليس هناك ما يدعو إلى صرف الآية الكريمة عن هذا الظاهر.
ورحم الله ابن جرير فقد قال فى ترجيحه لما ذهب إليه من عودة الضمير إلى موسى - عليه السلام - ما ملخصه:
وأولى هذه الأقوال عندى بتأويل الآية، القول الذى ذكرته عن مجاهد وهو أن الذرية فى هذا الموضع، أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بنى إسرائيل، وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب، لأنه لم يجر فى هذه الآية ذكر لغير موسى، فلأن تكون الهاء فى قوله { مِّن قَوْمِهِ } من ذكر موسى لقربها من ذكره أولى من أن تكون من ذكر فرعون، لبعد ذكره منها.
ولأن فى قوله { عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } الدليل الواضح على أن الهاء فى قوله { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } من ذكر موسى لا من ذكر فرعون، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام على خوف منه، ولم يكن على خوف من فرعون...".
وقوله: { عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ.. } حال من كلمة { ذرية } و { على } هنا بمعنى مع. والضمير فى قوله { وَمَلَئِهِمْ } يعود إلى ملأ الذرية، وهم كبار بنى إسرائيل الذين لاذوا بفرعون طمعا فى عطائه أو خوفا من عقابه ولم يتبعوا موسى - عليه السلام -.
والمعنى: فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قومه، والحال أن إيمانهم كان مع خوف من فرعون ومن أشراف قومهم أن يفتنوهم عن دينهم، أى: يعذبوهم ليحملوهم على ترك اتباع موسى - عليه السلام.
والضمير فى { يفتنهم } يعود إلى فرعون خاصة، لأنه هو الآمر بالتعذيب ولأن الملأ إنما كانوا يأتمرون بأمره، وينتهون عن نهيه، فهم كالآلة فى يده يصرفها كيف يشاء.
وجملة { أَن يَفْتِنَهُمْ } فى تأويل مصدر، بدل اشتمال من فرعون، أى: على خوف من فرعون فتنته.
وقوله: { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ } اعتراض تذييلى مؤكد لمضمون ما قبله، ومقرر لطغيان فرعون وعتوه.
أى: وإن فرعون المتكبر متجبر فى أرض مصر كلها، وإنه لمن المسرفين المتجاوزين لكل حد فى الظلم والبغى وادعاء ما ليس له.
والمتجبرون والمسرفون يحتاجون فى مقاومتهم إلى إيمان عميق، واعتماد على الله وثيق، وثبات يزيل المخاوف ويطمئن القلوب إلى حسن العاقبة، ولذا قال موسى لأتباعه المؤمنين: { يٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ }.
أى: قال موسى لقومه تطمينا لقلوبهم، وقد رأى الخوف من فرعون يعلو وجوه بعضهم: يا قوم { إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ } حق الإِيمان، وأسلمتم وجوهكم له حق الإِسلام فعليه وحده اعتمدوا، وبجنابه وحده تمسكوا، فإن من توكل على الله واتجه إليه، كان الله معه بنصره وتأييده.
ثم حكى القرآن الكريم جوابهم الذى يدل على صدق يقينهم فقال: { فَقَالُواْ } أى مجيبين لنصيحة نبيهم { عَلَىٰ ٱللَّهِ } وحده لا على غيره { تَوَكَّلْنَا } واعتمدنا وفوضنا أمورنا إليه.
{ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أى يا ربنا لا تجعلنا موضوع فتنة وعذاب للقوم الظالمين. بأن تمكنهم منا فيسوموننا سوء العذاب، وعندئذ يعتقدون أنهم على الحق ونحن على الباطل، لأننا لو كنا على الحق - فى زعمهم - لما تمكنوا منا، ولما انتصروا علينا.
ثم أضافوا إلى هذا دعاء آخر، أكثر صراحة من سابقه فى المباعدة بينهم وبين الظالمين فقالوا { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ }.
أى: نحن لا نلتمس منك يا مولانا ألا تجعلنا فتنة لهم فقط، بل نلتمس منك - أيضا - أن تنجينا من شرور القوم الكافرين، وأن تخلصنا من سوء جوارهم، وأن تفرق بيننا وبينهم كما فرقت بين أهل المشرق وأهل المغرب.
قال الإِمام الشوكانى: "وفى هذا الدعاء الذى تضرعوا به إلى الله - دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم".
وبعد هذا الدعاء المخلص، وجه الله - تعالى - نبيه موسى وأخاه هارون - عليهما السلام - إلى ما يوصل إلى نصرهما ونصر أتباعهما فقال - تعالى - { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً.. }
وقوله { تبوءا } من التبؤ وهو اتخاذ المباءة أى المنزل، كالتوطن بمعنى اتخاذ الوطن.
يقال بوأته وبوأت له منزلا إذا أنزلته فيه، وهيأته له.
والمعنى: وأوحينا إلى موسى وأخيه هارون بعد أن لج فرعون فى طغيانه وفى إنزال العذاب بالمؤمنين - أن اتخذا لقومكما المؤمنين بيوتا خاصة بهم فى مصر، ينزلون بها، ويستقرون فيها، ويعتزلون فرعون وجنده، إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا.
وقوله { وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أى: واجعلوا هذه البيوت التى حللتم بها مكانا لصلاتكم وعبادتكم، بعد أن حال فرعون وجنده بينكم وبين أداء عباداتكم فى الأماكن المخصصة لذلك.
قال القرطبى: "المراد صلوا فى بيوتكم سرا لتأمنوا، وذلك حين أخافهم فرعون، فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد فى البيوت، والإِقدام على الصلاة، والدعاء، إلى أن ينجز الله وعده، وهو المراد بقوله
{ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُوا بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوۤاْ } وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا فى البيع والكنائس ما داموا على أمن، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا فى بيوتهم...".
وقوله: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } أى: داوموا عليها، وأدوها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص، فإن فى أدائها بهذه الصورة. وسيلة إلى تفريج الكروب، وفى الحديث الشريف:
"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حز به أمر صلى" .
وقوله { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } تذييل قصد به بعث الأمل فى نفوسهم متى أدوا ما كلفوا به.
أى: وبشر المؤمنين بالنصر والفلاح فى الدنيا، وبالثواب الجزيل فى الآخرة.
قال صاحب الكشاف: "فإن قلت: كيف نوع الخطاب فثنى أولا، ثم جمع، ثم وحد آخرا؟
قلت: "خوطب موسى وهارون - عليهما السلام - أن يتبوآ لقومهما بيوتا ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء. ثم سيق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الجمهور. ثم خص موسى - عليه السلام - بالبشارة التى هى الغرض تعظيما لها، وللمبشر بها".
ولأن بشارة الأمة - كما يقول الآلوسى - وظيفة صاحب الشريعة، وهى من الأعظم أَسَرُّ وأوقع فى النفس.
هذا، ومن التوجيهات الحكيمة التى نأخذها من هذه الآية الكريمة، أن مما يعين المؤمنين على النصر والفلاح، أن يعتزلوا أهل الكفر والفسوق والعصيان، إذا لم تنفع معهم النصيحة، وأن يستعينوا على بلوغ غايتهم بالصبر والصلاة، وأن يقيموا حياتهم فيما بينهم على المحبة الصادقة، وعلى الأخوة الخالصة، وأن يجعلوا توكلهم على الله وحده
{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } ثم حكى القرآن الكريم بعد ذلك، ما تضرع به موسى - عليه السلام - إلى الله - تعالى - من دعوات خاشعات، بعد أن يئس من إيمان فرعون وملئه فقال - سبحانه -:
{ وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ... }