خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
١
إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٢
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ
٣
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ
٤
قَالَ يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
٥
وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٦
-يوسف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

افتتحت سورة يوسف - عليه السلام - ببعض الحروف المقطعة. وقد سبق أن تكلمنا عن آراء العلماء فى هذه الحروف فى سورة البقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس، وهود.
وقلنا ما ملخصه: لعل أقرب الأقوال إلى الصواب، أن هذه الحروف المقطعة، قد وردت فى افتتاح بعض السور على سبيل الايقاظ والتنبيه إلى إعجاز القرآن الكريم.
فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله - تعالى -: هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم.. فإن كنتم فى شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك.
ومما يشهد لصحة هذا الرأى: أن الآيات التى تلى هذه الحروف المقطعة تراها تتحدث - صراحة أو ضمنا - عن القرآن الكريم وعن كونه من عند الله - تعالى - وعن كونه معجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ففى مطلع سورة البقرة:
{ الۤمۤ. ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ... } وفى مطلع سورة آل عمران: { الۤمۤ. ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ.. } وفى أول سورة الأعراف: { { الۤمۤصۤ. كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } }. وفى أول سورة يونس: { الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ. أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ... } وفى أول سورة هود: { الۤر. كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ... } وهكذا نجد أن معظم الآيات التى تلى الحروف المقطعة، منها ما يتحدث عن أن هذا الكتاب من عند الله - سبحانه - ومنها ما يتحدث عن وحدانية الله - تعالى -، ومنها ما يتحدث عن صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعوته..
وهذا كله لتنبيه الغافلين إلى أن هذا القرآن من عند الله، وأنه المعجزة الخالدة للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال - تعالى -: { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ }
و "تلك" اسم إشارة، المشار إليه الآيات، والمراد بها آيات القرآن الكريم ويندرج فيها آيات السورة التى معنا.
والكتاب: مصدر كتب كالكتب. وأصل الكتب ضم أديم إلى آخر بالخياطة. واستعمل عرفا فى ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، والمراد به القرآن الكريم.
والمبين: أى الواضح الظاهر من أبان بمعنى بان أى ظهر.
والمعنى: تلك الآيات التى نتلوها عليك - أيها الرسول الكريم - فى هذه السورة وفى غيرها، هى آيات الكتاب الظاهر أمره، الواضح إعجازه، بحيث لا تشتبه على العقلاء حقائقه، ولا تلتبس عليهم هداياته.
وصحت الإِشارة إلى آيات الكتاب الكريم، مع أنها لم تكن قد نزلت جميعها، لأن الإِشارة إلى بعضها كالإِشارة إلى جميعها، حيث كانت بصدد الإِنزال، ولأن الله - تعالى - قد وعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - بنزول القرآن عليه، كما فى قوله
{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ووعد الله - تعالى - لا يتخلف.
ثم بين - سبحانه - الحكمة من إنزاله بلسان عربى مبين فقال: { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }.
أى: إنا أنزلنا هذا الكتاب الكريم على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بلسان عربى مبين، لعلكم أيها المكلفون بالإِيمان به، تعقلون معانيه، وتفهمون ألفاظه، وتنتفعون بهداياته، وتدركون أنه ليس من كلام البشر، وإنما هو كلام خالق القوى والقدر وهو الله - عز وجل -.
فالضمير فى "أنزلناه" يعود إلى الكتاب، وقرآنا حال من هذا الضمير أو بدلا منه.
والتأكيد بحرف إن متوجه إلى خبرها وهو أنزلناه، للرد على أولئك المشركين الذين أنكروا أن يكون هذا القرآن من عند الله.
وجملة { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } بيان لحكمة إنزاله بلغة العرب وحذف مفعول "تعقلون" للإِشارة إلى أن نزوله بهذه الطريقة، يترتب عليه حصول تعقل أشياء كثيرة لا يحصيها العد.
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه: قوله: { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات، وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعانى التى تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب، بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك فى أشرف بقاع الأرض، وفى أشرف شهور السنة، فكمل له الشرف من كل الوجوه".
وقال الجمل: "واختلف العلماء هل يمكن أن يقال: فى القرآن شئ غير عربى.
قال أبو عبيدة: من قال بأن فى القرآن شئ غير عربى فقد أعظم على الله القول. واحتج بهذه الآية.
وروى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة بأن فيه من غير العربى مثل: سجيل، والمشكاة، واليم، وإستبرق ونحو ذلك.
وهذا هو الصحيح المختار، لأن هؤلاء أعلم من أبى عبيدة بلسان العرب. وكلا القولين صواب - إن شاء الله -.
ووجه الجمع بينهما أن هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب، ودارت على ألسنتهم صارت عربية فصيحة، وإن كانت غير عربية فى الأصل، لكنهم لما تكلموا بها نسبت إليهم، وصارت لهم لغة، فظهر بهذا البيان صحة القولين، وأمكن الجمع بينهما".
ثم بين - سبحانه - أن هذا القرآن مشتمل على أحسن القصص وأحكمها وأصدقها فقال - تعالى -: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ }.
قال الفخر الرازى ما ملخصه: "القصص: إتباع الخبر بعضه بعضا، وأصله فى اللغة المتابعة قال - تعالى -
{ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ.. } أى اتبعى أثره. وقال - تعالى -: { فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } أى: اتباعاً. وإنما سميت الحكاية قصصا، لأن الذى يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئا فشيئا، كما يقال: "تلا فلان القرآن، أى قرأه آية فآية".
والمعنى: نحن نقص عليك - أيها الرسول الكريم "أحسن القصص" أى: أحسن أنواع البيان، وأوفاه بالغرض الذى سيق من أجله.
وإنما كان قصص القرآن أحسن القصص، لاشتماله على أصدق الأخبار، وأبلغ الأساليب، وأجمعها للحكم والعبر والعظات.
والباء فى قوله { بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ } للسبيبة متعلقة بنقص، و{ ما } مصدرية.
أى: نقص عليك أحسن القصص، بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذى هو فى الذروة العليا فى بلاغته وتأثيره فى النفوس.
وجملة { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ } فى موضع الحال من كاف الخطاب فى { إليك } و "إن" مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف.
والضمير فى قوله { مِن قَبْلِهِ } يعود إلى الإِيحاء المفهوم من قوله { أَوْحَيْنَآ }.
والمعنى: نحن نقص عليك أحسن القصص بسبب ما أوحيناه إليك من هذا القرآن. والحال أنك كنت قبل إيحائنا إليك بهذا القرآن، من الغافلين عن تفاصيل هذا القصص، وعن دقائق أخباره وأحداثه، شأنك فى ذلك شأن قومك الأميين.
قال تعالى:
{ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } ثم حكى - سبحانه - قصة يوسف - عليه السلام - كمثال لأحسن القصص فقال - تعالى - { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }.
و { إذ } ظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر.
ويوسف: اسم أعجمى، مشتق - كما يقول الآلوسى - من الأسف، وسمى به لأسف أبيه عليه. وأبوه: هو يعقب بن إسحاق بن إبراهيم. وفى الحديث الصحيح عن ابن عمر - رضى الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" .
وقوله: { يٰأَبتِ } أصله يا أبى، فحذفت الياء وعوض عنها تاء التأنيث، ونقلت إليها كسرة الباء، ثم فتحت الباء لمناسبة تاء التأنيث.
والمعنى: اذكر - أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب - وقت أن قال يوسف لأبيه، يا أبت إنى رأيت فى منامى { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } تسجد لى: ورأيت كذلك { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } لى { سَاجِدِينَ }.
ولم يدرج الشمس والقمر فى الكواكب مع أنهما منها، لإِظهار مزيتهما ورفعا لشأنهما، وجملة { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } مستأنفة لبيان الحالة التى رآهم عليها.
وأجريت هذه الكواكب مجرى العقلاء فى الضمير المختص بها، لوصفها بوصفهم حيث إن السجود من صفات العقلاء، والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته.
قال ابن كثير: "وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام: أن الأحد عشر كوكبا عبارة عن إخوته، وكانوا أحد عشر رجلا، والشمس والقمر عبارة عن أبيه وأمه.
روى هذا عن ابن عباس، والضحاك، وقتادة وسفيان الثورى، وعبد الرحمن بن زيد، وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة، وقيل بعد ثمانين سنة، وذلك حين رفع أبويه على العرش، وهو سريره. وإخوته بين يديه.. وخروا له سجدا وقال: يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل، قد جعلها ربى حقا ...".
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله يعقوب لابنه يوسف بعد أن قص عليه رؤياه فقال: { قَالَ يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }.
وقوله { يٰبُنَيَّ } تصغير ابن. والتصغير هنا سببه صغر سنه مع الشفقة عليه، والتلطيف معه.
وقوله { رُؤْيَاكَ } من الرؤيا التى هى مصدر رأى العلمية الدالة على ما وقع للإِنسان فى نومه، أما رأى البصرية فيقال فى مصدرها الرؤية.
وقوله "فيكيدوا لك.." من الكيد وهو الاحتيال الخفى بقصد الإِضرار والفعل كاد يتعدى بنفسه، فيقال: كاده يكيده كيدا، إذا احتال لإِهلاكه. ولتضمنه معنى احتال عدى باللام.
والمعنى: قال يعقوب لابنه يوسف - عليهما السلام - بشفقة ورحمة، بعد أن سمع منه ما رآه فى منامه: "يا بنى" لا تخبر إخوتك بما رأيته فى منامك فإنك إن أخبرتهم بذلك احتالوا لإِهلاكك احتيالا خفيا، لا قدرة لك على مقاومته أو دفعه..
وإنما قال له ذلك، لأن هذه الرؤيا تدل على أن الله - تعالى - سيعطى يوسف من فضله عطاء عظيما. ويهبه منصبا جليلا، ومن شأن صاحب النعمة أن يكون محسودا من كثير من الناس، فخاف يعقوب من حسد إخوة يوسف له، إذا ما قص عليهم رؤياه، ومن عدوانهم عليه.
والتنوين فى قوله "كيدا" للتعظيم والتهويل، زيادة فى تحذيره من قص الرؤيا عليهم.
وجملة "إن الشيطان للإِنسان عدو مبين" واقعة موقع التعليل للنهى عن قص الرؤيا على إخوته، وفيها إشارة إلى أن الشيطان هو الذى يغريهم بالكيد له إذا ما قص عليهم ما رآه، وهو بذلك لا يثير فى نفسه الكراهة لإِخوته.
أى: لا تخبر إخوتك بما رأيته فى منامك، فيحتالوا للإِضرار بك حسدا منهم لك، وهذا الحسد يغرسه الشيطان فى نفوس الناس، لتتولد بينهم العداوة والبغضاء، فيفرح هو بذلك، إذ كل قبيح يقوله أو يفعله الناس يفرح له الشيطان.
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاما منها:
أنه يجوز للإنسان فى بعض الأوقات أن يخفى بعض النعم التى أنعم الله بها عليه، خشية حسد الحاسدين، أو عدوان المعتدين.
وأن الرؤيا الصادقة حالة يكرم الله بها بعض عباده الذين زكت نفوسهم فيكشف لهم عما يريد أن يطلعهم عليه قبل وقوعه. ومن الأحاديث التى وردت فى فضل الرؤيا الصالحة ما رواه البخارى عن عائشة - رضى الله عنها - أنها قالت:
"أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحى الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.." .
وفى حديث آخر: "الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح، جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" .
