خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ
٨٥
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ
٨٦
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ
٨٧
لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ
٨٨
وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ
٨٩
كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ
٩٠
ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ
٩١
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
٩٢
عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٩٣
فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ
٩٤
إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ
٩٥
ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
٩٦
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ
٩٧
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ
٩٨
وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ
٩٩
-الحجر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

فقوله - سبحانه - { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } توجيه للناس إلى التأمل فى مظاهر قدرة الله - تعالى -، وإلى الحق الأكبر الذى قام عليه هذا الوجود، بعد أن بين - سبحانه - قبل ذلك، سنته التى لا تتخلف، وهى أن حسن العاقبة للمتقين، وسوء المصير للمكذبين.
والحق: هو الأمر الثابت الذى تقتضيه عدالة الله - تعالى - وحكمته.
والباء فيه للملابسة.
أى: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما من كائنات لا يعلمها إلا الله، إلا خلقاً ملتبساً بالحق الذى لا يحوم حوله باطل، وبالعدل الذى لا يخالطه جور وبالحكمة التى تتنزه عن العبث، وتأبى استمرار الفساد، واستبقاء ضعف الحق أمام الباطل.
والمراد بالساعة فى قوله - تعالى -: { وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ } ساعة البعث والحساب والثواب والعقاب فى الآخرة.
أى: وإن ساعة إعطاء كل ذى حق حقه، ومعاقبة كل ذى باطل على باطله، لآتية لا ريب فيها، فمن فاته أخذ حقه فى الدنيا فسيأخذه وافيا غير منقوص فى الآخرة، ومن أفلت من عقوبة الدنيا فسينال ما هو أشد وأخزى منها فى يوم الحساب.
فالجملة الكريمة انتقال من تهديد المجرمين بعذاب الدنيا، إلى تهديدهم بعذاب الآخرة، والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه من المكذبين من أذى.
وأكد - سبحانه - هذه الجملة بإن وبلام التوكيد، ليدل على أن الساعة آتية لا محالة، وليخرس ألسنة الذين ينكرون وقوعها وحدوثها ...
وجملة { فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ } تفريع على ما قبلها.
والصفح الجميل: ترك المؤاخذة على الذنب، وإغضاء الطرف عن مرتكبه بدون معاتبة.
أى: ما دام الأمر كما ذكرنا لك أيها الرسول الكريم - من أن هذا الكون قد خلقناه بالحق، ومن أن الساعة آتية لا ريب فيها ... فاصفح عن هؤلاء المكذبين لك صفحاً جميلاً، لا عتاب معه ولا حزن ولا غضب ... حتى يحكم الله بينك وبينهم.
وهذا التعبير فيه ما فيه من تسليته صلى الله عليه وسلم وتكريمه، لأنه - سبحانه - أمره بالصفح الجميل عن أعدائه، ومن شأن الذى يصفح عن غيره، أن يكون أقوى وأعز من هذا الغير - فكأنه - سبحانه - يقول له: اصفح عنهم فعما قريب ستكون لك الكلمة العليا عليهم.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -
{ { فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } }. وقوله - سبحانه -: { { ... فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } }. وقوله - سبحانه - { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } تعليل للأمر بالصفح الجميل عنهم.
والخلاق والعليم: صيغتا مبالغة من الخلق والعلم، للدلالة على كثرة خلقه، وشمول علمه.
أى: { إن ربك } أيها الرسول الكريم، الذى رباك برعايته وعنايته، واختارك لحمل رسالته { هو } - سبحانه - { الخلاق } لك ولهم ولكل شئ فى هذا الوجود.
{ العليم } بأحوالك وبأحوالهم، وبما يصلح لك ولهم ولكل الكائنات.
وقد علم - سبحانه - أن الصفح عنهم فى هذا الوقت فيه المنفعة لك ولهم، فحقيق بك - أيها الرسول الكريم - أن تطيعه - سبحانه -، وأن تكل الأمور إليه.
ولقد تحقق الخير من وراء هذا التوجيه السديد من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم فقد نرتب على هذا الصفح: النصر للنبى صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، والهداية لبعض الكافرين وهم الذين دخلوا فى الإِسلام بعد نزول هذه الآية، وصاروا قوة للدعوة الإِسلامية بعد أن كانوا حرباً عليها، وتحقق - أيضاً - قوله صلى الله عليه وسلم:
"لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله - عز وجل -" .
ثم أتبع - سبحانه - هذه التسلية والبشارة للرسول صلى الله عليه وسلم، بمنة ونعمة أجل وأعظم من كل ما سواها، ليزيده اطمئناناً وثقة بوعد الله - تعالى - فقال: { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ }.
والمراد بالسبع المثانى: صورة الفاتحة. وسميت بذلك، لأنها سبع آيات، ولأنها تثنى أى تكرر فى كل ركعة من ركعات الصلاة.
قال صاحب الكشاف: "والمثانى من التثنية وهى التكرير للشئ، لأن الفاتحة تكرر قراءتها فى الصلاة. أو من الثناء، لاشتمالها على ما هو ثناء على الله - تعالى - ...".
والمعنى: ولقد أعطيناك - أيها الرسول الكريم - سورة الفاتحة التى هى سبع آيات، والتى تعاد قراءتها فى كل ركعة من ركعات الصلاة، وأعطيناك - أيضاً - القرآن العظيم الذى يهدى للطريق التى هى أقوم.
وأوثر فعل { آتيناك } بمعنى أعطيناك على أوحينا إليك، أو أنزلنا عليك؛ لأن الإِعطاء أظهر فى الإِكرام والإِنعام.
وقوله { والقرآن العظيم } معطوف على { سبعاً } من باب عطف الكل على الجزء، اعتناء بهذا الجزء.
ووصف - سبحانه - القرآن بأنه عظيم، تنويهاً بشأنه، وإعلاء لقدره.
ومما يدل على أن المراد بالسبع المثانى سورة الفاتحة ما أخرجه البخارى بسنده
"عن أبى سعيد بن المعلى قال: مر بى النبى صلى الله عليه وسلم وأنا أصلى، فدعانى فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتينى؟ فقلت: كنت أصلى.
فقال: ألم يقل الله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم }.
ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة فى القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟ ثم ذهب النبى صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرته فقال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } هى السبع المثانى والقرآن العظيم الذى أوتيته"
.
وروى البخارى - أيضاً - عن أبى هريرة قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "أم القرآن هى: السبع المثانى والقرآن العظيم" .
هذا، وهناك أقوال أخرى فى المقصود بالسبع المثانى، ذكرها بعض المفسرين فقال: اختلف العلماء فى السبع المثانى: فقيل الفاتحة. قاله على بن أبى طالب، وأبو هريرة، والربيع بن أنس، وأبو العالية، والحسن وغيرهم. وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة من حديث أبى بن كعب وأبى سعيد بن المعلى ...
وقال ابن عباس: هى السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال والتوبة معاً ...
وأنكر قوم هذا وقالوا: أنزلت هذه الآية بمكة، ولم ينزل من السبع الطوال شئ إذ ذاك.
وقيل: المثانى القرآن كله، قال الله - تعالى -
{ { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } }. هذا قول الضحاك وطاووس، وقاله ابن عباس. وقيل له: مثانى، لأن الأنباء والقصص ثنيت فيه ...
وقيل: المراد بالسبع المثانى أقسام القرآن من الأمر والنهى والتبشير والإِنذار ..
ثم قال: والصحيح الأول لأنه نص. وقد قدمنا فى الفاتحة أنه ليس فى تسميتها بالمثانى ما يمنع من تسمية غيرها بذلك، إلا أنه إذا ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم وثبت عنه نص فى شئ لا يحتمل التأويل، كان الوقوف عنده.
والذى نراه، أن المقصود بالسبع المثانى هنا: سورة الفاتحة، لثبوت النص الصحيح بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتى ثبت النص الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم فى شئ فلا كلام لأحد معه أو بعده صلى الله عليه وسلم.
ثم نهى الله - تعالى - المسلمين فى شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم عن التطلع إلى زينة الحياة الدنيا، فقال - تعالى -: { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } ...
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف وصل هذا بما قبله؟
قلت: يقول الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم: قد أوتيت النعمة العظمى التى كل نعمة وإن عظمت فهى إليها حقيرة ضئيلة، وهى القرآن العظيم، فعليك أن تستغنى به، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا ...
قال أبو بكر الصديق؛ من أوتى القرآن، فرأى أن أحداً أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى، فقد صغر عظيماً، وعظم صغيراً.
وقال ابن كثير: وقال ابن أبى حاتم: ذكر عن وكيع بن الجراح، قال: حدثنا موسى بن عبيدة، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبى رافع صاحب النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"أضاف النبى صلى الله عليه وسلم ضيفا، ولم يكن عنده صلى الله عليه وسلم شئ يصلحه، فأرسل إلى رجل من اليهود: يقول لك محمد رسول الله: أسلفنى دقيقا إلى هلال رجب. قال اليهودى: لا إلا برهن. فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: أما والله إنى لأمين من فى السماء، وأمين من فى الأرض، ولئن أسلفنى أو باعنى لأؤدين إليه. فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية. { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } كأنه - سبحانه - يعزيه عن الدنيا" .
وقوله - سبحانه - { تمدن } من المد، وأصله الزيادة. واستعير هنا للتطلع إلى ما عند الغير برغبة وتمن وإعجاب. يقال: مد فلان عينه إلى مال فلان، إذا اشتهاه وتمناه وأراده.
والمراد بالأزواج: الأصناف من الكفار الذين متعهم الله بالكثير من زخارف الدنيا.
والمعنى: لا تحفل - أيها الرسول الكريم - ولا تطمح ببصرك طموح الراغب فى ذلك المتاع الزائل، الذى متع الله - تعالى - به أصنافاً من المشركين فإن ما بين أيديهم منه شئ سينتهى عما قريب، وقد آتاهم الله - تعالى - إياه على سبيل الاستدراج والإِملاء، وأعطاك ما هو خير منه وأبقى، وهو القرآن العظيم.
قال صاحب الظلال: والعين لا تمتد. إنما يمتد البصر أى: يتوجه. ولكن التعبير التصويرى يرسم صورة العين ذاتها ممدودة إلى المتاع. وهى صورة طريفة حين يتخيلها المتخيل ..
والمعنى وراء ذلك، ألا يحفل الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك المتاع الذى آتاه الله - تعالى - لبعض الناس ... ولا يلقى إليه نظرة اهتمام، أو نظرة استجمال، أو نظرة تمن.
وقال - سبحانه - هنا { لا تمدن ... } بدون واو العطف، وقال فى سورة طه { ولا تمدن ... } بواو العطف، لأن الجملة هنا مستأنفة استئنافاً بيانياً، جواباً لما يختلج فى نفوس بعض المؤمنين من تساؤل عن أسباب الإِملاء والعطاء الدنيوى لبعض الكافرين. ولأن الجملة السابقة عليها وهى قوله { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي ... } كانت بمنزلة التمهيد لها، والإِجمال لمضمونها.
أما فى سورة طه، فجملة { ولا تمدن ... } معطوفة على ما سبقها من طلب وهو قوله - تعالى -
{ { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً ... } }. وقوله - سبحانه - { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } نهى له صلى الله عليه وسلم عن الاهتمام بالمصير السيئ الذى ينتظر أعداءه.
أى: ولا تحزن - أيها الرسول الكريم - لكفر من كفر من قومك، أو لموتهم على ذلك، أو لأعراضهم عن الحق الذى جئتهم به، فإن القلوب بأيدينا نصرفها كيف نشاء، أما أنت فعليك البلاغ.
وقوله - سبحانه - { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } بيان لما يجب عليه نحو أتباعه، بعد بيان ما يجب عليه نحو أعدائه.
وخفض الجناح كناية عن اللين والمودة والعطف.
أى: وكن متواضعاً مع أتباعك المؤمنين، رءوفاً بهم، عطوفاً عليهم.
قال الشوكانى: وخفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب ... وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إليه بسط جناحه ثم قبض على الفرخ، فجعل ذلك وصفا لتواضع الإِنسان لأتباعه ... والجناحان من ابن آدم: جانباه.
وقوله - سبحانه -: { وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ } معطوف على ما قبله.
أى: لا تحزن - أيها الرسول الكريم - على مصير الكافرين، وتواضع لأتباعك المؤمنين، وقل للناس جميعاً ما قاله كل نبى قبلك لقومه: إنى أنا المنذر لكم من عذاب الله إذا ما بقيتم على كفركم، الموضح لكم كل ما يخفى عليكم.
فالنذير هنا بمعنى المنذر، والمبين بمعنى الكاشف والموضح.
وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"إنما مثلى ومثل ما بعثنى الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم، إنى رأيت الجيش بعينى، وإنى أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا. وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعنى واتبع ما جئت به، ومثل من عصانى وكذب ما جئت به من الحق" .
ثم هدد - سبحانه - الذين يحاربون دعوة الحق، ويصفون القرآن بأوصاف لا تليق به فقال - تعالى -: { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } ..
والكاف فى قوله { كما } للتشبيه، و{ ما } موصوله أو مصدرية وهى المشبه به أما المشبه فهو الإيتاء المأخوذ من قوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي }.
ولفظ { المقتسمين } افتعال من القسم بمعنى تجزئة الشئ وجعله أقساماً ..
والمراد بهم بعض طوائف أهل الكتاب، الذين آمنوا ببعضه وكفروا بالبعض الآخر.
أو المراد بهم - كما قال ابن كثير: "{ المقتسمين } أى المتحالفين، أى الذين تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم ...".
ولفظ { عضين } جمع عضة - بزنة عزة -، وهى الجزء والقطعة من الشئ. تقول: عضيت الشئ تعضية، أى: فرقته وجعلته أجزاء كل فرقة عضة.
قال القرطبى ما ملخصه: وواحد العضين عضة، من عضيت الشئ تعضية أى فرقته، وكل فرقة عضة. قال الشاعر: وليس دين الله بالمعضى. أى: بالمفرق.
والعضة والعضين فى لغة قريش السحر. وهم يقولون للساحر عاضه، وللساحرة عاضهة ...
وفى الحديث:
"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة أى الساحرة والمستسحرة" .. وقيل: هو من العضة، وهى التميمة. والعضيهة: البهتان ... يقال: أعضهت يا فلان أى: جئت بالبهتان".
والمعنى: ولقد آتيناك - أيها الرسول الكريم - السبع المثانى والقرآن العظيم، مثل ما أنزلنا على طوائف أهل الكتاب المقتسمين، أى الذين قسموا كتابهم أقساماً، فأظهروا قسماً وأخفوا آخر، والذين جعلوا - أيضاً - القرآن أقساماً، فآمنوا ببعضه، وكفروا بالبعض الآخر .. فجعله { ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } بيان وتوضيح للمقتسمين.
ومنهم من يرى أن قوله - تعالى - { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ ... } متعلق بقوله - تعالى - قبل ذلك، { وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ }، فيكون المشبه الإِنذار بالعقاب المفهوم من الآية الكريمة. وأن المراد بالمقتسمين: جماعة من مشركى قريش، قسموا أنفسهم أقساماً لصرف الناس عن الإِيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: وقل - أيها الرسول الكريم - إنى أنا النذير المبين لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين ...
وقد فصل الإِمام الآلوسى القول عند تفسيره لهاتين الآيتين فقال ما ملخصه: قوله - تعالى - { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ ... } متعلق بقوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً ... } على أن يكون فى موضع نصب نعتا لمصدر من آتينا محذوف أى: آتيناك سبعا من المثانى إيتاء كما أنزلنا، وهو فى معنى: أنزلنا عليك ذلك إنزالاً كإنزالنا على أهل الكتاب { ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } أى قسموه إلى حق وباطل ..
وقيل: هو متعلق بقوله - تعالى -: { وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ } .. وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش ... أرسلهم الوليد بن المغيرة، أيام موسم الحج، ليقفوا على مداخل طرق مكة، لينفروا الناس عن الإِيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم فانقسموا على هاتيك المداخل، يقول بعضهم لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر ..
أى: وقل إنى أنا النذير عذابا مثل العذاب الذى أنزلناه على المقتسمين.
وقيل المراد بالمقتسمين، الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحاً - أى يقتلوه ليلاً - فأهلكهم الله ...
ثم قال -رحمه الله -: والأقرب من الأقوال المذكورة أن قوله { كما أنزلنا .. } متعلق بقوله - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً ... } وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين، وأن الموصول مع صلته، صفة مبينة لكيفية اقتسامهم ...
والمعنى: لقد آتيناك سبعاً من المثانى والقرآن العظيم، إيتاء مماثلاً لإِنزال الكتابين على أهلهما ....
ويبدو لنا أن من الأفضل أن يكون المراد بالمقتسمين، ما يشمل أهل الكتابين وغيرهم من المشركين المتحالفين على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم - كما قال ابن كثير - وقد ذهب إلى ذلك الإِمام ابن جرير، فقد قال -رحمه الله - بعد سرده للأقوال فى ذلك ما ملخصه: "والصواب من القول فى ذلك عندى أن يقال: إن الله - تعالى - أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلم قومه الذين عضوا القرآن ففرقوه، أنه نذير لهم من سخط الله وعقوبته، أن يحل بهم ما حل بالمقتسمين من قبلهم ومنهم" ...
وجائز أن يكون عنى بالمقتسمين: أهل الكتابين .. وجائز أن يكون عنى بذلك: المشركين من قريش، لأنهم اقتسموا القرآن، فسماه بعضهم شعرا، وسماه بعضهم كهانة ...
وجائز أن يكون عنى به الفريقين ... وممكن أن يكون عنى به المقتسمين على صالح من قومه. لأنه ليس فى التنزيل ولا فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فى فطرة العقل، ما يدل على أنه عنى به أحد الفرق الثلاثة دون الآخرين، وإذا فكل من اقتسم كتاباً لله بتكذيب بعض وتصديق بعض، كان داخلاً فى هذا التهديد والوعيد ... .
ثم أكد - سبحانه - هذا التهديد والوعيد فقال: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
والفاء هنا متفرعة على ما سبق تأكيده فى قوله { وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ... } إذ فى هذا اليوم يكون سؤالهم.
والواو للقسم، أى: فوحق ربك - أيها الرسول الكريم - الذى خلقك فسواك فعدلك، لنسألن هؤلاء المكذبين جميعاً، سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت، عما كانوا يعملونه فى الدنيا من أعمال قبيحة: وعما كانوا يقولونه من أقوال فاسدة، ثم لننزلن بهم جميعاً العقوبة المناسبة لهم.
فالمقصود من هذه الآية الكريمة زيادة التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيد التهديد للمشركين.
ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يمضى فى طريقه، وأن يجهر بدعوته وأن يعرض عن المشركين، فقد كفاه - سبحانه - شرهم فقال - تعالى -: { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }.
وقوله { فاصدع .. } من الصدع بمعنى الإِظهار والإعلان. ومنه قولهم: انصدع الصبح، إذا ظهر بعد ظلام الليل والصديع الفجر لانصداعه أى ظهوره. ويقال: صدع فلان بحجته، إذا تكلم بها جهاراً.
أى: فاجهر - أيها الرسول الكريم - بدعوتك، وبلغ ما أمرناك بتبليغه علانية، وأعرض عن سفاهات المشركين وسوء أدبهم.
قال عبد الله بن مسعود: ما زال النبى صلى الله عليه وسلم مستخفيا بدعوته حتى نزلت هذه الآية. فخرج هو وأصحابه، وقوله { إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ } تعليل للأمر بالجهر بالدعوة، بعد أن مكث صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الاسلام سراً ثلاث سنين أو أكثر.
وقوله { كفيناك .. } من الكفاية. تقول: كفيت فلاناً المؤنة إذا توليتها عنه، ولم تحوجه إليها. وتقول: كفيتك عدوك أى: كفيتك بأسه وشره.
والمراد بالمستهزئين: أكابر المشركين فى الكفر والعداوة والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
أى: إنا كفيناك الانتقام من المستهزئين بك وبدعوتك، وأرحناك منهم، بإهلاكهم. وذكر بعضهم أن المراد بهم خمسة من كبرائهم، وهم: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن عيطل، والعاص بن وائل: وقد أهلكهم الله جميعاً بمكة، وكان هلاكهم العجيب من أهم الصوارف لأتباعهم عن الاستهزاء بالنبى صلى الله عليه وسلم.
قال الإِمام الرازى: واعلم أن المفسرين قد اختلفوا فى عدد هؤلاء المستهزئين، وفى أسمائهم، وفى كيفية طريق استهزائهم، ولا حاجة إلى شئ منها.
