خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ
٧٣
فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٧٤
ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٧٥
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٧٦
-النحل

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد بقوله سبحانه: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ..... } كل معبود سوى الله - تعالى - من صنم أو وثن أو غير ذلك من المعبودات الباطلة.
والجملة الكريمة داخلة تحت مضمون الاستفهام الانكارى، ومعطوفة عليه: وهو قوله - تعالى -:
{ { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } }. أى أن هؤلاء الجاحدين لنعم الله - تعالى -، بلغ من جهالتهم وسفاهاتهم أنهم يؤمنون بالباطل، ويكفرون بالحق، ويعبدون من دون الله - تعالى - أصناما وأوثانا لا تملك لعابدها أى شئ من الرزق فهى لا تنزل مطرا من السماء ولا تخرج نباتا من الأرض، ولا تستطيع أن تنفع أو تضر ..
و"ما" فى قوله - تعالى - { مَا لاَ يَمْلِكُ .. } كناية عن معبوداتهم الباطلة فهى مفردة لفظا، مجموعة معنى.
والتنكير فى قوله - سبحانه - { رزقا } للاشعار بقلته وتفاهته، وأن معبوداتهم لا تملك لهم أى شئ من الرزق، حتى ولو كان تافها حقيرا.
وقوله: { شيئا } منصوب على المصدر، أى: ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم ملكا، أى: شيئا من الملك.
والضمير فى قوله { ولا يستطيعون } يعود إلى { ما } وجمع بصيغة العقلاء بناء على زعمهم الفاسد، من أن هذه الأصنام فى إمكانها النفع والضر.
وجاءت جملة { ولا يستطيعون } بعد قوله - تعالى - { مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ .. } لتأكيد عجز هذه المعبودات عن فعل أى شئ فهى لا تملك شيئا، وليس فى استطاعتها أن تملك لأنها ليست أهلا لذلك.
وقوله - سبحانه - { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ .. } نهى منه - سبحانه - عن أن يشبه فى ذاته أو صفاته بغيره، وقد جاء هذا النهى فى صورة الالتفات من الغائب إلى المخاطب للاهتمام بشأن هذا النهى، والفاء لترتيب النهى على ما عدد من النعم التى وردت فى هذه السورة والتى لم ينته الحديث عنها بعد.
والأمثال: جمع مثل، وهو النظير والشبيه لغيره، ثم أطلق على القول السائر المعروف، لمماثلة مضربه - وهو الذى يضرب فيه -، لمورده - وهو الذى ورد فيه أولا.
وتضرب الأمثال: لتوضيح الشئ الغريب، وتقريب المعنى المعقول من المعنى المحسوس، وعرض ما هو غائب فى صورة ما هو مشاهد، فيكون المعنى الذى ضرب له المثل أوقع فى القلوب، وأثبت فى النفوس.
وقوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } تعليل لهذا النهى عن ضرب الأمثال لله - عز وجل -.
أى: فلا تتجاسروا، وتتطاولوا، وتضربوا لله - تعالى - الأمثال، كما يضرب بعضكم لبعض، فإن الله - تعالى - هو الذى يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك.
قال الزجاج: ورد أن المشركين كانوا يقولون: إن إله العالم أجل من أن يعبده الواحد منا، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك، فنهوا عن ذلك.
ثم وضح لهم - سبحانه - كيف تضرب الأمثال، فساق مثلين حكيمين يدلان على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ..
أما المثل الأول فيتجلى فى قوله - عز وجل -: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ .. }. أى: ذكر الله - تعالى - وبين ووضح لكم مثلا تستدلون به على وحدانيته - سبحانه - وهو أن هناك عبدا رقيقا مملوكا لغيره، وهذا العبد لا يقدر على شئ من التصرفات حتى ولو كانت قليلة.
وقوله - سبحانه -: { عبدا } بدل من { مثلا } و{ مملوكا } صفة للعبد. ووصف - سبحانه - العبد بأنه مملوك، ليحصل الامتياز بينه وبين الحر، لأن كليهما يشترك فى كونه عبدا لله - تعالى -.
ووصفه أيضا - بأنه لا يقدر على شئ للتمييز بينه وبين المكاتب والعبد المأذون له فى التصرف، لأنهما يقدران على بعض التصرفات.
هذا هو الجانب الأول من المثل، أما الجانب الثانى فيتجلى فى قوله - تعالى -: { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً ... }.
