خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
٥
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ
٦
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ
٧
وَقَالَ مُوسَىۤ إِن تَكْفُرُوۤاْ أَنتُمْ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ
٨
-إبراهيم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى: "اعلم أنه - تعالى - لما بين أنه أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه فى ذلك الإِرسال وفى تلك البعثة، أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم، وكيفية معاملة أقوامهم معهم. تصبيرا له - صلى الله عليه وسلم - على أذى قومه، وبدأ - سبحانه - بقصة موسى فقال: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ... }.
وموسى - عليه السلام - هو ابن عمران، ابن يصهر، ابن ماهيث... وينتهى نسبه إلى لاوى بن يعقوب عليه السلام.
وكانت ولادة موسى - عليه السلام - فى حوالى القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
والمراد بالآيات فى قوله: { بِآيَاتِنَآ } الآيات التسع التى أيده الله تعالى بها قال تعالى:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ... } وهى: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والجدب - أى فى بواديهم، والنقص من الثمرات - أى فى مزارعهم.
قال - تعالى -
{ فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } وقال - تعالى -: { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ } وقال - تعالى -: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } ومنهم من يرى أنه يصح أن يراد بالآيات هنا آيات التوراة التى أعطاها الله - تعالى - لموسى - عليه السلام -.
قال الآلوسى ما ملخصه: "قوله: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَآ } أى: ملتبسا بها. وهى كما أخرج ابن جرير وغيره، عن مجاهد وعطاء وعبيد بن عمير، الآيات التسع التى أجراها الله على يده - عليه السلام - وقيل: يجوز أن يراد بها آيات التوراة".
ويبدو لنا أنه لا مانع من حمل الآيات هنا على ما يشمل الآيات التسع، وآيات التوراة، فالكل كان لتأييد موسى - عليه السلام - فى دعوته.
و "أن" فى قوله { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ } تفسير بمعنى أى: لأن فى الإِرسال معنى القول دون حروفه.
والمراد بقومه: من أرسل لهدايتهم وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان، وهم: بنو إسرائيل وفرعون وأتباعه.
وقيل: المراد بقومه: بنو إسرائيل خاصة، ولا نرى وجها لهذا التخصيص، لأن رسالة موسى - عليه السلام - كانت لهم ولفرعون وقومه.
والمعنى: وكما أرسلناك يا محمد لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، أرسلنا من قبلك أخاك موسى إلى قومه لكى يخرجهم - أيضا - من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان. فالغاية التى من أجلها أرسلت - أيها الرسول الكريم - هى الغاية التى من أجلها أرسل كل نبى قبلك، وهى دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وخص - سبحانه - موسى بالذكر من بين سائر الرسل. لأن أمته أكثر الأمم المتقدمة على هذه الأمة الإسلامية.
وأكد - سبحانه - الإخبار عن إرسال موسى بلام القسم وحرف التحقيق قد، لتنزيل المنكرين لرسالة النبى - صلى الله عليه وسلم - منزلة من ينكر رسالة موسى - عليه السلام - وقوله - تعالى -: { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ } معطوف على قوله { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ }.
والتذكير: إزالة نسيان الشئ، وعدى بالباء لتضمينه معنى الإِنذار والوعظ: أى ذكرهم تذكير عظة بأيام الله.
ومن المفسرين من يرى أن المراد بأيام الله: نعمه وآلاؤه.
قال ابن كثير: قوله: { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ } أى: بأياديه ونعمه عليهم، فى إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه، وإنجائه إياهم من عدوهم، وفلقه لهم البحر، وتظليله إياهم الغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى".
ومنهم من يرى أن المراد بها، نقمه وبأساؤه.
قال صاحب الكشاف: قوله: { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ } أى: وأنذرهم بوقائعه التى وقعت على الأمم قبلهم، كما وقع على قوم نوح وعاد وثمود، ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها، كيوم ذى قار، ويوم الفجار، وهو الظاهر"
ومنهم من يرى أن المراد بها ما يشمل أيام النعمة، وأيام النقمة.
قال الإِمام الرازى ما ملخصه: "أما قوله { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ } فاعلم أنه - تعالى - أمر موسى فى هذا المقام بشيئين، أحدهما: أن يخرجهم من الظلمات إلى النور. والثانى: أن يذكرهم بأيام الله.
ويعبر عن الأيام بالوقائع العظيمة التى وقعت فيها..
{ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } فالمعنى: عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد، فالترغيب والوعد، أن يذكرهم بنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل... والترهيب والوعيد. أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه، ممن كذب الرسل من الأمم السالفة..
ثم قال: واعلم أن أيام الله فى حق موسى - عليه السلام - منها ما كان أيام المحنة والبلاء، وهى الأيام التى كانت بنو إسرائيل فيها تحت قهر فرعون، ومنها ما كان أيام الراحة والنعماء مثل إنزال المن والسلوى عليهم..".
وقال الآلوسى: "قوله: { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ } أى: بنعمائه وبلائه، كما روى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - واختاره الطبرى، لأنه الأنسب بالمقام والأوفق بما سيأتى من الكلام".
وما ذهب إليه الإِمامان الرازى والآلوسى، هو الذى تسكن إليه النفس، لأن الأيام كلها وإن كانت لله، إلا أن المراد بها هنا أيام معينة، وهى التى برزت فيها السراء أو الضراء بروزا ظاهرا، كانت له آثاره على الناس الذين عاشوا فى تلك الأيام.
وبنو إسرائيل - على سبيل المثال - مرت عليهم فى تاريخهم الطويل، أيام غمروا فيها بالنعم، وأيام أصيبوا فيها بالنقم.
فالمعنى: ذكر يا موسى قومك بنعم الله لمن آمن وشكر، وبنقمه على من جحد وكفر، لعل هذا التذكير يجعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويتبعونك فيما تدعوهم إليه.
واسم الإِشارة فى قوله: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يعود على التذكير بأيام الله.
والصبار: الكثير الصبر على البلاء. والصبر حبس النفس على ما يقتضيه الشرع فعلا أو تركا. يقال: صبره عن كذا يصبره إذا حبسه.
والشكور: الكثير الشكر لله - تعالى - على نعمه، والشكر: عرفان الإِحسان ونشره والتحدث به، وأصله من شكرت الناقة - كفرح - إذا امتلأ ضرعها باللبن، ومنه أشكر الضرع إذا امتلأ باللبن.
أى: إن فى ذلك التذكير بنعم الله ونقمه، لآيات واضحات، ودلائل بينات على وحدانية الله - تعالى - وقدرته وعلمه، وحكمته، لكل إنسان كثير الصبر على البلاء، وكثير الشكر على النعماء.
وتخصيص الآيات بالصبار والشكور لأنهما هما المنتفعان بها وبما تدل عليه من دلائل على وحدانية الله وقدرته، لا لأنها خافية على غيرهما، فإن الدلائل على ذلك واضحة لجميع الناس.
وجمع - سبحانه - بينهما، للإِشارة إلى ان المؤمن الصادق لا يخلو حاله عن هذين الأمرين ففى الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"إن أمر المؤمن كله عجب، لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له" .
وقدم - سبحانه - صفة الصبر على صفة الشكر، لما أن الصبر مفتاح الفرج المقتضى للشكر، أو لأن الصبر من قبيل الترك، والتخلية مقدمة على التحلية.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك موسى - عليه السلام - قد امتثل أمر ربه فقال: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ... }
و"إذ" ظرف لما مضى من الزمان، وهو متعلق بمحذوف تقديره اذكر.
والمراد بقوله: { ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ }: تنبهوا بعقولكم وقلوبكم لتلك المنن التى امتن الله بها عليكم، وقوموا بحقوقها، وأكثروا من الحديث عنها بألسنتكم. فإن التحدث بنعم الله فيه إغراء بشكرها.
"آل فرعون" حاشيته وخاصته من قومه. وفرعون: لقب لملك مصر فى ذلك الوقت، كما يقال لملك الروم قيصر...
ويسومونكم من السوم وهو مطلق الذهاب أو الذهاب فى ابتغاء الشئ، يقال: سامت الإِبل فهى سائمة. أى: ذهبت فى المرعى، وسام السلعة: إذا طلبها وابتغاها.
وسامه خسفا، إذا أذله واحتقره وكلفه فوق طاقته.
و { سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } أشده. والسوء - بالضم - كل ما يدخل الحزن والغم على نفس الإِنسان. وهو فى الأصل مصدر، ويؤنث بالألف فيقال السوأى.
وقوله { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } من الاستحياء بمعنى الاستبقاء، يقال: استحيا فلان فلانا أى: استبقاه وأصله طلب له الحياة والبقاء.
والمعنى: واذكر - أيها الرسول الكريم - أو أيها المخاطب وقت أن قال موسى - عليه السلام - لقومه على سبيل الإِرشاد والتوجيه إلى الخير: يا قوم { ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } أى: داوموا على شكر الله، فقد أسبغ عليكم نعما كثيرة من أبرزها أنه - سبحانه - أنجاكم من آل فرعون الذين كانوا يصبون عليكم أشد العذاب وأفظعه، وكانوا يذبحون أبناءكم الصغار، ويستبقون نساءكم..
وجعل - سبحانه - النجاة هنا من آل فرعون ولم تجعل منه، مع أنه الآمر بتعذيب بنى إسرائيل للتنبيه على أن حاشيته وبطانته كانت عونا فى إذاقتهم سوء العذاب.
وجعلت الآية الكريمة استحياء النساء عقوبة لبنى إسرائيل، لأن هذا الإِبقاء عليهم كان المقصود منه الاعتداء عليهن، واستعمالهن فى الخدمة بالاسترقاق، فبقاؤهن بعد فقد الذكور بقاء ذليل، وعذاب أليم، تأباه النفوس الكريمة.
قال الآلوسى: قوله: { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } أى: ويبقونهن فى الحياة مع الذل. ولذلك عد من جملة البلاء، أو لأن إبقاؤهن دون البنين رزية فى ذاته كما قيل:

ومن أعظم الرزء فيما أرىبقاء البنات وموت البنينا

وقد رجح كثير من المفسرين أن المراد بالأبناء هنا: الأطفال الصغار، لأن اللفظ من حيث وضعه يفيد ذلك، ولأن قتل جميع الرجال لا يفيدهم حيث إن فرعون وآله، كانوا يستعملونهم فى الأعمال الشاقة والحقيرة، ولأنه لو كان المقصود بالذبح الرجال، لما قامت أم موسى بإلقائه فى البحر وهو طفل صغير لتنجيه من الذبح.
وقال - سبحانه - هنا { يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } لأن المقصود هنا تعداد المحن التى حلت ببنى اسرائيل، فكان المراد بجملة { يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } نوعا منه، وكان المراد بجملة { وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } نوعا آخر منه، لذا وجب العطف، لأن الجملة الثانية ليست مفسرة للأولى، وإنما هى تمثل نوعا آخر من العذاب الذى حل ببنى إسرائيل.
بخلاف قوله - تعالى - فى سورة البقرة
{ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } بدون واو العطف، لأن الجملة الثانية بيان وتفسير للجملة الأولى. فيكون المراد من سوء العذاب فى سورة البقرة تذبيح الأبناء واستحياء النساء.
واسم الإشارة فى قوله: { وَفِي ذٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ } يعود إلى المذكور من النعم والنقم، والبلاء: الامتحان والاختبار، ويكون فى الخير والشر. قال - تعالى -
{ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } أى: وفى ذلكم العذاب وفى النجاة منه امتحان عظيم لكم من ربكم بالسراء لتشكروا وبالضراء لتصبروا، ولتقلعوا عن السيئات التى تؤدى بكم إلى الشفاء والهوان.
ثم حكى - سبحانه - أن موسى - عليه السلام - قد أرشد قومه إلى سنة من سنن الله التى لا تتخلف فقال: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }..
وقوله: { تَأَذَّنَ } بمعنى آذن أى أعلم، يقال: آذن الأمر بالأمر أى: أعلمه، إلا أن صيغة التفعل تفيد المبالغة فى الإِعلام، فيكون معنى "تأذن": أعلم إعلاما واضحا بليغا لا التباس معه ولا شبهة.
واللام فى قوله: { لَئِن شَكَرْتُمْ } موطئة للقسم. وحقيقة الشكر: الاعتراف بنعم الله - تعالى - واستعمالها فى مواضعها التى أرشدت الشريعة إليها.
وقوله: { لأَزِيدَنَّكُمْ } ساد مسد جوابى القسم والشرط.
والمراد بالكفر فى قوله: { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } كفر النعمة وجحودها، وعدم نسبتها إلى واهبها الحقيقى وهو الله - تعالى - كما قال قارون
{ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي } وعدم استعمالها فيما خلقت له، إلى غير ذلك من وجوه الانحراف بها عن الحق.
وجملة: { إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } دليل على الجواب المحذوف لقوله { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } إذ التقدير: ولئن كفرتم لأعذبنكم، إن عذابى لشديد.
قال الجمل: "وإنما حذف هنا وصرح به فى جانب الوعد، لأن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد".
والمعنى: واذكر أيها المخاطب وقت أن قال موسى لقومه: يا قوم إن ربكم قد أعلمكم إعلاما واضحا بليغا مؤكداً بأنكم إن شكرتموه على نعمه، زادكم من عطائه وخيره ومننه، وإن جحدتم نعمه وغمطتموها واستعملتموها فى غير ما يرضيه، محقها من بين أيديكم، فإنه - سبحانه - عذابه شديد، وعقابه أليم.
هذا، وقد ساق الإِمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث الموجبة للشكر، والمحذرة من الجحود فقال:
وقد جاء فى الحديث الشريف:
"إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" .
وروى الإِمام أحمد عن أنس قال: " أتى النبى - صلى الله عليه وسلم - سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها - أو وحش بها أى: رماها - قال: وأتاه آخر فأمر له بتمرة فقال السائل: سبحان الله!! تمرة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال للجارية: إذهبى إلى أم سلمة فأعطيه الأربعين درهما التى عندها" .
ثم بين - سبحانه - أن موسى قد أخبر قومه أن ضرر كفرهم إنما يعود عليهم، لأن الله - تعالى - غنى عن العالمين فقال - تعالى -: { وَقَالَ مُوسَىۤ إِن تَكْفُرُوۤاْ أَنتُمْ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ }.
أى: وقال موسى - عليه السلام - لقومه: إن تجحدوا نعم الله أنتم ومن فى الأرض جميعا من الخلائق، فلن تضروا الله شيئا، وإنما ضرر ذلك يعود على الجاحد لنعمه، والمنحرف عن طريقه، فإن الله - تعالى - لغنى عن شكركم وشكرهم، مستحق للحمد من جميع المخلوقين طوعا وكرها.
ويبدو من سياق الآية الكريمة أن موسى - عليه السلام - إنما قال لقومه ذلك، بعد أن شاهد منهم علامات الإِصرار على الكفر والفساد، وترجح لديه أنهم قوم لا ينفعهم الترغيب ولا التعريض بالترهيب، ولمس منهم أنهم يمنون عليه أو على الله - تعالى - بطاعاتهم فأراد بهذا القول أن يزجرهم عن الإِدلال بإيمانهم، والمن بطاعتهم.
فالغرض الذى سبقت له الآية إنما هو بيان أن منفعة الطاعة والشكر والإِيمان إنما تعود على الطائعين الشاكرين المؤمنين، وأن مضرة الجحود والكفران إنما تعود على الجاحدين الكافرين. أما الله - تعالى - فلن تنفعه طاعة المطيع، ولن تضره معصية العاصى.
ففى الحديث القدسى الذى رواه الإِمام مسلم فى صحيحه عن أبى ذر الغفارى، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - عز وجل - أنه قال:
"يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا.
يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا.
يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندى إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"
.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد زخرت بالتوجيهات القرآنية الحكيمة، التى ساقها الله - تعالى - على لسان موسى - عليه السلام - وهو يعظ قومه، ويذكرهم بأيام الله، وبسننه فى خلقه، وبغناه عنهم...
ثم حكى - سبحانه - جانبا من أحوال بعض الرسل مع أقوامهم، ومن المحاورات التى دارت بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم فقال - تعالى -:
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ... }