خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ
١٥
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٦
-هود

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: من كان يريد بأقواله الحسنة وبأعماله الطيبة على حسب الظاهر، الحصول على (الحياة الدنيا وزينتها) من مال وجاه ومنصب وغير ذلك من المتع الدنيوية، بدون التفات إلى ما يقربه من ثواب الآخرة.
من كانوا يريدون ذلك { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أى: نوصل إليهم - بإرادتنا ومشيئتنا - ثمار جهودهم وأعمالهم فى هذه الدنيا.
والتعبير بكان فى قوله { مَن كَانَ يُرِيدُ... } يفيد أنهم مستمرون على إرادة الدنيا بأعمالهم، بدون تطلع إلى خير الآخرة.
وعدى الفعل { نوف } بإلى، مع أنه يتعدى بنفسه، لتضمينه معنى نوصل.
وقوله - سبحانه - { وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } تذييل قصد به تأكيد ما سبقه، وتبيين مظهر من مظاهر عدل الله - تعالى - مع عباده فى دنياهم.
والبخس: نقص الحق ظلما. يقال: بخس فلان فلانا حقه إذا ظلمه ونقصه.
أى: وهم فى هذه الدنيا لا ينقصون شيئا من نتائج جهودهم وأعمالهم، حتى ولو كانت جهودا لا إخلاص معها ولا إيمان.
ثم بين - سبحانه - سوء مصيرهم فى الآخرة فقال: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
أى: أولئك الذين أرادوا بأقوالهم وأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها، ليس لهم فى الآخرة إلا النار، لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة فى الدنيا وبقيت عليهم أوزار نياتم السيئة فى الآخرة.
{ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } أى: وفسد ما صنعوه فى الدنيا من أعمال الخير، لأنهم لم يقصدوا بها وجه الله - تعالى - وإنما قصدوا بها الرياء ورضى الناس...
وقوله { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى: وباطل فى نفسه ما كانوا يعملونه فى الدنيا من أعمال ظاهرها البر والصلاح، لأنه لا ثمرة له ولا ثواب فى الآخرة لأن الأعمال بالنيات، ونيات هؤلاء المرائين، لم تكن تلتفت إلى ثواب الله، وإنما كانت متجهة اتجاها كليا إلى الحياة الدنيا وزينتها، إلى رضاء المخلوق لا الخالق.
وشبيهة بهاتين الآيتين قوله - تعالى -:
{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } وقوله - تعالى -: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً. وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً. كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } هذا ومن العلماء من يرى أن هاتين الآيتين مسوقتان فى شأن الكفار ومن على شاكلتهم من الضالة كاليهود والنصارى والمنافقين... لأن قوله - تعالى - { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ... } لا يليق إلا بهم.
والذى نراه أن هاتين الآيتين تتناولان الكفار ومن على شاكلتهم تناولا أوليا، ولكن هذا لا يمنع من أنهما يندرج تحت وعيدهما كل من قصد بأقواله وأعماله الحياة الدنيا وزينتها، ونبذ كل معانى الإِخلاص والطاعة لله رب العالمين.
ومما يشهد لذلك أن هناك أحاديث كثيرة، حذرت من الرياء، وتوعدت مقترفة بأشد بأنواع العقوبات ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو داود عن أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" - أى رائحتها -.
وصفوة القول: أن الآيتين الكريمتين تسوقان سنة من سنن الله مع عباده فى هذه الدنيا، هى أن الله - تعالى - لا ينقص الناس شيئا من ثمار جهودهم وأعمالهم فى هذه الدنيا، إلا أن هذه الجهود وتلك الأعمال التى ظاهرها الصلاح، إن كان المقصود بها الحياة الدنيا وزينتها وجدوا نتائجها فى الدنيا فحسب.
وإن كان المقصود بها رضا الله - تعالى - وثواب الآخرة، وجدوا ثمارها ونتائجها الحسنة يوم القيامة، بجانب تمتعهم بما أحله الله لهم فى الدنيا من طيبات.
وذلك لأن العمل للحياة الأخرى - فى شريعة الإِسلام - لا يحول بين العمل النافع فى الحياة الدنيا، ولا ينقص شيئا من آثاره وثماره، بل إنه يزكيه وينميه ويباركه.. ورحم الله القائل: ليس أحد يعمل حسنة إلا وُفِّى ثوابها فإن كان مسلما مخلصا وُفِّى ثوابها فى الدنيا والآخرة، وإن كان كافرا وفى ثوابها فى الدنيا.
وبعد أن بين - سبحانه - حال الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها، أتبع ذلك بيان حال الذين يريدون الحق والصواب فيما يفعلون ويتركون فقال - تعالى -:
{ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ... }.