قال الآلوسى: و"من" فى قوله { ومن رزقناه } نكرة موصوفة، ليطابق عبدا فإنه نكرة موصوفة - أيضا -، وقيل: إنها موصولة، والأول اختيار الأكثرين أى: حرا رزقناه بطريق الملك، والالتفات إلى التكلم - فى { رزقناه } للإِشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق ...".
أى: ذكر الله - تعالى - لكم لتتعظوا وتتفكروا، حال رجلين: أحدهما عبد مملوك لا يقدر على شئ. والثانى حر مالك رزقه الله - تعالى - رزقا واسعا حلالا حسنا، { فهو } أى هذا الحر ينفق على غيره من هذا الرزق الحسن { سرا وجهرا } واختار - سبحانه - ضمير العظمة فى قوله { رزقناه } للإِشعار بكثره هذا الرزق وعظمته، ويزيده كثرة وعظمة قوله - تعالى - بعد ذلك { مِنَّا } أى؛ من عندنا وحدنا وليس من عند غيرنا.
ووصف - سبحانه - الرزق بالحسن، للإشارة إلى أنه مع كثرته فهو حلال طيب مستحسن فى الشرع وفى نظر الناس.
وقال - سبحانه - { فهو ينفق } بصيغة الجملة الاسمية، للدلالة على ثبوت هذا الإنفاق ودوامه.
وقوله { سرا وجهرا } منصوبان على المصدر، أى إنفاق سر وجهر، أو على الحالية، أى فهو ينفق منه فى حالتى السر والجهر.
والمراد أنه إنسان كريم، لا يبخل بشئ مما رزقه الله، بل ينفق منه فى عموم الأحوال، وعلى من تحسن معه النفقة سرا، وعلى من تحسن معه النفقة جهرا.
هذان هما الجانبان المتقابلان فى هذا المثل، والفرق بينهما واضح وعظيم عند كل ذى قلب سليم، ولذا جاء بعدهما بالاستفهام الإِنكارى التوبيخى فقال:
{ هل يستوون }؟ أى: هل يستوى فى عرفكم أو فى عرف أى عاقل، هذا العبد المملوك العاجز الذى لا يقدر على شئ .. مع هذا الإنسان الحر. المالك الذى رزقه الله - سبحانه - رزقا واسعا حلالا، فشكر الله عليه، واستعمله فى وجوه الخير.
إن مما لا شك فيه أنهما لا يستويان حتى فى نظر من عنده أدنى شئ من عقل.
وما دام الأمر كذلك، فكيف سويتم - أيها المشركون الجهلاء - فى العبادة، بين الخالق الرازق الذى يملك كل شئ، وبين غيره من المعبودات الباطلة التى لا تسمع ولا تبصر، ولا تعقل، ولا تملك شيئا.
وقال - سبحانه - { هل يستوون } مع أن المتقدم اثنان، لأن المراد جنس العبيد والأحرار، المدلول عليهما بقوله { عبدا } وبقوله { ومن رزقناه }.
فالمقصود بالمثل كل من اتصف بهذه الأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان.
وقوله: { الحمد لله } ثناء منه - سبحانه - على ذاته، حيث ساق - سبحانه - هذه الأمثال الواضحة للتمييز بين الحق والباطل.
أى: قل - أيها الانسان المؤمن العاقل - { الحمد } كله { لله } - تعالى - على إرشاده لعباده المؤمنين، وتعليمهم كيف يقذفون بحقهم على باطل أعدائهم فإذا هو زاهق.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أى: بل أكثر هؤلاء الكافرين الضالين، لا يعلمون كيف يميزون بين الحق والباطل لانطماس بصائرهم، واستيلاء الجحود والحسد والعناد على قلوبهم.
وقال - سبحانه - { بل أكثرهم .. } للإِشعار بأن من هؤلاء الكافرين من يعلم الحق ويعرفه كما يعرف أبناءه، ولكن الهوى والغرور والتقليد الباطل .. حال بينه وبين اتباع الحق.
هذا هو المثال الأول الذى ذكره الله - تعالى - للاستدلال على بطلان التسوية بين عبادة الله - تعالى - الخالق لكل شئ والمالك لكل شئ .. وبين عبادة غيره من الأصنام والجمادات التى لا تخلق شيئا، ولا تملك شيئا، ولا تضر ولا تنفع.
أما المثال الثانى فهو أشد وضوحا من سابقه على وحدانية الله - تعالى - ورحمته بعباده، وعلى الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر، ويتجلى هذا المثال فى قوله - عز وجل -: { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ .. }.
