خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً
٨٢
وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَئُوساً
٨٣
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً
٨٤
-الإسراء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الفخر الرازى -رحمه الله -: اعلم أنه - تعالى - لما أطنب فى شرح الإِلهيات والنبوات، والحشر والمعاد والبعث، وإثبات القضاء والقدر، ثم أتبعه بالأمر بالصلاة، ونبه على ما فيها من الأسرار، وإنما ذكر كل ذلك فى القرآن، أتبعه ببيان كون القرآن شفاء ورحمة. فقال - تعالى -: { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ .. }.
ثم قال: ولفظة { من } ها هنا ليست للتبعيض، بل هى للجنس كقوله:
{ { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } }. والمعنى: وننزل من هذا الجنس الذى هو قرآن ما هو شفاء، فجميع القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
ومما لا شك فيه، أن قراءة القرآن، والعمل بأحكامه وآدابه وتوجيهاته .. شفاء للنفوس من الوسوسة، والقلق، والحيرة، والنفاق، والرذائل المختلفة، ورحمة للمؤمنين من العذاب الذى يحزنهم ويشقيهم.
إنه شفاء ورحمة لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإِيمان، فأشرقت بنور ربها، وتفتحت لتلقى ما فى القرآن من هدايات وإرشادات.
إنه شفاء للنفوس من الأمراض القلبية كالحسد والطمع والانحراف عن طريق الحق، وشفاء لها من الأمراض الجسمانية.
قال القرطبى عند تفسيره لهذه الآية: اختلف العلماء فى كونه - أى القرآن - شفاء على قولين:
أحدهما: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل.
الثانى: أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه، وقد روى الأئمة - واللفظ للدار قطنى -
" عن أبى سعيد الخُدرى قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سرية ثلاثين راكباً. قال: فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا. قال: فلدغ سيد الحى، فأتونا فقالوا: أفيكم أحد يَرْقى من العقرب؟ قال: قلت: أنا نعم، ولكن لا أفعل حتى تعطونا فقالوا: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة. قال: فقرأت عليه { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } سبع مرات فبرئ. فبعثوا إلينا بالنُّزل وبعثوا إلينا بالشاء. فأكلنا الطعام أنا وأصحابى، وأبوا أن يأكلوا من الغنم، حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر، فقال ما يدريك أنها رقية؟ قلت: يا رسول الله، شئ ألقى فى روعى. قال: كلوا وأطعمونا من الغنم" .
والذى تطمئن إليه النفس أن قراءة القرآن الكريم، والعمل بما فيه من هدايات وإرشادات وتشريعات .. كل ذلك يؤدى - بإذن الله تعالى - إلى الشفاء من أمراض القلوب ومن أمراض الأجسام.
قال بعض العلماء: "وقوله - تعالى - فى هذه الآية { مَا هُوَ شِفَآءٌ } يشمل كونه شفاء للقلب من أمراضه، كالشك والنفاق وغير ذلك. وكونه شفاء للأجسام إذا رقى عليه به، كما تدل له قصة الذى رقى الرجل اللديغ بالفاتحة، وهى صحيحة مشهورة".
وبعد أن بين - سبحانه - أثر القرآن بالنسبة للمؤمنين، أتبع ذلك ببيان أثره بالنسبة للظالمين، فقال: { وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }.
أى: ولا يزيد ما ننزله من قرآن الظالمين إلا خسارا وهلاكاً، بسبب عنادهم وجحودهم للحق بعد إذ تبين.
قال الآلوسى: وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن. مع أنهم المزدادون فى ذلك لسوء صنيعهم، باعتباره سببا لذلك، وفيه تعجيب من أمره من حيث كونه مداراً للشفاء والشقاء.

كماء صار فى الأصداف درا وفى ثغر الأفاعى صار سما

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -: { { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } }. وقوله - تعالى - { { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } }. ثم صور - سبحانه - حال الإِنسان عند اليسر والعسر، وعند الرخاء والشدة فقال - تعالى -: { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَئُوساً }.
