خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٢٥
أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ
٢٦
فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ
٢٧
-هود

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ... } جواب لقسم محذوف. أى والله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه. والدليل على هذا القسم وجود لامه فى بدء الجملة.
وافتتحت القصة بصيغة القسم لأن المخاطبين بها لما لم يحذروا ما نزل بقوم نوح بسبب كفرهم نزلوا منزلة المنكر لرسالته.
وينتهى نسب نوح - عليه السلام - إلى شيث بن آدم - عليه السلام - وقد ذكر نوح فى القرآن فى ثلاثة وأربعين موضعا.
وقوم الرجل: هم أقرباؤه الذين يجتمعون معه فى جد واحد وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه مجازا للمجاورة.
وكان قوم نوح يعبدون الأصنام: فأرسل الله إليهم نوحا ليدلهم على طريق الرشاد.
قال ابن كثير: قال ابن عباس وغير واحد من علماء التفسير: كان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا. فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صور أولئك الصالحين فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا فلما تفاقم الأمر بعث الله - تعالى - رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده".
وقوله: { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ. أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ... } بيان للوظيفة التى من أجلها أرسل الله - تعالى - نوحا إلى قومه.
قال الشوكانى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائى بفتح الهمزة فى { إنى } على تقدير حرف الجر أى: أرسلناه بأنى. أى: أرسلناه متلبسا بذلك الكلام وهو أنى لكم نذير مبين. وقرأ الباقون بالكسر على إرادة القول. أى: أرسلناه قائلا لهم { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }.
ونذير من الإِنذار وهو إخبار معه تخويف..
ومبين: من الإِبانة بمعنى التوضيح والإِظهار..
أى: أرسلناه إلى قومه فقال لهم يا قوم: إنى لكم محذر تحذيرا واضحا من موجبات العذاب التى تتمثل فى عبادتكم لغير الله - تعالى -.
واقتصر على الإِنذار لأنهم لم يعملوا بما بشرهم به وهو الفوز برضا الله - تعالى - إذا ما أخلصوا له العبادة والطاعة.
وجملة { أَن لاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ } بدل من قوله { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أى أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله.
وقوله: { إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } جملة تعليلية، تبين حرص نوح الشديد على مصلحة قومه ومنفعتهم.
أى إنى أحذركم من عبادة غير الله، لأن هذه العبادة ستؤدى بكم إلى وقوع العذاب الأليم عليكم، وما حملنى على هذا التحذير الواضح إلا خوفى عليكم، وشفقتى بكم، فأنا منكم وأنتم منى بمقتضى القرابة والنسب.
ووصف اليوم بالأليم على سبيل المجاز العقلى، وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم، لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية والنهاية فى ذلك، جعل الوقت الذى تقع فيه وقتا أليما أى مؤلما.
ثم حكى - سبحانه - ما رد به قوم نوح عليه فقال: { فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ }.
والمراد بالملأ: أصحاب الجاه والغنى من قوم نوح. وهذا اللفظ اسم جمع لا واحد له من لفظه كرهط وهو - كما يقول الآلوسى - : مأخوذ من قولهم فلان ملئ بكذا: إذا كان قادرا عليه... أو لأنهم متمالئون أى متظاهرون متعاونون، أو لأنهم يملأون القلوب والعيون...
ووصفهم بالكفر، لتسجيل ذلك عليهم من أول الأمر زيادة فى ذمهم.
أى: بعد هذا النصح الحكيم الذى وجهه نوح - عليه السلام - لقومه، رد عليه أغنياؤهم وسادتهم بقولهم { مَا نَرَاكَ } يا نوح إلا بشر مثلنا، أى: إلا إنسانا مثلنا، ليست فيك مزية تجعلك مختصا بالنبوة دوننا...