أى: وذكر الله - تعالى - مثلا آخر لرجلين، { أحدهما أبكم } أى: لا يستطيع النطق أو الكلام، ضعيف الفهم والتفهيم لغيره.
{ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ } أى: لا يقدر على فعل شئ من الأشياء المتعلقة بنفسه وبغيره.
{ وهو } أى هذا الرجل { كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ } أى: حمل ثقيل، وهم كبير على مولاه الذى يتولى شئونه من طعام وشراب وكساء وغير ذلك. وهذا بيان لعدم قدرته على القيام بمصالح نفسه، بعد بيان عدم قدرته على القيام بفعل أى شئ على الإِطلاق.
قال القرطبى: قوله { وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ } أى ثقل على وليه وقرابته، ووبال على صاحبه وابن عمه، وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله، ومنه قول الشاعر:

أكول لمال الكَلِّ قبل شبابه إذا كان عظم الكلِّ غير شديد

فالكل هو الإِنسان العاجز الضعيف الذى يكون محتاجا إلى من يرعى شئونه.
وقوله { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } أى: أن هذا الرجل حيثما يوجهه مولاه وكافله لقضاء أمر من الأمور يعود خائبا، لعجزه، وضعف حيلته، وقلة إدراكه ..
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هذا الرجل بأربع صفات، تدل على سوء فهمه، وقلة حيلته، وثقله على ولى أمره، وانسداد طرق الخير فى وجهه ..
هذا هو الجانب الأول من المثل، أما الجانب الثانى فيتجلى فى قوله - تعالى -: { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ .. }.
أى: { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ } أى هذا الرجل الأبكم العاجز .. مع رجل آخر { يأمر } غيره بالعدل "وهو" أى هذا الرجل الآخر فى نفسه { وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أى: على دين قويم، وخلق كريم فقد جمع بذلك بين فضيلتين جليلتين: نفعه لغيره، وصلاحه فى ذاته.
لا شك أن هذين الرجلين لا يستويان فى عقل أى عاقل، إذ أن أولهما أبكم عاجز خائب .. وثانيهما منطيق، ناصح لغيره، جامع لخصال الخير فى نفسه.
وما دام الامر كذلك فكيف سويتم - أيها المشركون الضالون المكذبون - فى العبادة بين الله - تعالى - وهو الخالق لكل شئ، وبين تلك الأصنام التى لا تسمع ولا تبصر ولا تغنى عن عابديها شيئا.
أو كيف سويتم بين المؤمن الجامع لكل مكرمة، وبين الكافر الغبى الأبله الذى آثر الغى على الرشد، فتكون الآية الكريمة مسوقة لبيان الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر.
وقد قابل - سبحانه - الأوصاف الأربعة للرجل الأول، بهذين الوصفين للرجل الثانى، لأن حاصل أوصاف الأول أنه غير مستحق لشئ، وحاصل وصفى الثانى أنه مستحق لكل فضل وخير.
وقوله { وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ ... } معطوف على الضمير المستتر فى قوله { هل يستوى ... }.
وجملة { وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فى محل نصب على الحال.
وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد ساقتا مثلين واضحين، لبيان الفرق الشاسع بين ذات الله - تعالى - الخلاق العليم، الرزاق الكريم .. وبين تلك المعبودات الباطلة التى أشركها الضالون فى العبادة مع الله - عز وجل -.
أو بين المؤمن الذى هو على بصيرة من أمره، وبين الكافر الذى استحب العمى على الهدى .. أو بين الحق فى وضوحه وجماله وجلاله، وبين الباطل فى ظلامه وقبحه وخسته.
هذا، وما ذكره بعضهم من أن المثلين فى الآيتين الكريمتين، قد وردا فى أشخاص معينين من المؤمنين أو الكافرين، لا يعول عليه، لضعف الروايات التى وردت فى ذلك، ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال الآلوسى ما ملخصه: "وما روى من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار، أو بالأبكم أبى بن خلف، والآمر بالعدل عثمان بن مظعون لا يصح إسناده..".
وبهذين المثلين تكون السورة الكريمة قد أقامت أعظم الأدلة وأسطعها على صحة قوله - تعالى - قبل ذلك:
{ { وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ ... } }. ثم ساقت السورة بعد ذلك ما يدل على إحاطة علمه - سبحانه - بكل شئ، وعلى شمول قدرته، وعلى سابغ نعمته، فقال - تعالى -: { وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.