وفى حديث ثالث: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات، وهى الرؤيا الصالحة للرجل الصالح، يراها أو ترى له" .
كذلك أخذ جمهور العلماء من هذه الآية أن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء.
قال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: "والظاهر أن القوم - أى إخوة يوسف - كانوا بحيث يمكن أن يكون للشيطان عليهم سبيل، ويؤيد هذا أنهم لم يكونوا أنبياء.
وهذا ما عليه الأكثرون سلفا وخلفا. أما السلف فإنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أو التابعين أنه قال بنبوتهم.
وأما الخلف فكثير منهم نفى عنهم أن يكونوا أنبياء، وعلى رأى من قال بذلك الإِمام ابن تيمية، فى مؤلف له خاص بهذه المسألة، وقد قال فيه:
الذى يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار، أن إخوة يوسف ليسوا بأنبياء، وليس فى القرآن ولا فى السنة ما يشير إلى أنهم كانوا أنبياء..."
ثم حكى - سبحانه - ما توقعه يعقوب لابنه يوسف من خير وبركة فقال:
{ وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
والكاف فى قوله { وَكَذٰلِك } حرف تشبيه بمعنى مثل، وهى داخله على كلام محذوف.
وقوله { يَجْتَبِيكَ } من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والاختيار، مأخوذ من جبيت الشئ إذا اخترته لما فيه من النفع والخير.
و { تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } معناه تفسيرها صحيحا، إذا التأويل مأخوذ من الأَوْل بمعنى الرجوع، وهو رد الشئ إلى الغاية المرادة منه.
والأحاديث جمع تكسير مفرده حديث، وسميت الرؤى أحاديث باعتبار حكايتها والتحدث بها.
والمعنى: وكما اجتباك ربك واختارك لهذه الرؤيا الحسنة، فإنه - سبحانه - يجتبيك ويختارك لأمور عظام فى مستقبل الأيام، حيث يهبك من صدق الحسَّ، ونفاذ البصيرة، ما يجعلك تدرك الأحاديث إدراكا سليما، وتعبر الرؤى تعبيرا صحيحا صادقاً.
"ويتم نعمته عليك" بالنبوة والرسالة والملك والرياسة "وعلى آل يعقوب" وهم إخوته وذريتهم، بأن يسبغ عليهم الكثير من نعمه.
{ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ } أى: من قبل هذه الرؤيا أو من قبل هذا الوقت.
وقوله "إبراهيم وإسحاق" بيان لأبويه.
أى: يتم نعمته عليك إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك من قبل، وهما إبراهيم وإسحاق بأن وهبهما - سبحانه - النبوة والرسالة.
وعبر عنهما بـأنهما أبوان ليوسف، مع أن إبراهيم جد أبيه، وإسحاق جده، للإِشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم السلام -، وللمبالغة فى إدخال السرور على قلبه، ولأن هذا الاستعمال مألوف فى لغة العرب، فقد كان أهل مكة يقولون للنبى - صلى الله عليه وسلم - يا ابن عبد المطلب، وأثر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"أنا النبى لا كذب - أنا ابن عبد المطلب" . وجملة { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } مستأنفة لتأكيد ما سبقها من كلام.
أى: إن ربك عليم بمن يصطفيه لحمل رسالته، وبمن هو أهل لنعمه وكرامته، حكيم فى صنعه وتصرفاته.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد نوهت بشأن القرآن الكريم، وساقت بأسلوب حكيم ما قاله يعقوب لابنه يوسف - عليهما السلام - بعد أن قص ما رآه فى المنام.
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك حالة إخوة يوسف وهم يتآمرون عليه، وحالتهم وهم يجادلون أباهم فى شأنه. وحالتهم وهم ينفذون مؤامراتهم المنكرة وحالتهم بعد أن نفذوهاوعادوا إلى أبيهم ليلا يتباكون فقال - تعالى -:
{ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ... }.