أى: { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ } بنعمة الصحة والغنى وما يشبههما مما يسره ويبهجه { أعرض } عن طاعتنا وشكرنا { ونأى بجانبه } أى: وابتعد عنا، وولانا ظهره والنأى: البعد، يقال: مكان ناء، أى بعيد، ونأى فلان عن الشئ نأيا: إذا ابتعد عنه.
وقوله - تعالى -: { نأى بجانبه } تأكيد للإِعراض، لأن الإِعراض عن الشئ أن يوليه عرض وجهه، والنأى بالجانب: أن يلوى عنه عطفه، ويوليه ظهره، ويظهر الاستكبار والغرور. وقوله - تعالى -: { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَئُوساً } أى: وإذا مس الشر هذا الإِنسان من فقر أو مرض، كان يئوسا وقنوطاً منرحمه الله - تعالى -.
فهو فى حالة الصحة والغنى يبطر ويتكبر ويطغى. وفى حالة الفقر والمرض ييئس ويقنط ويستولى عليه الحزن والهم.
والمراد بالإِنسان هنا جنسه، إذ ليس جميع الناس على هذه الحالة، وإنما منهم المؤمنون الصادقون الذين يشكرون الله - تعالى - على نعمه، ويذكرونه ويطيعونه فى السراء والضراء.
قال - تعالى -:
{ { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } }. فأنت ترى أن الله - تعالى - قد استثنى الذين صبروا وعملوا الصالحات، من رذيلة الجحود عند اليسر، واليأس عند العسر.
قال الآلوسى ما ملخصه: والمراد بالإِنسان فى قوله - تعالى - { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ... } جنسه، إذ يكفى فى صحة الحكم وجوده فى بعض الأفراد، ولا يضر وجود نقيض فى البعض الآخر، وقيل: المراد به الوليد بن المغيرة".
وفى إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الإِنعام إلى ضميره - تعالى - إيذان بأن الخير مراد بالذات، والشر ليس كذلك لأن ذلك هو الذى يقتضيه الكرم المطلق، والرحمة الواسعة، وإلى ذلك الإِشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:
"اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك" .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -: { { لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } }. وقوله - سبحانه -: { { وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } }. ثم بين - سبحانه - أنه لا يخفى عليه شئ من أحوال الناس وأعمالهم فقال: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً }.
والتنوين فى قوله { كل } عوض عن المضاف إليه. أى: كل فرد.
وقوله: { شاكلته }: أى: طريقته ومذهبه الذى يشاكل ويناسب حاله فى الهداية أو الضلالة. مأخوذ من قولهم: طريق ذو شواكل، وهى الطرق التى تتشعب منه وتتشابه معه فى الشكل، فسميت عادة المرء بها، لأنها تشاكل حاله.
قال القرطبى قوله { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } قال ابن عباس: على ناحيته. وقال مجاهد: على طبيعته.
وقال قتادة: على نيته وقال ابن زيد: على دينه. وقال الفراء: على طريقته ومذهبه الذى جبل عليه ..
وقيل: هو مأخوذ من الشكل. يقال: لست على شكلى ولا شاكلتى. فالشكل: هو المثل والنظير، كقوله - تعالى -:
{ { وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } }. والشكل - بكسر الشين - الهيئة. يقال: جارية حسنة الشكل. أى الهيئة. وهذه الأقوال كلها متقاربة.
والمعنى: قل - أيها الرسول الكريم - للناس: كل واحد منكم - أيها الناس - يعمل على شاكلته وطريقته التى تشاكل حاله، وتناسب اتجاهه، وتتلاءم مع سلوكه وعقيدته، فربكم الذى خلقكم وتعهدكم بالرعاية، أعلم بمن هو أهدى سبيلا، وأقوم طريقاً، وسيجازى - سبحانه - الذين أساءوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
فالآية الكريمة تبشر أصحاب النفوس الطاهرة والأعمال الصالحة، بالعاقبة الحميدة، وتهدد المنحرفين عن طريق الحق، المتبعين لخطوات الشيطان، بسوء المصير، لأن الله - تعالى - لا تخفى عليه خافية، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه
{ { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } }. ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك جانباً من الأسئلة التى كانت توجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، كما ذكر الإِجابة عليها لكى يجابه النبى صلى الله عليه وسلم بها السائلين، فقال - تعالى -: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }.