خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ
٥٠
يٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيۤ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٥١
وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ
٥٢
قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
٥٣
إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ قَالَ إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
٥٤
مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ
٥٥
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٥٦
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
٥٧
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
٥٨
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
٥٩
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
٦٠
-هود

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

تلك هى قصة هود - عليه السلام - مع قومه كما حكتها هذه السورة، وقد وردت قصته معهم فى سور أخرى منها: سورة الأعراف، والشعراء، والأحقاف.
وينتهى نسب هود إلى نوح - عليهما السلام - فهو - كما قال بعض المؤرخين -: هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوض بن إِرم بن سام بن نوح).
وقومه هم قبيلة عاد - نسبة إلى أبيهم الذى كان يسمى بهذا الاسم -، وكانت مساكنهم بالأحقاف - جمع حقف وهو الرمل الكثير المائل -، وهذا المكان يسمى الآن بالربع الخالى جنوب الجزيرة العربية.
وكان قوم هود - عليه السلام - يعبدون الأصنام، فأرسله الله إليهم لهدايتهم.
ويقال إن هودا - عليه السلام - قد أرسله الله إلى عاد الأولى، أما عاد الثانية فهم قوم صالح، وبينهما زهاء مائة سنة.
وقوله - سبحانه -: { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ.. } معطوف على قصة نوح التى سبق الحديث عنها.
أى: وكما أرسلنا نوحا إلى قومه ليأمرهم بعبادة الله وحده، أرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم هوداً، فقال لهم ما قاله كل نبى لقومه: { يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ.. }.
ووصفه - سبحانه - بأنه { أخاهم } لأنه من قبيلتهم فى النسب، أو لأنه أخوهم فى الإِنسانية وناداهم بقوله: { يٰقَوْمِ } زيادة فى التلطف معهم، استجلابا لقلوبهم، وترضية لنفوسهم، وجملة { مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } فى معنى العلة لما قبله.
أى: أنا آمركم بعبادة الله وحده، لأنه ليس هناك إله آخر يستحق العبادة سواه، فهو الذى خلقكم ورزقكم، وهو الذى يحييكم ويميتكم.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ }.
والافتراء: الكذب المتعمد الذى لا شبهة لصاحبه فى النطق به.
أى: ما أنتم إلا معتمدون للكذب فى جعلكم الألوهية لغير الله - تعالى - .
ثم بين لهم بعد ذلك أنه لا يريد منهم جزاء ولا شكورا فى مقابل دعوته إياهم إلى الحق فقال: { يٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيۤ... }
وفطرنى: أى خلقنى وأبدعنى على غير مثال سابق، يقال: فطر الأمر. أى: ابتدأه وأنشأه. وفطر الله الخلق: أى خلقهم وأوجدهم. وأصل الفطر: الشق، ثم استعمل فى الخلق والإِنشاء مجازا.
والمعنى: ويا قوم لا أريد منكم على ما أدعوكم إليه أجرا منكم، وإنما أجرى تكفل به الله الذى خلقنى بقدرته، فهو وحده الذى أطلب منه الأجر والعطاء.
ومقصده من هذا القول، إزالته ما عسى أن يكون قد حاك فى نفوسهم، من أنه ما دعاهم إلى ما دعاهم إليه، إلا أنه رجل يبتغى منهم الأجر الذى يجعله موسرا فيهم..
والهمزة فى قوله { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } للاستفهام الإِنكارى، وهى داخله على محذوف.
أى: أتجهلون ما هو واضح من الأمور، فلا تعقلون أن أجر الناصحين المخلصين، إنما هو من الله - تعالى - رب العالمين ورازقهم.
ثم أرشدهم إلى ما يؤدى إلى زيادة غناهم وقوتهم، وحذرهم من سوء عاقبة البطر والأشر فقال: { وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ }.
والاستغفار: طلب المغفرة من الله - تعالى - وعدم المؤاخذة على الخطايا:
والتوبة: العزم على الإِقلاع عن الذنب، مع الندم على ما حصل منه فى الماضى.
أى: ويا قوم استغفروا ربكم مما فرط منكم من شرك وعصيان، ثم عودوا إليه بالتوبة الصادقة النصوح.
وثم هنا للترتيب الرتبى، لأن الإِقلاع عن الذنب مع المداومة على ذلك: مقدم على طلب المغفرة.
وجملة { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } جواب الأمر فى قوله { ٱسْتَغْفِرُواْ }.
والمراد بالسماء هنا السحاب أو المطر، تسمية للشئ باسم مصدره.
ومدرارا: مأخوذ من الدر أى: سيلان اللبن وكثرته. ثم استعير للمطر الغزير يقال: درت السماء بالمطر تدر وتدر درا... إذا كثر نزول المطر منها.
وهو حال من السماء، ولم يؤنث مع أنه حال من مؤنث، باعتبار أن المراد بالسماء هنا المطر أو السحاب.
والمعنى: أن هودا - عليه السلام - قال لقومه يا قوم اعبدوا الله واستغفروه وتوبوا إليه.. فإنكم إن فعلتم ذلك أرسل الله - تعالى - عليكم المطر غزيرا متتابعا فى أوقات حاجتكم إليه؛ لتشربوا منه وتسقوا به دوابكم وزروعكم.
وجملة { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ } معطوفة على ما قبلها.
أى: وأيضا إن فعلتم ذلك زادكم الله - تعالى - عزا إلى عزكم، وشدة إلى شدتكم التى عرفتم بها، ووهبكم الأموال الطائلة، والذرية الكثيرة.
قال الآلوسى: "رغبهم - عليه السلام - بكثرة المطر، وزيادة القوة، لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات. وقيل: "حبس الله عنهم المطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين، فوعدهم هود على الاستغفار والتوبة كثرة الأمطار، ومضاعفة القوة بالتناسل..".
ثم حذرهم من مقابلة نعم الله بالكفر والجحود فقال: { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } والتولى: هو الإِعراض عن الشئ بإصرار وعناد.
أى: ولا تتولوا عما دعوتكم إليه وأنتم مصرون على ما أنتم عليه من إجرام وجحود وعناد.
وإلى هنا يكون هود - عليه السلام - قد وضح لقومه دعوته، ورغبهم فى الاستجابة لها، وحذرهم من الإِعراض عنها، وناداهم بلفظ - يا قوم - ثلاث مرات، توددوا إليهم، وتذكيرا لهم بآصرة القرابة التى تجمعهم وإياه. لعل ذلك يستثير مشاعرهم، ويحقق اطمئنانهم إليه، فإن الرائد لا يكذب أهله.
ولكن قوم هود - عليه السلام - قابلوا كل ذلك بالتطاول عليه، والسخرية منه فقالوا: { قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ.. }.
والبينة: ما يتبين به الحق من الباطل. أى: قالوا له يا هود إنك لم تجئنا بحجة تقنعنا بأنك على الحق فيما تدعو إليه، وترضى نفوسنا وطباعنا وعاداتنا.
ثم أضافوا إلى ذلك قولهم: { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ }.
أى: وما نحن بتاركى آلهتنا بسبب قولك لنا الخالى عن الدليل: اتركوا عبادتها واجعلوا عبادتكم لله وحده.
ثم أكدوا إصرارهم على كفرهم بقولهم { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أى: بمستجيبين لك ومصدقين.
ثم أضافوا إلى إصرارهم هذا استخفافا به وبما يدعو إليه فقالوا: "إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء.."
ومعنى اعتراك: أصابك ومسك. يقال عراه الأمر واعتراه أى أصابه، وأصله من قولهم: عراه يعروه، أى: غشيه وأصابه. ومنه قول الشاعر:

وإنى لتعرونى لذكراك هزة..

أى: تصيبنى.
أى: ما نحن تباركى آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمتبعين، بل عليك أن تيأس يأسا تاما من استجابتنا لك، وحالتك التى نراها بأعيننا تجعلنا نقول لك: إن سبك لآلهتنا جعل بعضها - لا كلها - يتسلط عليك، ويوجه قدرته نحوك، فيصيبك بالجنون والهذيان والأمراض.
ولم يقولوا: "اعتراك آلهتنا بسوء" بل قالوا: { بَعْضُ آلِهَتِنَا } تهديدا له وإشارة إلى أنه لو تصدت له جميع الآلهة لأهلكته إهلاكا.
وهكذا نراهم قد ردوا على نبيهم ومرشدهم بأربعة ردود، تدرجوا فيها من السئ إلى الأسوأ، ومن القبيح إلى الأقبح.. مما يدل على توغلهم فى الطغيان، وبلوغهم النهاية فى العناد والكفر والجحود.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: "ان نقول الا اعتراك بعض آلهتنا بسوء.."
أى: مسك بجنون لسبك إياها، وصدك عنها، وعداوتك لها، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم صرت تتكلم بكلام المجانين وتهذى بهذيان المبرسمين.
ثم قال. وقد دلت ردودهم المتقدمة على أن القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت، ولا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد.
وهذا الأخير دال على جهل مفرط، وبله متناه، حيث اعتقدوا فى حجارة أنها تنتصر وتنتقم..."
والآن وبعد أن استمع هود - عليه السلام - إلى ردودهم القبيحة ماذا كان موقفه منهم؟
لقد كان موقفه منهم: موقف المتبرئ من شركهم، والمتحدى لطغيانهم والمعتمد على الله - تعالى - وحده فى الانتصار عليهم، ولقد حكى القرآن رده عليهم فقال:
{ قَالَ إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }
أى: قال هود - عليه السلام - للطغاة من قومه بعزة وثقة { إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ } الذى لا رب سواه على براءتى من عبادتكم لغيره.
{ واشهدوا } أنتم أيضا على { أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ }.
أى: على براءتى من كل عبادة تعبدونها لغير الله - تعالى - لأنها عبادة باطلة. يحتقرها العقلاء، ويتنزه عنها كل إنسان يحترم نفسه.
فأنت تراه فى هذه الآية الكريمة يعلن احتقاره لآلهتهم، وبراءته من شركهم، واستخفافه بأصنامهم التى زعموا أن بعضها قد أصابه بسوء، ويوثق هذه البراءة بإشهاد الله - تعالى - وإشهادهم.
وذلك كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به: أشهد الله وأشهدك على أنى فعلت بك كذا وكذا، وقلت فى حقك كذا وكذا.. فافعل أنت ما بدا لك!! ثم ينتقل من براءته من شركهم، إلى تحديهم بثقة واطمئنان فيقول: { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ }.
أى: لقد أعلنت أمامكم بكل قوة ووضوح أنى برئ من شرككم، وها أنذا فى مواجهتكم، فانضموا إلى آلهتكم، وحاربونى بما شئتم من ألوان المحاربة والأذى بدون تريث أو إمهال، فإنى لن أكف عن الجهر بدعوتى، ولن أتراجع عن احتقار الباطل الذى أنتم عليه.
وهذا - كما يقول صاحب الكشاف - من أعظم الآيات، أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمة عطاشا إلى إراقة دمه، يرمونه عن قوس واحدة وذلك لثقته بربه، وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم...
ثم ينتقل بعد ذلك إلى بيان السبب الذى دعاه إلى البراءة من شركهم، وإلى عدم المبالاة بهم فقال - كما حكى القرآن عنه - { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ.. }.
أى: إنى فوضت أمرى إلى الله الذى هو ربى وربكم، ومالك أمرى وأمركم، والذى لا يقع فى هذا الكون شئ إلا بإرادته ومشيئته.
وفى قوله: { رَبِّي وَرَبِّكُمْ } مواجهة لهم بالحقيقة التى ينكرونها، لإِفهامهم أن إنكارهم لا قيمة له، وأنه إنكار عن جحود وعناد.. فهو - سبحانه - ربهم سواء أقبلوا ذلك أم رفضوه. وقوله { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } تصوير بديع لشمول قدرته - سبحانه - والأخذ: هو التناول للشئ عن طريق الغلبة والقهر.
والناصية: منبت الشعر فى مقدم الرأس، ويطلق على الشعر النابت نفسه.
قال الإِمام الرازى: واعلم أن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذلة والخضوع قالوا: ما ناصية فلان إلا بيد فلان. أى أنه مطيع له، لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته. وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره فخوطبوا فى القرآن بما يعرفون..
والمعنى: إنى اعتمدت على الله ربى وربكم: ما من دابة تدب على وجه الأرض إلا والله - تعالى - مالكها وقاهر لها، وقادر عليها، ومتصرف فيها كما يتصرف المالك فى ملكه.
وفى هذا التعبير الحكيم صورة حسية بديعة تناسب المقام، كما تناسب غلظة قوم هود وشدتهم. وصلابة أجسامم وبنيتهم، وجفاف حسهم ومشاعرهم.. فكأنه - عليه السلام - يقول لهم: إنكم مهما بلغتم من القوة والبطش، فما أنتم إلا دواب من تلك الدواب التى يأخذ ربى بناصيتها، ويقهرها بقوته قهراً يهلكها - إذا شاء ذلك - فكيف أخشى دوابا مثلكم مع توكلى على الله ربى وربكم؟!
ثم يتبع هذا الوصف الدال على شمول قدرة الله - تعالى - بوصف آخر يدل على عدالته وتنزهه عن الظلم فيقول: { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }.
أى: إن ربى قد اقتضت سنته أن يسلك فى أحكامه طريق الحق والعدل وما دام الأمر كذلك فلن يسلطكم على لأنه - حاشاه - أن يسلط من كان متمسكا بالباطل، على من كان متمسكا بالحق.
واكتفى هنا بإضافة الرب إلى نفسه، للإشارة إلى أن لطفه - سبحانه - يشمل هودا وحده ولا يشملهم، لأنهم أشركوا معه فى العبادة آلهة أخرى.
ثم ختم هود - عليه السلام - رده على قومه، بتحذيرهم من سوء عاقبة إصرارهم على كفرهم فقال: { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ... }
أى: فإن تتولوا عن دعوتى، وتعرضوا عن الحق الذى جئتكم به من عند ربى، فتكون عاقبتكم خسرا، وأمركم فرطا.
أما أنا فقد أديت واجبى، وأبلغتكم ما أرسلت به إليكم من عند ربى بدون تكاسل أو تقصير. وقوله { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً } وعيد لهم بإهلاكهم وإحلال غيرهم محلهم.
أى: وهو - سبحانه - سيهلككم بسبب إصراركم على كفركم فى الوقت الذى يشاؤه، ويستخلف من بعدكم قوما آخرين سواكم، يرثون دياركم وأموالكم، ولن تضروا الله شيئا من الضرر بسبب إصراركم على كفركم، وإنما أنتم الذين تضرون أنفسكم بتعريضها للدمار فى الدنيا، وللعذاب الدائم فى الآخرة.
وقوله: { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أى: إن ربى قائم على كل شئ بالحفظ والرقابة والهيمنة، وقد اقتضت سنته - سبحانه - أن يحفظ رسله وأولياءه، وأن يخذل أعداءه.
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد ساقت لنا بأسلوب بليغ حكيم، جانبا من الحوار الذى دار بين هود وقومه وهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فماذا كانت نتيجة هذا الحوار والجدال؟
لقد كانت نتيجته إنجاء هود والذين آمنوا معه، وإهلاك أعدائهم.
قال - تعالى - { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ. وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ }
والمراد بالأمر فى قوله - سبحانه - { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } الأمر بنزول العذاب بهم.
أى: وحين جاء أمرنا بتحقيق وعيدنا فى قوم هود، وبتنفيذ ما أردناه من إهلاكهم وتدميرهم { نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } تنجية مصحوبة { برحمة } عظيمة كائنة { منا } بسبب إيمانهم وعملهم الصالح.
{ وَنَجَّيْنَاهُمْ } كذلك { مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } أى: من عذاب ضخم شديد مضاعف ترك هؤلاء الطغاة وراءه صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.
ووصف العذاب بأنه غليظ، بهذا التصوير المحسوس، يتناسب كل التناسب مع جو هذه القصة، ومع ما عرف عن قوم هود من ضخامة فى الأجسام، ومن تفاخر بالقوة.
قال تعالى -
{ فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً... } وكان عذابهم كما جاء فى آيات أخرى بالريح العقيم، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ. سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ.. } واسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - { وَتِلْكَ عَادٌ... } يعود إلى القبيلة أو إلى آثارهم التى خلفوها من بعدهم. أى: وتلك هى قصة قبيلة عاد مع نبيها هود - عليه السلام - وتلك هى عاقبتها وكانت الإِشارة للبعيد تحقيرا لهم، وتهوينا من شأنهم بعد أن انتهوا، وبعدوا عن الأنظار والأفكار، وقد كانوا يقولون: من أشد منا قوة.
وقوله: { جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.. } بيان لجرائمهم التى استحقوا بسببها العذاب الغليظ.
والجحد: الإِنكار الشديد للحق الواضح.
وآيات ربهم: الحجج والبراهين التى جاء بها الأنبياء من ربهم للدلالة على صدقهم.
والجبار: هو الشخص المتعالى المتعاظم على الناس، المترفع عن الاستجابة للحق.
والعنيد: المعاند الطاغى الذى يعرف الحق ولكنه لا يتبعه.
أى: وتلك هى قصة قبيلة عاد مع نبيها، كفروا بآيات ربهم الدالة على صدق أنبيائه، وعصوا رسله الذين جاءوا لهدايتهم، واتبع سفلتهم وعوامهم أمر كل رئيس متجبر متكبر معاند منهم، بدون تفكر أو تدبر.
وقال - سبحانه - { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } مع أنهم قد عصوا رسولا واحدا هو هود - عليه السلام -، للإِشارة إلى أن معصيتهم لهذا الرسول كأنها معصية للرسل جميعا، لأنهم قد جاءوا برسالة واحدة فى جوهرها وهى: عبادة الله - تعالى - وحده، والتقيد بأوامره ونواهيه.
والإِشارة أيضا إلى ضخامة جرائمهم، وإبراز شناعتها حيث عصوا رسلا لا رسولا.
وقد وصفهم - سبحانه - فى هذه الآية بثلاث صفات هى أعظم الصفات فى القبح والشناعة: أولها: جحودهم لآيات ربهم. وثانيها: عصيانهم لرسله. وثالثها: اتباعهم أمر رؤسائهم الطغاة.
ثم ختم - سبحانه - قصتهم مع نبيهم فى هذه السورة بقوله: { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ }.
والإِتْباع: اقتفاء أثر الشئ بحيث لا يفوته. يقال: أتبع فلان فلانا إذا اقتفى أثره لكى يدركه أو يسير على نهجه.
واللعنة: الطرد بإهانة وتحقير.
أى: أنهم هلكوا مشيعين ومتبوعين باللعن والطرد من رحمة الله فى الدنيا والآخرة.
وقوله: { أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } تسجيل لحقيقة حالهم، ودعاء عليهم بدوام الهلاك، وتأكيد لسخط الله عليهم.
أى: ألا إن قوم عاد كفروا بنعم ربهم عليهم، ألا سحقا وبعدا لهم عن رحمة الله، جزاء جحودهم للحق، وإصرارهم على الكفر، واستحبابهم العمى على الهدى.
وتكرير حرف التنبيه "ألا" وإعادة لفظ "عاد" للمبالغة فى تهويل حالهم وللحض على الاعتبار والاتعاظ بمآلهم.
هذا، ومن العبر البارزة فى هذه القصة:
1 - أن الداعى إلى الله، عليه أن يذكر المدعوين بما يستثير مشاعرهم، ويحقق اطمئنانهم إليه، ويرغبهم فى اتباع الحق، ببيان أن اتباعهم لهذا الحق سيؤدى إلى زيادة غناهم وقوتهم وأمنهم وسعادتهم.
وأن الانحراف عنه سيؤدى إلى فقرهم وضعفهم وهلاكهم.
انظر إلى قول هود - عليه السلام -: { وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ }.
2 - وأن الداعى إلى الله - عندما يخلص لله دعوته، ويعتمد عليه - سبحانه - فى تبليغ رسالته، ويغار عليها كما يغار على عرضه أو أشد.
فإنه فى هذه الحالة سيقف فى وجه الطغاة المناوئين للحق، كالطود الأشم، دون مبالاة بتهديدهم ووعيدهم.. لأنه قد آوى إلى ركن شديد.
وهذه العبرة من أبرز العبر فى قصة هود عليه السلام.
ألا تراه وهو رجل فرد يواجه قوما غلاظا شدادا طغاة، إذا بطشوا بطشوا جبارين، يدلون بقوتهم ويقولون فى زهو وغرور: من أشد منا قوة.
ومع كل ذلك عندما يتطاولون على عقيدته؛ ويراهم قد أصروا على عصيانه.
يواجههم بقوله: { إِنِّيۤ أُشْهِدُ ٱللَّهَ وَٱشْهَدُوۤاْ أَنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ.. }
أرأيت كيف واجه هود - عليه السلام - هؤلاء الغلاظ الشداد بالحق الذى يؤمن به دون مبالاة بوعيدهم أو تهديدهم..؟
وهكذا الإِيمان بالحق عندما يختلط بالقلب.. يجعل الإِنسان يجهر به دون أن يخشى أحداً إلا الله - تعالى -.
ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم فتحدثت عن قصة صالح - عليه السلام - مع قومه، فقال - تعالى -
{ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً... }.