خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ
٧٥
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ
٧٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
٧٧
وَإِن كَانَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ
٧٨
فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ
٧٩
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ
٨٠
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
٨١
وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ
٨٢
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ
٨٣
فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٨٤
-الحجر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

فاسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } يعود إلى ما تضمنته القصة السابقة من عبر وعظات.
والآيات جمع آية، والمراد بها هنا الأدلة والعلامات الدالة على ما يوصل إلى الحق والهداية. والمتوسمون: جمع المتوسم، وهو المتأمل فى الأسباب وعواقبها، وفى المقدمات ونتائجها ..
قال القرطبى ما ملخصه: التوسم تفعل من الوسم، وهى العلامة التى يستدل بها على مطلوب غيره. يقال: توسمت فى فلان الخير، إذا رأيت ميسم ذلك فيه، ومنه قول عبد الله ابن رواحة للنبى صلى الله عليه وسلم.

إنى توسمت فيك الخير أعرفه والله يعلم أنى ثابت البصر

وأصل التوسم: التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة فى جلد البعير وغيره .. وذلك يكون بجودة القريحة، وحدة الخاطر، وصفاء الفكر، وتطهير القلب من أدناس المعاصى.
والمراد بالمتوسمين: "المتفرسين، أو المتفكرين، أو المعتبرين، أو المتبصرين .. والمعنى متقارب ..".
والمعنى: إن فى ذلك الذى سقناه فى قصتى إبراهيم ولوط - عليهما السلام - لأدلة واضحة على حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة الغاوين، لمن كان ذا فكر سليم، وبصيرة نافذة تتأمل فى حقائق الأشياء، وتتعرف على ما يوصلها إلى الهداية والطريق القويم.
قال بعض العلماء عند تفسيره لهذه الآية: هذه الآية أصل فى الفراسة. أخرج الترمذى من حديث أبى سعيد مرفوعاً:
"اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية ...
وقد أجاد الكلام فى الفراسة، الراغب الأصفهانى فى كتابه "الذريعة" حيث قال فى الباب السابع: وأما الفراسة فالاستدلال بهيئة الإِنسان وأشكاله وألوانه وأقواله، على أخلاقه وفضائله ورذائله ...
وقد نبه - سبحانه - على صدقها بقوله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } وبقوله
{ { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } }. وبقوله { { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ } }. ولفظها مأخوذ من قولهم "فرس السبع الشاه" فكأن الفراسة اختلاف المعارف.
وفى هذه الآية الكريمة تعريض لمن تمر عليهم العبر والعظات. والأدلة الدالة على وحدانية الله - تعالى -، وكمال قدرته ... فلا يعتبرون ولا يتعظون ولا يتفكرون فيها، لانطماس بصيرتهم، واستيلاء الأهواء والشهوات على نفوسهم، كما قال - تعالى -
{ { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } }. والضمير فى قوله - سبحانه - { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } يعود إلى المدينة أو القرى التى كان يسكنها قوم لوط - عليه السلام -.
أى: وإن هذه المساكن التى كان يسكنها هؤلاء المجرمون، لبطريق ثابت واضح يسلكه الناس، ويراه كل مجتاز له وهو فى سفره من الحجاز إلى الشام، كما قال - تعالى -
{ { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِٱْلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } }. والمقصود تذكير كفار قريش وغيرهم بعاقبة الظالمين، حتى يقلعوا عن كفرهم وجحودهم، وحتى يعتبروا ويتعظوا، ويدخلوا مع الداخلين فى دين الإِسلام.
وقوله - سبحانه -: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } تذييل قصد به التعميم بعد التخصيص، لأن اسم الإِشارة هنا يعود إلى جميع ما تقدم من قصتى إبراهيم ولوط - عليهما السلام - وإلى ما انضم إليهما من التذكير بآثار الأقوام المهلكين.
أى: إن فيما ذكرناه فيما سبق من أدلة واضحة على حسن عاقبة المتقين، وسوء نهاية الظالمين، لعبرة واضحة، وحكمة بالغة، للمؤمنين الصادقين.
وخصهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بالأدلة والعظات، وللتنبيه على أن التفرس فى الأمور لمعرفة أسبابها ونتائجها من صفاتهم وحدهم.
وجمع الآيات قبل ذلك فى قوله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } وأفردها هنا فقال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } للأشعار بأن المؤمنين الصادقين تكفى لهدايتهم، ولزيادة إيمانهم، آية واحدة من الآيات. الدالة على أن دين الإِسلام هو الدين الحق، وفى ذلك ما فيه من الثناء عليهم، والمدح لهم، بصدق الإِيمان، وسلامة اليقين ...
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانباً من قصة أصحاب الأيكة لزيادة العظات والعبر، فقال - تعالى -: { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } و{ إن } هى المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف.
وأصحاب الأيكة، هم قوم شعيب - عليه السلام -، والأيك الشجر الكثير الملتف واحدته أيكة - كتمر وتمره -.
والمراد بها البقعة الكثيرة الأشجار التى كانت فيها مساكنهم، قرب مدين قرية شعيب - عليه السلام -.
وجمهور العلماء على أن أهل مدين وأصحاب الأيكة قبيلة واحدة، وأرسل الله - تعالى - إليهم جميعاً شعيباً - عليه السلام - لأمرهم بإخلاص العبادة لله - تعالى -، ونهيهم عن تطفيف الكيل والميزان، وعن قطع الطريق ...
وكانوا جميعاً يسكنون فى المنطقة التى تسمى بمعّان، على حدود الحجاز والشام، أو أن بعضهم كان يسكن الحاضرة وهم أهل مدين، والبعض الآخر كان يسكن فى البوادى المجاورة لها والمليئة بالأشجار.
وقيل: إن شعيباً - عليه السلام - أرسل إلى أمتين: أهل مدين، وأصحاب الأيكة، وهذه خصوصية له - عليه السلام -.
وعلى أية حال فالعلماء متفقون على أن أصحاب الأيكة هم قوم شعيب - عليه السلام -.
والإِمام: الطريق الواضح المعالم. وسمى الطريق إماما لأن المسافر يأتم به، ويهتدى بمسالكه، حتى يصل إلى الموضع الذى يريده.
والمعنى: وإن الشأن والحال أن أصحاب الأيكة كانوا ظالمين متجاوزين لكل حد، فاقتضت عدالتنا أن ننتقم منهم، بسبب كفرهم وفجورهم.
{ وإنهما } أى مساكن قوم لوط، ومساكن قوم شعيب { لبإمام مبين } أى: لبطريق واضح يأتم به أهل مكة فى سفرهم من بلادهم إلى بلاد الشام.
قال ابن كثير: وقد كانوا - أى أصحاب الأيكة - قريباً من قوم لوط، بعدهم فى الزمان، ومسامتين لهم فى المكان، ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال فى إنذاره لهم
{ { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } }. ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن قصص الأنبياء مع أقوامهم بجانب من قصة صالح - عليه السلام - مع قومه. فقال - تعالى - { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ } ...
وأصحاب الحجر: هم ثمود قوم صالح - عليه السلام -.
والحجر: واد بين الشام والمدينة المنورة، كان قوم صالح يسكنونه. والحجر فى الأصل: كل مكان أحاطت به الحجارة، أو كل مكان محجور أى ممنوع من الناس بسبب اختصاص بعضهم به.
وما زال هذا المكان يعرف إلى الآن باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك، كما أشرنا إلى ذلك عند التعريف بالسورة الكريمة.
وقال - سبحانه -: { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ } مع أنهم لم يكذبوا إلا رسولهم - عليه السلام -، لأن تكذيب رسول واحد، تكذيب لجميع الرسل، حيث إن رسالتهم واحدة، وهى الأمر بإخلاص العبادة لله - تعالى - وحده، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، والنهى عن الرذائل والمفاسد.
ثم بين - سبحانه - مظاهر هذا التكذيب لرسولهم - عليه السلام - فقال: { وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ }.
أى: وأعطينا قوم صالح - عليه السلام - آياتنا الدالة على صدقه وعلى أنه رسول من عندنا، والتى من بينها الناقة التى أخرجها الله - تعالى - لهم ببركة دعاء نبيهم { فكانوا عنها } أى عن هذه الآيات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا { معرضين } لا يلتفتون إليها، ولا يفكرون فيها، ولهذا عقروا الناقة
{ { وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } }. ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر حضارتهم وتحصنهم فى بيوتهم المنحوتة فى الجبال فقال - تعالى - { وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ }.
وينحتون: من النحت وهو برى الحجر من وسطه أو جوانبه، لإِعداده للبناء أو للسكن أى: وكانوا لقوتهم وغناهم يتخذون لأنفسهم بيوتا فى بطون الجبال وهم آمنون مطمئنون، أو يقطعون الصخر منها ليتخذوه بيوتاً لهم.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -
{ { وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ } أى: حاذقين فى نحتها. وقوله - تعالى - { { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتاً } }. قال ابن كثير: ذكر - تعالى - أنهم { كَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } أى: من غير خوف ولا احتياج إليها، بل بطرا وعبثا،كما هو المشاهد من صنيعهم فى بيوتهم بوادى الحجر، الذى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك فقنع رأسه - أى غطاها بثوبه - وأسرع دابته، وقال لأصحابه: "لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم" .
ولكن ماذا كانت نتيجة هذه القوة الغاشمة، والثراء الذى ليس معه شكر لله - تعالى - والإِصرار على الكفر والتكذيب لرسل الله - تعالى -، والإِعراض عن الحق ...؟
لقد بين القرآن عاقبة ذلك فقال: { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }.
أى: فكانت نتيجة تكذيب أصحاب الحجر لرسولهم صالح - عليه السلام - أن أهلكهم الله - تعالى - وهم داخلون فى وقت الصباح، عن طريق الصيحة الهائلة، التى جعلتهم فى ديارهم جاثمين، دون أن يغنى عنهم شيئاً ما كانوا يكسبونه من جمع الأموال، وما كانوا يصنعونه من نحت البيوت فى الجبال.
وهكذا نرى أن كل وقاية ضائعة، وكل أمان ذاهب، وكل تحصن زائل أمام عذاب الله المسلط على أعدائه المجرمين.
وهكذا تنتهى تلك الحلقات المتصلة من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم والتى تتفق جميعها فى بيان سنة من سنن الله - تعالى - فى خلقه، وهى أن النجاة والسعادة والنصر للمؤمنين، والهلاك والشقاء والهزيمة للمكذبين.
ثم ختمت السورة الكريمة ببيان كمال قدرة الله - تعالى -، وببيان جانب من النعم التى منحها - سبحانه - لنبيه صلى الله عليه وسلم، وبتهديد المشركين الذين جعلوا القرآن عضين، والذين جعلوا مع الله إلهاً آخر، وبتسليته صلى الله عليه وسلم عما لحقه منهم من أذى، فقال - تعالى -: { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ ... }.
.