والقدر المعلوم أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورياسة، لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على إظهار مثل هذه السفاهة، مع مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى علو قدره، وعظم منصبه، ودل القرآن على أن الله - تعالى - أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم.
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المستهزئين قد أضافوا إلى ذلك الشرك والكفر فقال: { ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ } فى عباداتهم وفى عقيدتهم.
{ فسوف يعلمون } ما يترتب على ذلك فى الآخرة من عذاب شديد لهم، بعد أن أهلكناهم فى الدنيا وقطعنا دابرهم.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بتسلية أخرى له صلى الله عليه وسلم، وبإرشاده إلى ما يزيل همه. ويشرح صدره، فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ }.
وضيق الصدر: كناية عن كدر النفس، وتعرضها للهموم والأحزان.
أى: ولقد نعلم - أيها الرسول الكريم - أن أقوال المشركين الباطلة فيك وفيما جئت به من عندنا، تحزن نفسك، وتكدر خاطرك.
وقال - سبحانه - { ولقد نعلم .. } بلام القسم وحرف التحقيق، لتأكيد الخبر، وإظهار مزيد من الاهتمام والعناية بالمخبر عنه صلى الله عليه وسلم فى الحال والاستقبال.
والفاء فى قوله { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ... } واقعة فى جواب شرط.
والتسبيح لله - تعالى - معناه: تنزيهه - عز وجل - عن كل ما لا يليق به.
والتحميد له - تعالى - معناه: الثناء عليه بما هو أهله من صفات الكمال والجلال.
أى: إن ضاق صدرك - أيها الرسول الكريم - بسبب أقوال المشركين القبيحة، فافزع إلينا بالتسبيح والتحميد، بأن تكثر من قول سبحان الله، والحمد لله.
قال بعض العلماء: فهذه الجملة الكريمة قد اشتملت على الثناء على الله بكل كمال؛ لأن الكمال يكون بأمرين:
أحدهما: التخلى عن الرذائل، والتنزه عما لا يليق، هذا معنى التسبيح.
والثانى: التحلى بالفضائل، والاتصاف بصفات الكمال، وهذا معنى الحمد.
فتم الثناء بكل كمال. ولأجل هذا المعنى ثبت فى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان فى الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ..." .
والمراد بالسجود فى قوله - تعالى - { وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ } الصلاة. وعبر عنها بذلك من باب التعبير بالجزء عن الكل، لأهمية هذا الجزء وفضله، ففى صحيح مسلم عن أبى هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء" .
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة، أن ترتيب الأمر بالتسبيح والتحميد والصلاة على ضيق الصدر؛ دليل على أن هذه العبادات، بسببها يزول المكروه بإذنه - تعالى -، وتنقشع الهموم ... ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة.
وروى الإِمام أحمد وأبو داود والنسائى من حديث نعيم بن عمار - رضى الله عنه - أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول:
" قال الله - تعالى -: يا بن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره" .
فينبغى للمسلم إذا أصابه مكروه أن يفزع إلى الله - تعالى - بأنواع الطاعات من صلاة وتسبيح وتحميد وغير ذلك من ألوان العبادات.
والمراد بالأمر بالعبادة فى قوله تعالى { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } المداومة عليها وعدم التقصير فيها.
والمراد باليقين: الموت، سمى بذلك لأنه أمر متيقن لحوقه بكل مخلوق.
أى: ودم - أيها الرسول الكريم - على عبادة ربك وطاعته ما دمت حيا، حتى يأتيك الموت الذى لا مفر من مجيئه فى الوقت الذى يريده الله - تعالى -.
ومما يدل على أن المراد باليقين هنا الموت قوله - تعالى - حكاية عن المجرمين:
{ { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ } أى: الموت.
ويدل على ذلك أيضاً ما رواه البخارى
"عن أم العلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات، قالت: قلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتى عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله قد أكرمه ... أما هو فقد جاءه اليقين - أى الموت - وإنى لأرجو له الخير" .
قال الإِمام ابن كثير: ويستدل بهذه الآية الكريمة، على أن العبادة كالصلاة ونحوها، واجبة على الإِنسان ما دام عقله ثابتاً، فيصلى بحسب حاله، كما ثبت فى صحيح البخارى عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب" .
ويستدل بها أيضاً على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة، سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل ...".