خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٧٧
وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٧٨
أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأَيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٧٩
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ
٨٠
وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ
٨١
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٨٢
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ
٨٣
-النحل

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد بالغيب فى قوله - سبحانه - { وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ... } ما لا تدركه الحواس، ولا تحيط بكنهه العقول لأنه غائب عن مدارك الخلائق.
والكلام على حذف مضاف، والتقدير: لله - تعالى - وحده، علم جميع الأمور الغائبة عن مدارك المخلوقين، والتى لا سبيل لهم إلى معرفتها لا عن طريق الحس، ولا عن طريق العقل.
ومن كانت هذه صفته، كان مستحقا للعبادة والطاعة، لا تلك المعبودات الباطلة التى لا تعلم من أمرها أو من أمر غيرها شيئا.
وقوله - سبحانه -: { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } بيان لسرعة نفاذ أمره بدون مهلة.
والساعة فى الأصل: اسم لمقدار قليل من الزمان غير معين. والمراد بها هنا يوم القيامة وما يحدث فيه من أهوال.
وسمى يوم القيامة بالساعة: لوقوعه بغتة، أو لسرعة ما يقع فيه من حساب أو لأنه على طوله زمنه يسير عند الله - تعالى -.
واللمح: النظر الذى هو فى غاية السرعة. يقال لمحه لمحا ولمحانا إذا رآه بسرعة فائقة، ولمح البصر: التحرك السريع لطرف العين من جهة الى جهة، أو من أعلى إلى أسفل.
و"أو" هنا للتخيير بالنسبة لقدرة الله - تعالى - أو للإِضراب.
أى: ولله - سبحانه - وحده علم جميع ما غاب فى السماوات والأرض من أشياء، وما أمر قيام الساعة فى سرعته وسهولته، وما يترتب عليه من إماتة وإحياء، وحساب، وثواب وعقاب ... ما أمر ذلك كله إلا كتحرك طرف العين من جهة إلى جهة، أو هو - أى أمر قيامها - أقرب من ذلك وأسرع، بحيث يكون فى نصف هذا الزمان أو أقل من ذلك، لأن قدرته لا يعجزها شئ، قال - تعالى -: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }. والمقصود من هذه الجملة الكريمة: بيان سرعة تأثير قدرة الله - عز وجل - متى توجهت إلى شئ من الأشياء.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يؤكد شمول قدرته فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أى: إن الله - تعالى - لا يعجز قدرته شئ سواء أكان هذا الشئ يتعلق بأمر قيام الساعة فى أسرع من لمح البصر .. أم بغير ذلك من الأشياء.
ثم ساق - تعالى - بعد ذلك أنواعا من نعمه على عباده فقال: { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً }. أى: والله - تعالى - وحده هو الذى أخرجكم - أيها الناس - من بطون أمهاتكم إلى هذه الدنيا، وأنتم لا تعلمون شيئا لا من العلم الدنيوى ولا من العلم الدينى، ولا تعرفون ما يضركم أو ينفعكم، والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك:
{ { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً .. } }. وجملة { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } حال من الكاف فى { أخرجكم }.
وقوله - سبحانه - { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمة ثانية من نعمة الله - سبحانه - التى لا تحصى.
أى: أن من نعمة الله - تعالى - أنه أخرجكم من بطون أمهاتكم - بعد أن مكثتم فيها شهورا تحت كلاءته ورعايته - وأنتم لا تعرفون شيئا، وركب فيكم بقدرته النافذة، وحكمته البالغة، { السمع } الذى تسمعون به، والبصر الذى بواسطته تبصرون، { والأفئدة } التى عن طريقها تعقلون وتفقهون، لعلكم بسبب كل هذه النعم التى أنعمها عليكم، تشكرونه حق الشكر، بأن تخلصوا له العبادة والطاعة، وتستعملوا نعمه فى مواضعها التى وجدت من أجلها.
