خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ
٤٣
بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
٤٤
-النحل

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام ابن كثير: عن ابن عباس - رضى الله عنهما -: لما بعث الله - تعالى - محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا، أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فأنزل الله: { { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ .. } وقال: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ .. }.
أى: وما أرسلنا من قبلك - أيها الرسول الكريم - لهداية الناس وإرشادهم إلى الحق إلا رجالا مثلك، وقد أوحينا إليهم بما يبلغونه إلى أقوامهم، من نصائح وتوجيهات وعبادات وتشريعات، وقد لقى هؤلاء الرسل من أقوامهم، مثل ما لقيت من قومك من أذى وتكذيب وتعنت فى الأسئلة.
فالمقصود من الآية الكريمة تسلية النبى صلى الله عليه وسلم والرد على المشركين فيما أثاروه حوله صلى الله عليه وسلم من شبهات.
وقد حكى القرآن فى مواطن عدة إنكار المشركين لبشرية الرسل ورد عليهم بما يخرسهم، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ .. } }. وقوله - تعالى -: { { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } }. وقوله - تعالى - { { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } }. والمراد بأهل الذكر فى قوله { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } علماء أهل الكتاب أى: لقد اقتضت حكمتنا أن يكون الرسول من البشر فى كل زمان ومكان، فإن كنتم فى شك من ذلك - أيها المكذبون - فاسألوا علماء أهل الكتب السابقة من اليهود والنصارى، فسيبينون لكم أن الرسل جميعا كانوا من البشر ولم يكونوا من الملائكة.
وهذه الجملة الكريمة معترضة بين قوله - تعالى - { وما أرسلنا .. } وبين قوله بعد ذلك: { بالبينات والزبر .. } للمبادرة إلى توبيخ المشركين وإبطال شبهتهم، لأنه قد احتج عليهم، بمن كانوا يذهبون إليهم لسؤالهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفى قوله - تعالى - { إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } إيماء إلى أنهم كانوا يعلمون أن الرسل لا يكونون إلا من البشر، ولكنهم قصدوا بإنكار ذلك الجحود والمكابرة، والتمويه لتضليل الجهلاء، ولذا جئ فى الشرط بحرف "إن" المفيد للشك.
وجواب الشرط لهذه الجملة محذوف، دل عليه ما قبله. أى: إن كنتم لا تعلمون، فأسألوا أهل الذكر. وقيل المراد بأهل الذكر هنا: المسلمون مطلقا، لأن الذكر هو القرآن، وأهله هم المسلمون.
ونحن لا ننكر أن الذكر يطلق على القرآن الكريم، كما فى قوله - تعالى -
{ { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } إلا أن المراد بأهل الذكر هنا: علماء أهل الكتاب، لأن المشركين كانوا يستفسرون منهم عن أحوال النبى صلى الله عليه وسلم، أكثر من استفسارهم من المسلمين.
قال الآلوسى ما ملخصه قوله - تعالى -: { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ .. } أى: أهل الكتاب من اليهود والنصارى. قاله: ابن عباس والحسن والسدى وغيرهم.
وقال أبو حيان فى البحر: "والمراد من لم يسلم من أهل الكتاب، لأنهم الذين لا يتهمون عند المشركين فى إخبارهم بأن الرسل كانوا رجالا، فإخبارهم بذلك حجة عليهم. والمراد كسر حجتهم وإلزامهم، وإلا فالحق واضح فى نفسه لا يحتاج إلى إخبار هؤلاء ..".
قالوا: وفى الآية دليل على وجوب الرجوع إلى أهل العلم فيما لا يعلم، وعلى أن الرسل جميعا كانوا من الرجال ولم يكن من بينهم امرأة قط.
والجار والمجرور فى قوله: { بالبينات والزبر } .... متعلق بقوله { وما أرسلنا .. } وداخل تحت حكم الاستثناء مع { رجالا }.
والمراد بالبينات: الحجج والمعجزات الدالة على صدق الرسل.
والزبر: جمع زبور بمعنى مزبور أى مكتوب. يقال: زبرت الكتاب .. من باب نصر وضرب - أى: كتبته كتابة عظيمة.
أى: وما أرسلنا من قبلك - أيها الرسول الكريم - إلا رجال مؤيدين بالمعجزات الواضحات، وبالكتب العظيمة المشتملة على التشريعات الحكيمة والآداب الحميدة، والعقائد السليمة، التى تسعد الناس فى دينهم وفى دنياهم.
وقوله - سبحانه -: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }. بيان للحكم التى من أجلها أنزل الله - تعالى - القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم.
أى: وأنزلنا إليك - أيها الرسول الكريم - القرآن، لتعرف الناس بحقائق وأسرار ما أنزل لهدايتهم فى هذا القرآن من تشريعات وآداب وأحكام ومواعظ ولعلهم بهذا التعريف والتبيين يتفكرون فيما أرشدتهم إليه، ويعملون بهديك ويقتدون بك فى أقوالك وأفعالك، وبذلك يفوزون ويسعدون.
فأنت ترى أن الجملة الكريمة قد اشتملت على حكمتين من الحكم التى أنزل الله - تعالى - من أجلها القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم.
أما الحكمة الأولى: فهى تفسير ما اشتمل عليه هذا القرآن من آيات خفى معناها على أتباعه، بأن يوضح لهم صلى الله عليه وسلم ما أجمله القرآن الكريم من أحكام أو يؤكد لهم صلى الله عليه وسلم هذه الأحكام.
ففى الحديث الشريف عن المقدام بن معد يكرب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"ألا وإنى أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ..." .
وأما الحكمة الثانية: فهى التفكر فى آيات هذا القرآن، والاتعاظ بها، والعمل بمقتضاها، قال - تعالى -: { { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } }. والمراد بالناس فى قوله - تعالى - { لتبين للناس } العموم، ويدخل فيهم المعاصرون لنزول القرآن الكريم دخولا أوليا.
وأسند - سبحانه - التبيين إلى النبى صلى الله عليه وسلم لأنه هو المبلغ عن الله - تعالى - ما أمره بتبليغه.
قال الجمل: "قوله - تعالى - { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ .. }.
يعنى: أنزلنا إليك - يا محمد - الذكر الذى هو القرآن، وإنما سماه ذكرا، لأن فيه مواعظ وتنبيها للغافلين، { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } يعنى ما أجمل إليك من أحكام القرآن، وبيان الكتاب يطلب من السنة، والمبين لذلك المجمل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال بعضهم: متى وقع تعارض بين القرآن والحديث، وجب تقديم الحديث، لأن القرآن مجمل والحديث مبين، بدلالة هذه الآية، والمبين مقدم على المجمل".
وبعد أن ردت السورة الكريمة على ما أثاره المشركون من شبهات حول الدعوة الإِسلامية، أتبعت ذلك بتهديدهم من سوء عاقبة ما هم فيه من كفر وعصيان وعناد، فقال - تعالى -: { أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ... }.