فهم - لجهلهم وغبائهم - توهموا أن النبوة لا تجامع البشرية، مع أن الحكمة تقتضى أن يكون الرسول بشرا من جنس المرسل إليهم، حتى تتم فائدة التفاهم معه، والاقتداء به فى أخلاقه وسلوكه.
وقد حكى القرآن قولهم هذا فى أكثر من موضع، ومن ذلك قوله - تعالى -
{ وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي ٱلْحَيـاةِ ٱلدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ... } ثم إنهم فى التعليل لعدم اتباع نبيهم لم يكتفوا بقولهم ما نراك إلا بشر مثلنا: بل أضافوا إلى ذلك قولهم: { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ } ومرادهم بقولهم: { أَرَاذِلُنَا } أى فقراؤنا ومن لا وزن لهم فينا.
قال الجمل: ولفظ { أَرَاذِلُنَا } فيه وجهان: أحدهما أنه جمع الجمع فهو جمع أرذل - بضم الذال - جمع رذل - بسكونها - نحو كلب وأكلب وأكالب...
ثانيهما: أنه جمع مفرد وهو أرذل كأكبر وأكابر.. والأرذل هو المرغوب عنه لرداءته".
ومرادهم بقولهم: { بَادِيَ ٱلرَّأْيِ } أى: أوله من البدء. يقال: بدأ يبدأ إذا فعل الشئ أولا وعليه تكون الياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها ويؤيده قراءة أبى عمرو "بادئ الرأى".
أى: وما نراك اتبعك يا نوح إلا الذين هم أقلنا شأنا وأحقرنا حالا من غير أن يثبتوا من حقيقة أمرك، ولو تثبتوا وتفكروا ما اتبعوك ويصح أن يكون مرادهم بقولهم { بَادِيَ ٱلرَّأْيِ } أى اتبعوك ظاهرا لا باطنا، ويكون لفظ { بادى } من البدو بمعنى الظهور. يقال: بدا الشئ يبدو بدواً وبُدوءاً وبداء أى ظهور وعليه يكون المعنى: وما نراك اتبعك يا نوح إلا الذين هم أهوننا أمرا، ومع ذلك فإن اتباعهم لك إنما هو فى ظاهر أمرهم، أما بواطنهم فهى تدين بعقيدتنا.
وشبيه بهذه الجملة قوله - تعالى -
{ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } قال صاحب الكشاف: وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم فى الأسباب الدنيوية لأنهم أى الملأ من قوم نوح - كانوا جهالا ما كانوا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال كما ترى أكثر المتسمين بالإِسلام، يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد زال عنهم أن التقدم فى الدنيا - مع ترك الآخرة - لا يقرب أحدا من الله وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلا عن أن يجعله سببا فى الاختيار للنبوة والتأهيل لها...
ثم أضافوا إلى مزاعمهم السابقة زعما جديدا فقالوا: { وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ }.
والفضل: الزيادة فى الشرف والغنى وغيرهما مما يتميز به الإنسان عن غيره.
والمراد هنا: آثاره التى تدل عليه.
أى: أنت يا نوح لست إلا بشرا مثلنا، وأتباعك هم أحقرنا شأنا، وما نرى لك ولمتبعيك شيئا من الزيادة علينا لا فى العقل ولا فى غيره، بل إننا لنعتقد أنكم كاذبون فى دعواكم أنكم على الحق، لأن الحق فى نظرنا هو فى عبادة هذه الأصنام التى عبدها من قبلنا آباؤنا.
وهكذا نرى أن الملأ من قوم نوح - عليه السلام - قد عللوا كفرهم بما جاءهم به بثلاث علل، أولها: أنه بشر مثلهم وثانيها: أن أتباعه من فقرائهم وثالثها: أنه لا مزية له ولأتباعه عليهم..
وهى كلها علل باطلة، تدل على جهلهم، وانطماس بصيرتهم، ويدل على ذلك، رد نوح - عليه السلام - الذى حكاه القرآن فى قوله - تعالى -:
{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ... }.