قال الجمل: وجملة: { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ ... } ابتدائية، أو معطوفة على ما قبلها، والواو لا تقتضى ترتيبا، فلا ينافى أن هذا الجعل قبل الإِخراج من البطون. ونكتة تأخيره - أى الجعل - أن السمع ونحوه من آلات الادراك، إنما يعتد به إذا أحس الإِنسان وأدرك وذلك لا يكون إلا بعد الإِخراج. وقدم السمع على البصر، لأنه طريق تلقى الوحى، أو لأن إدراكه أقدم، من إدراك البصر. وإفراده - أى السمع - باعتبار كونه مصدرا فى الأصل ....
وقال الإِمام ابن كثير: "وهذه القوى والحواس تحصل للإِنسان على التدريج قليلا قليلا حتى يبلغ أشده. وإنما جعل - تعالى - هذه الحواس فى الإِنسان ليتمكن بها من عبادة ربه، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه كما جاء فى صحيح البخارى عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول تعالى -
"من عادى لى وليا فقد بارزنى بالحرب. وما تقرب إلى عبدى بشئ أفضل مما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن دعانى لأجيبنه ولئن استعاذ بى لأعيذنه، وما ترددت فى شئ أنا فاعله ترددى فى قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولا بد له منه" .
فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة، صارت أفعاله كلها لله، فلا يسمع إلا لله، ولا يبصر إلا لله أى: لما شرعه الله له ...
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -
{ { قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } }. ثم حض - سبحانه - عباده على التفكر فى مظاهر قدرته فقال - تعالى -: { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ .. }.
والطير: جمع طائر كركب وراكب. و{ مسخرات } من التسخير بمعنى التذليل والانقياد أى: ألم ينظر هؤلاء الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى فى العبادة، إلى الطيور وهن يسبحن فى الهواء المتباعد بين الأرض والسماء، ما يمسكهن فى حال قبضهن وبسطهن لأجنحتهن إلا الله - تعالى -، بقدرته الباهرة، وبنواميسه التى أودعها فى فطرة الطير.
إنهم لو نظروا نظر تأمل وتعقل، لعلموا أن المسخر لهن هو الله الذى لا معبود بحق سواه وفى قوله - تعالى - { مسخرات } إشارة إلى أن طيرانها فى الجو ليس بمقتضى طبعها، وإنما هو بتسخير الله تعالى لها وبسبب ما أوجد لها من حواس ساعدتها على ذلك، كالأجنحة وغيرها. وأضاف - سبحانه - الجو إلى السماء لارتفاعه عن الأرض، ولإظهار كمال قدرته - سبحانه -.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.
أى: إن فى ذلك التسخير والتذليل للطير على هذه الصفة { لآيات } بينات على قدرة الله - تعالى - ووحدانيته، { لقوم يؤمنون } بالحق، ويفتحون قلوبهم له ويسمون بأنفسهم عن التقليد الباطل.
ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من النعم، منها ما يتعلق بنعمة المسكن فقال - تعالى -: { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ... }.
قال القرطبى: قوله - تعالى -: { جعل لكم } معناه صير، وكل ما علاك فأظلك فهو سقف وسماء، وكل ما أقلك فهو أرض، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت، وهذه الآية فيها تعديد نعم الله تعالى على الناس فى البيوت وقوله: { سكنا } أى: تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة ....
والحق أن نعمة السكن فى البيوت والاستقرار فيها، والشعور بداخلها بالأمان والاطمئنان، هذه النعمة لا يقدرها حق قدرها، إلا أولئك الذين فقدوها، وصاروا يعيشون بلا مأوى يأويهم، أو منزل يجمع شتاتهم.
والتعبير بقوله عز وجل { سكنا } فيه ما فيه من السمو بمكانة البيوت التى يسكنها الناس. فالبيت مكان السكينة النفسية، والراحة الجسدية، هكذا يريده الإِسلام، ولا يريده مكانا للشقاق والخصام، لأن الشقاق والخصام ينافى كونه { سكنا }.
والبيت له حرمته التى جعل الإسلام من مظاهرها، عدم اقتحامه بدون استئذان، وعدم التطلع إلى ما بداخله، وعدم التجسس على من بداخله.
وصيانة حرمة البيت - كما أمر الاسلام - تجعله { سكنا } آمنا، يجد فيه أصحابه كل ما يريدون من الراحة النفسية والشعورية.
وقوله - تعالى -: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } بيان لنعمة أخرى تتمثل فى البيوت الخفيفة المتنقلة، بعد الحديث عن البيوت الثابتة المستقرة.
والأنعام: جمع نعم. وتشمل الإِبل والبقر والغنم، ويدخل فى الغنم المعز.
والظعن بسكون العين وفتحها: التحول والانتقال والرحيل من مكان إلى آخر طلبا للكلأ، أو لمساقط الغيث، أو لغير ذلك من الأغراض.
أى: ومن نعمه أيضا أنه أوجد لكم من جلود الأنعام بيوتا { تستخفونها } أى: تجدونها خفيفة { يوم ظعنكم } أى: يوم سفركم ورحيلكم من موضع إلى آخر { ويوم إقامتكم } فى مكان معين بحيث يمكنكم أن تنصبوها لترتاحوا بداخلها، بأيسر السبل، وذلك كالقباب والخيام والأخبية، وغير ذلك من البيوت التى يخف حملها.
ثم ختم - سبحانه - الآية بإبراز نعمة ثالثة، تتمثل فيما يأخذونه من الأنعام فقال - تعالى -: { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ }.
والأثاث: متاع البيت الكثير، وأصله من أث الشئ - بفتح الهمزة وتشديد الثاء مع الفتح - إذا كثر وتكاتف، ومنه قول الشاعر.

وفرع يزين المتن أسودَ فاحمٍ أثيثٍ كقنو النخلة المتعثكل

ويشمل جميع أصناف المال كالفرش وغيرها.
والمتاع: ما يتمتع به من حوائح البيت الخاصة كأدوات الطعام والشراب، فيكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام.
وقيل: هما بمعنى واحد. والعطف لتنزيل تغاير اللفظ بمنزله تغاير المعنى.
أى: ومن أصواف الغنم، وأوبار الإِبل، وأشعار المعز، تتخذون لأنفسكم { أثاثا } كثيرا تستعملونه فى مصالحكم المتنوعة، كما تتخذون من ذلك ما تتمتعون به فى بيوتكم وفى معاشكم { إلى حين } أى: إلى وقت معين قدره الله - تعالى - لكم فى تمتعكم بهذه الأصواف والأوبار والأشعار.
وبعد الحديث عن نعمة البيوت والأنعام جاء الحديث عن نعمة الظلال والجبال واللباس، فقال - تعالى -: { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً ... }.
والظلال: جمع ظل، وهو ما يستظل به الإِنسان.
أى: والله - تعالى - بفضله وكرمه جعل لكم ما تستظلون به من شدة الحر والبرد، كالأبنية والأشجار، وغير ذلك من الأشياء التى تستظلون بها.
وقوله - تعالى - { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَاناً ... } نعمة ثانية.
والأكنان جمع كِن - بكسر الكاف - وأصله السُّتْرَةُ، والجمع: أكنان وأَكِنَّة، ومنه قوله - تعالى -:
{ { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ... } أى فى أستار وأغطية فلا يصل إليها قولك ...
والمراد بالأكنان هنا: المغارات والأسراب والكهوف المنحوتة فى بطون الجبال.
أى: وجعل لكم - سبحانه - من الجبال مواضع تستترون فيها من الحر أو البرد أو المطر، أو غير ذلك من وجوه انتفاعكم بتلك الأكنان.
