خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالُوۤاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً
٤٩
قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً
٥٠
أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً
٥١
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً
٥٢
-الإسراء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى: اعلم أنه تعالى لما تكلم أولا فى الإِلهيات، ثم أتبعه بذكر شبهاتهم فى النبوات، ذكر فى هذه الآيات شبهات القوم فى إنكار المعاد والبعث والقيامة ...
والرفات: ما تكسر وبَلِىَ من كل شئ كالفتات. يقال: رفت فلان الشئ يرفته - بكسر الفاء وضمها -، إذا كسره وجعله يشبه التراب.
والاستفهام فى قوله - تعالى -: { أئذا كنا ... } وفى قوله { أئنا لمبعوثون .. } للاستبعاد والإِنكار.
أى: وقال الكافرون المنكرون لوحدانية الله - تعالى -، ولنبوة النبى صلى الله عليه وسلم، وللبعث والحساب، قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم على سبيل الإِنكار والاستبعاد، أئذا كنا يا محمد، عظاما بالية، ورفاتا يشبه التراب فى تفتته ودقته، أئنا لمعادون إلى الحياة مرة أخرى، بحيث تعود إلينا أرواحنا، وتدب الحياة فينا ثانية، ونبعث على هيئة خلق جديد، غير الذى كنا عليه فى الدنيا؟.
وقولهم هذا، يدل على جهلهم المطبق، بقدرة الله - تعالى - التى لا يعجزها شئ، وكرر - سبحانه - الاستفهام فى الآية الكريمة، للإِشعار بإيغالهم فى الجحود والإِنكار.
والعامل فى { إذا } محذوف، والتقدير: أنبعث أو أنحشر إذا كنا عظاما ورفاتا، وقد دل على هذا المحذوف قوله - تعالى -: { أئنا لمبعوثون }.
وقوله - سبحانه -: { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } أمر من الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم فيما استبعدوه وأنكروه من إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم.
أى: قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل الرد على استبعادهم، والتحقير من شأنهم، والتعجيز لهم: { كونوا } - إن استطعتم - { حجارة } كالتى تعبدونها من دون الله، { أو حديدا } كالذى تستعملونه فى شئون حياتكم، { أو } كونوا { خلقا } أى: مخلوقا سوى الحجارة والحديد { مما يكبر } أى: يعظم ويستبعد - { فى صدوركم } المظلمة - قبوله للحياة، قل لهم: كونوا أى شئ من ذلك أو غيره إن استطعتم، فإن الله - تعالى - لا يعجزه أن يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى، لكى يحاسبكم على أعمالكم، ويجازيكم عليها بما تستحقون من عقاب.
فالمقصود من الجملة الكريمة، بيان أن قدرة الله - تعالى - لا يعجزها شئ ..
قال الجمل: أجابهم الله - تعالى - بما معناه: تحولوا بعد الموت إلى أى صفة تزعمون أنها أشد منافاة للحياة، وأبعد عن قبولها، كصفة الحجرية والحديدية ونحوهما. فليس المراد الأمر، بل المراد أنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله - تعالى - عن الإِعادة.
وقوله - تعالى -: { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا } أى: فسيقولون لك - أيها الرسول الكريم - من يعيدنا إلى الحياة مرة أخرى بعد أن نكون حجارة أو حديدا أو غيرهما؟.
وقوله - سبحانه -: { قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } رد على جهالاتهم وإنكارهم للبعث والحساب.
أى: قل لهم: الله - تعالى - الذى فطركم وخلقكم، أول مرة، على غير مثال سابق، قادر على أن يعيدكم الى الحياة مرة أخرى. كما قال - تعالى -:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } }. ثم بين - سبحانه - ما يكون منهم من استهزاء وسوء أدب عندما يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الإِجابات السديدة، فقال: { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ... }.
أى: فسيحركون إليك رءوسهم عندما يسمعون ردك عليهم، ويقولون على سبيل الاستهزاء والسخرية والتكذيب: متى هو؟ أى ما ذكرته من الإِعادة بعد الموت، أو متى هو ذلك اليوم الذى سنعود فيه إلى الحياة بعد أن نصير عظاما ورفاتا.
فالجملة الكريمة تصور تصويرا بليغا ما جبلوا عليه من تكذيب بيوم القيامة ومن استهزاء بمن يذكرهم بأحوال ذلك اليوم العصيب. ومن استبعاد لحصوله كما قال - تعالى -: حكاية عنهم فى آية أخرى:
{ { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } }. وقوله - تعالى -: { قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً } تذييل قصد به التهديد والوعيد لهم.
أى: قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل التأنيب والوعيد: عسى هذا اليوم الذى تستبعدون حصوله، يكون قريبا جدا وقوعه.
ولا شك فى أنه قريب، لأن عسى فى كلام الله - تعالى - لما هو محقق الوقوع، وكل ما هو محقق الوقوع فهو قريب، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
"بعثت أنا والساعة كهاتين" - وأشار بالسبابة والوسطى.
ثم بين - سبحانه - أحوالهم عندما يُدْعَوْن فى هذا اليوم الهائل الشديد فقال: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ... }.
والظرف { يوم } منصوب بفعل مضمر أى: اذكروا يوم يدعوكم .. ويجوز أن يكون منصوبا على البدلية من { قريبا }.
والداعى لهم هو "إسرافيل" - عليه السلام - عندما يأذن الله - تعالى - له بالنفخ فى الصور، كما قال - تعالى -:
{ { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } }. وكما قال - سبحانه -: { { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } }. وقوله { بحمده } حال من ضمير المخاطبين وهم الكفار، والباء للملابسة.
أى: اذكروا - أيها المكذبون - يوم يدعوكم الداعى إلى البعث والنشور فتلبون نداءه بسرعة وانقياد، حال كونكم حامدين الله - تعالى - على كمال قدرته، وناسين ما كنتم تزعمون فى الدنيا من أنه لا بعث ولا حساب.
قال صاحب الكشاف: وقوله { بحمده } حال منهم. أى: حامدين، وهى مبالغة فى انقيادهم للبعث، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويتمنع، ستركبه وأنت حامد شاكر، يعنى: أنك تحمل عليه وتقسر قسرا. حتى أنك تلين لين المسمح - أى الذليل - الراغب فيه، الحامد عليه.
وعن سعيد بن جبير: ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك.
وقوله: { فتستجيبون } بمعنى تجيبون، إلا أن الاستجابة تقتضى طلب الموافقة، فهى أوكد من الإِجابة، وأسرع فى التلبية.
وجملة { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } حالية، أى: والحال أنك تظنون عند بعثكم أنكم ما لبثتم فى الدنيا أو فى قبوركم إلا زمنا قليلا.
قال قتادة: إن الدنيا تحقرت فى أعينهم وقلّت، حين رأوا يوم القيامة، لهول ما يرون فقالوا هذه المقالة.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { .. قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ ٱلْعَآدِّينَ } }. وقوله - تعالى -: { { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ } }. وقوله - تعالى -: { { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } }. ثم ترك القرآن الكريم أولئك الذين كفروا بالبعث والنشور فى طغيانهم يعمهون، ووجه خطابه إلى المؤمنين، آمرا إياهم بأن يقولوا الكلمة الطيبة، ومبينا لهم ولغيرهم، أن مصائرهم بيد الله - تعالى - وحده، فقال - تعالى -: { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً }.