خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ
٩٩
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
١٠٠
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ
١٠١
-يوسف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه - { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ... } معطوف على كلام محذوف والتقدير:
استجاب إخوة يوسف لقوله لهم:
{ ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } فأتوا بأهلهم أجمعين، حيث رحلوا جميعاً من بلادهم إلى مصر ومعهم أبوهم، فلما وصلوا إليها ودخلوا على يوسف، ضم إليه أبويه وعانقهما عناقاً حاراًَ.
وقال للجميع { ادخُلُواْ } بلاد { مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } من الجوع والخوف.
وقد ذكر المفسرون هنا كلاماً يدل على أن يوسف - عليه السلام - وحاشيته ووجهاء مصر، عندما بلغهم قدوم يعقوب بأسرته إلى مصر، خرجوا جميعاً لاستقبالهم كما ذكروا أن المراد بأبويه: أبوه وخالته، لأن أمه ماتت وهو صغير.
إلا أن ابن كثير قال: "قال محمد بن إسحاق وابن جرير: كان أبوه وأمه يعيشان، وأنه لم يقم دليل على موت أمه، وظاهر القرآن يدل على حياتها".
ثم قال: "وهذا الذى ذكره ابن جرير، هو الذى يدل عليه السياق".
والمراد بدخول مصر: الاستقرار بها، والسكن فى ربوعها.
قالوا: وكان عدد أفراد أسرة يعقوب الذين حضروا معه ليقيموا فى مصر ما بين الثمانين والتسعين.
والمراد بالعرش فى قوله { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ } السرير الذى يجلس عليه.
أى: وأجلس يوسف أبويه معه على السرير الذى يجلس عليه، تكريماً لهما، وإعلاء من شأنهما.
{ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } أى: وخر يعقوب وأسرته ساجدين من أجل يوسف، وكان ذلك جائزا فى شريعتهم على أنه لون من التحية، وليس المقصود به السجود الشرعى لأنه لا يكون إلا لله - تعالى -.
"وقَال" يوسف متحدثاً بنعمة الله { يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً... }
أى: وقال يوسف لأبيه: هذا السجود الذى سجدتموه لى الآن، هو تفسير رؤياى التى رأيتها فى صغرى، فقد جعل ربى هذه الرؤيا حقاً، وأرانى تأويلها وتفسيرها بعد أن مضى عليها الزمن الطويل.
قالوا: وكان بين الرؤيا وبين ظهور تأويلها أربعون سنة.
والمراد بهذه الرؤيا ما أشار إليه القرآن فى مطلع هذه السورة فى قوله
{ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } ثم قال يوسف لأبيه أيضاً: { وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ } ربى - عز وجل - { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ } بعد أن مكثت بين جدرانه بضع سنين.
وعدى فعل الإِحسان بالباء مع أن الأصل فيه أن يتعدى بإلى، لتضمنه معنى اللطف ولم يذكر نعمة إخراجه من الجب، حتى لا يجرح شعور إخوته الذين سبق أن قال لهم:
{ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ } وقوله { وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ } معطوف على ما قبله تعدادا لنعم الله - تعالى -.
أى: وقد أحسن بى ربى حيث أخرجنى من السجن، وأحسن بى أيضاً حيث يسر لكم أموركم، وجمعنى بكم فى مصر، بعد أن كنتم مقيمين فى البادية فى أرض كنعان بفلسطين.
وقوله { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ } أى جمعنى بكم من بعد أن أفسد الشيطان بينى وبين إخوتى، حيث حملهم على أن يلقوا بى فى الجب.
وأصل { نَّزغَ } من النزغ بمعنى النخس والدفع. يقال: نزغ الراكب دابته إذا نخسها ودفعها لتسرع فى سيرها.
وأسند النزغ إلى الشيطان، لأنه هو الموسوس به، والدافع إليه، ولأن فى ذلك ستراً على إخوته وتأدباً معهم.
وقوله { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } تذييل قصد به الثناء على الله - تعالى - بما هو أهله.
أى: إن ربى وخالقى، لطيف التدبير لما يشاء تدبيره من أمور عباده، رفيق بهم فى جميع شئونهم من حيث لا يعلمون.
إنه - سبحانه - هو العليم بأحوال خلقه علماً تاماً، الحكيم في جميع أقواله وأفعاله.
ثم ختم يوسف - عليه السلام - ثناءه على الله - تعالى - بهذا الدعاء الذى حكاه القرآن عنه فى قوله: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ } أى: يا رب قد أعطيتنى شيئاً عظيماً من الملك والسلطان بفضلك وكرمك.
{ وَعَلَّمْتَنِي } - أيضاً - شيئاً كثيراً { مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } أى: من تفسيرها وتعبيرها تعبيراً صادقاً بتوفيقك وإحسانك.
{ فَاطِرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أى: خالقهما على غير مثال سابق، وهو منصوب على النداء بحرف مقدر أى: يا فاطر السماوات والأرض.
{ أَنتَ وَلِيِّي } وناصرى ومعينى { فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ }.
{ تَوَفَّنِي } عندما يدركنى أجلى على الإِسلام، وأبقنى { مُسْلِماً } مدة حياتى.
{ وَأَلْحِقْنِي } فى قبرى ويوم الحساب { بِٱلصَّالِحِينَ } من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وبهذا الدعاء الجامع الذى توجه به يوسف إلى ربه - تعالى - يختتم القرآن الكريم قصة يوسف مع أبيه ومع إخوته ومع غيرهم ممن عاشرهم والتقى بهم وهو دعاء يدل على أن يوسف - عليه السلام - لم يشغله الجاه والسلطان ولم يشغله لقاؤه عن طاعة ربه، وعن تذكر الآخرة وما فيها من حساب..
وهذا هو شأن المصطفين الأخيار الذين نسأل الله - تعالى - أن يحشرنا معهم، ويحلقنا بهم، ويوفقنا للسير على نهجهم...
ثم يختتم الله - تعالى - هذه السورة الكريمة بما يدل على أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - وبما يدخل التسلية على قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبما يفتح له باب الأمل فى النصر على أعدائه... فيقول:
{ وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ... }