خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٤١
ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٤٢
-النحل

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أخرج ابن جرير عن قتادة قال: قوله - تعالى -: { وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ .. } هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم، حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله - تعالى - المدينة فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. وعن ابن عباس: هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، بعد أن ظلمهم المشركون،.
والذى نراه أن الآية الكريمة تشمل هؤلاء، وتشمل غيرهم ممن هاجر من بلده إلى غيرها، رجاء ثواب الله، وخدمة لدينه.
والمهاجرة فى الأصل تطلق على المفارقة والمتاركة للديار وغيرها، واستعملت شرعا فى المهاجرة من دار الكفر إلى دار الإِيمان، أو من دار الكفر إلى غيرها لنشر دعوة الإِسلام.
وقوله { لنبوئنهم } من التبوؤ بمعنى الإِحلال والإِسكان والإِنزال يقال بوأ فلان فلانا منزلا، إذا أسكنه فيه، وهيأه له.
{ وحسنة } صفة لموصوف محذوف أى: لنبوئنهم تبوئة حسنة، أو دارا حسنة.
والمراد بهذه الحسنة ما يشمل نزولهم فى المدينة، ونصرهم على أعدائهم، وإبدال خوفهم أمنا.
قال القرطبى فى المراد بالحسنة هنا ستة أقوال: "نزول المدينة؛ قاله ابن عباس والحسن .. الثانى: الرزق الحسن. قاله مجاهد. الثالث: النصر على عدوهم، قاله الضحاك، الرابع: لسان صدق، حكاه ابن جريج. الخامس: ما استولوا عليه من البلاد .. السادس: ما بقى لهم فى الدنيا من ثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف.
ثم قال: وكل ذلك قد اجتمع لهم بفضل الله - تعالى -".
والمعنى: والذين هاجروا فى سبيل الله، وفارقوا قومهم وأوطانهم وأموالهم وأولادهم .. من أجل إعلاء كلمته، بعد أن تحملوا الكثير من أذى المشركين وظلمهم وطغيانهم.
هؤلاء الذين فعلوا ذلك من أجل نصرة ديننا، لنسكننهم فى الدنيا مساكن حسنة يرضونها، ولنعطينهم عطاء حسنا يسعدهم، ولننصرنهم على أعدائهم نصرا مؤزرا.
وقوله { فى الله } أى: فى سبيله، ومن أجل نصرة دينه. فحرف "فى" مستعمل للتعليل، كما فى قوله صلى الله عليه وسلم:
"دخلت امرأة النار فى هرة حبستها ..." .
والمقصود أن هذا الأجر الجزيل إنما هو للمهاجرين من أجل إعلاء كلمة الله، ومن أجل نصرة الحق، وليس لمن هاجر لنشر الظلم أو الفساد فى الأرض.
وأسند فعل { ظلموا } إلى المجهول، لظهور الفاعل من السياق وهو المشركون.
وفى ذلك إشارة إلى أن هؤلاء المهاجرين لم يفارقوا ديارهم، إلا بعد أن أصابهم ظلم أعدائهم لهم، كتعذيبهم إياهم، وتضييقهم عليهم، إلى غير ذلك من صنوف الأذى.
وأكد - سبحانه - الجزاء الحسن اذى وعدهم به باللام وبنون التوكيد { لنبوئنهم .. }، زيادة فى إدخال السرور والطمأنينة على قلوبهم، وجبرا لكل ما اشتملت عليه الهجرة من مصاعب وآلام وأضرار.
إذ الحسنة - كما قلنا - تشمل كل حسن أعطاه الله - تعالى - للمهاجرين فى هذه الدنيا.
أما فى الآخرة فأجرهم أعظم، وثوابهم أجزل، كما قال - تعالى -: { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }.
والضمير فى قوله { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعود على أعدائهم الظالمين.
أى: ولثواب الله - تعالى - لهم فى الآخرة على هجرتهم من أجل إعلاء كلمته، أكبر وأعظم، ولو كان أعداؤهم الظالمون يعلمون ذلك لدخلوا فى دين الإِسلام، ولأقلعوا عن ظلمهم لهؤلاء المهاجرين.
وكأن جملة { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جوابا عن سؤال تقديره: كيف لم يقتد بهم من بقى على الكفر مع هذا الثواب الذى أعده الله لهؤلاء المهاجرين؟
فكان الجواب: لو كان هؤلاء الكافرين يعلمون ذلك لأقلعوا عن كفرهم.
ويصح أن يكون الضمير يعود على المهاجرين، فيكون المعنى: لو كانوا يعلمون علم مشاهدة ومعاينة ما أعده الله لهم، لما حزنوا على مفارقة الأوطان والأولاد والأموال، ولازدادوا حبا وشوقا واجتهادا فى المهاجرة.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب، أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له "خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله فى الدنيا، وما ذخره لك فى الآخرة أفضل"، ثم تلا هذه الآية.
وجوز بعضهم أن يكون الضمير يعود للمتخلفين عن الهجرة أى: لو علم هؤلاء المتخلفون عن الهجرة، ما أعده - سبحانه - من أجر للمهاجرين، لما تخلفوا عن ذلك.
وعلى أية حال فلا مانع من أن يكون الضمير يعود على كل من يتأتى له العلم، بهذا الثواب الجزيل لهؤلاء المهاجرين فى سبيل الله - تعالى -.
ثم وصف - سبحانه - هؤلاء المهاجرين بوصفين كريمين فقال: { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أى: هذا الأجر العظيم لهؤلاء المهاجرين الذين صبروا على ما أصابهم من عدوان وظلم، وفوضوا أمرهم إلى خالقهم، فاعتمدوا عليه وحده، ولم يعتمدوا على أحد سواه.
وصفتا الصبر والتوكل على الله. إذا دخلا فى قلب، حملاه على اعتناق كل فضيلة، واجتناب كل رذيلة.
وعبر عن صفة الصبر بصيغة الماضى للدلالة على أن صبرهم قد آذن بالانتهاء لانقضاء أسبابه وهو ظلم أعدائهم لهم، لأن الله - تعالى - قد جعل لهم مخرجا بالهجرة، وذلك بشارة لهم.
وعبر عن صفة التوكل بصيغة المضارع للإِشارة إلى أن هذه الصفة ديدنهم فى كل وقت، فهم متوكلون عليه - سبحانه - وحده فى السراء والضراء، وفى العسر واليسر، وفى المنشط والمكره.
والمتأمل فى هاتين الآيتين الكريمتين، يراهما قد غرستا فى النفوس محبة هذا الدين، والاستهانة بكل ألم أو ضر أو مصيبة فى سبيل إعلاء كلمته، والرغبة فيما عند الله - تعالى - من أجر وثواب.
ثم رد - سبحانه - على المشركين الذين أنكروا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم من البشر، فبين - سبحانه - أن الرسل السابقين الذين لا ينكر المشركون نبوتهم كانوا من البشر، فقال - تعالى -: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ... }.