وقوله - سبحانه - { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } نعمة ثالثة. والسرابيل: جمع سربال وهى كل ما يتسربل به: أى يلبسه الناس للتستر والوقاية كالقمصان والثياب والدروع وغيرها. أى: وجعل لكم من فضله وكرمه ملابس تتقون بها ضرر الحر وضرر البرد، وملابس أخرى هى الدروع وما يشبهها - تتقون بها الضربات والطعنات التى تسدد إليكم فى حالة الحرب.
وقال - سبحانه - { تقيكم الحر } مع أنها تقى من الحر والبرد، اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر، أو اكتفى بذكر الحر لأنه الأهم عندهم، إذ من المعروف أن بلاد العرب يغلب عليها الحر لا البرد.
قال صاحب الكشاف: لم يذكر البرد، لأن الوقاية من الحر أهم عندهم، وقلما يهمهم البرد لكونه يسيرا محتملا، وقيل: ما يقى من الحر يقى من البرد، فدل ذكر الحر على البرد.
وقال القرطبى: قال العلماء: فى قوله - تعالى -: { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } دليل على اتخاذ الناس عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الأعداء. وقد لبسها النبى صلى الله عليه وسلم فى حروبه ...
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } أى: كذلك الإِتمام السابغ للنعم التى أنعم بها - سبحانه - على عباده يتم نعمته عليكم المتمثلة فى نعم الدين والدنيا، لعلكم بذلك تسلمون وجوهكم لله - عز وجل -، وتدخلون فى دين الإِسلام عن اختيار واقتناع، فإن من شاهد كل هذه النعم، لم يسعه إلا الدخول فى الدين الحق.
ثم سلى الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه فقال: { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ }.
وجواب الشرط محذوف، والتقدير: فإن استمر هؤلاء المشركون فى إعراضهم عن دعوتك بعد هذا البيان والامتنان، فلا لوم عليك، فأنت عليك البلاغ الواضح ونحن علينا محاسبتهم، ومعاقبتهم بما يستحقون من عقاب.
وقوله - سبحانه -: { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَافِرُونَ } استئناف مسوق لبيان الموقف الجحودى الذى وقفه المشركون من نعم الله - تعالى -.
والمراد بالكفر فى قوله - تعالى -: { وأكثرهم الكافرون } الستر لنعم الله عن معرفة لها، وغمطها عن تعمد وإصرار.
أى: إن هؤلاء المشركين، يعرفون نعم الله التى عددها فى هذه السورة، كما أنهم يعترفون بأن خالقهم وخالق السماوات والأرض هو الله، ولكنهم ينكرون هذه النعم بأفعالهم القبيحة، وأقوالهم الباطلة، كقولهم هذه النعم من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا الأصنام، أو كقولهم: هذه النعم ورثناها عن آبائنا.
وجاء التعبير بثم لاستبعاد الإِنكار بعد المعرفة بالنعم، فإن من شأن العالم بالنعمة أن يؤدى الشكر لمسديها، وأن يستعملها فيما خلقت له.
وقوله { وأكثرهم الكافرون } أى: وأكثر هؤلاء الضالين. جاحدون لنعم الله عن علم بها لا عن جهل، وعن تذكر لا عن نسيان.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً .. } }. قال صاحب فتح البيان: وعبر هنا بالأكثر فى قوله - تعالى -: { وأكثرهم الكافرون } والمراد الكل، لأنه قد يذكر الأكثر ويراد به الجميع، أو أراد بالاكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم، أو أراد كفر الجحود، ولم يكن كفر كلهم كذلك، بل كان كفر أقلهم عن جهل، وكفر أكثرهم بسبب تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم عنادا أو حسدا ...
وبذلك ترى الآيات الكريمة قد ساقت لنا ألوانا من نعم الله - تعالى - على عباده، وأدلة متعددة على وحدانيته وقدرته، وجانبا من موقف الكافرين من هذه النعم.
ثم تحدثت السورة الكريمة بعد ذلك عن حال الظالمين يوم القيامة وعن الأقوال التى يقولونها عندما يرون أصنامهم فى هذا اليوم العصيب ..
قال تعالى: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ }.