خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً
٩٧
ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً
٩٨
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَىٰ ٱلظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً
٩٩
قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ وَكَانَ ٱلإنْسَانُ قَتُوراً
١٠٠
-الإسراء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ } كلام مستأنف منه - تعالى - لبيان نفاذ قدرته ومشيئته.
أى: ومن يهده الله - تعالى - إلى طريق الحق، فهو الفائز بالسعادة، المهدى إلى كل مطلوب حسن، { ومن يضلل } أى: ومن يرد الله - تعالى - إضلاله { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ } أيها الرسول الكريم { أولياء } أى: نصراء ينصرونهم ويهدونهم إلى طريق الحق { من دونه } عز وجل، إذ أن الله - تعالى - وحده هو الخالق للهداية والضلالة، على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته.
وجاء قوله - تعالى - { فهو المهتد } بصيغة الإِفراد حملا على لفظ { من } فى قوله { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ } وجاء قوله: { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ } بصيغة الجمع حملا على معناها فى قوله: { ومن يضلل }.
قالوا: ووجه المناسبة فى ذلك - والله أعلم - أنه لما كان الهدى شيئاً واحداً غير متشعب السبل، ناسبه الإِفراد، ولما كان الضلال له طرق متشعبة، كما فى قوله - تعالى -:
{ { وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } ناسبه الجمع.
ثم بين - سبحانه - الصورة الشنيعة التى يحشر عليها الضالون يوم القيامة فقال: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً .. }.
والحشر: الجمع. يقال: حشرت الجند حشراً. أى جمعتهم. وقوله: { على وجوههم } حال من الضمير المنصوب فى نحشرهم. وقوله: { عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } أحوال من الضمير المستكن فى قوله { على وجوههم }. أى: نجمع هؤلاء الضالين يوم القيامة، حين يقومون من قبورهم، ونجعلهم - بقدرتنا - يمشون على وجوههم، أو يسحبون عليها، إهانة لهم وتعذيباً، ويكونون فى هذه الحالة عميا لا يبصرون، وبكما لا ينطقون، وصما لا يسمعون.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله - تعالى -: { نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } إما مشيا، بأن يزحفوا منكبين عليها. ويشهد له ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال:
"قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال: الذى أمشاهم على أرجلهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم" .
. وإما سحبا بأن تجرهم الملائكة منكبين عليها، كقوله - تعالى -: { { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } ويشهد له ما أخرجه أحمد والنسائى والحاكم - وصححه - "عن أبى ذر، أنه تلا هذه الآية. { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } فقال: حدثنى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم" .
وجائز أن يكون الأمران فى حالين: الأول: عند جمعهم وقبل دخولهم النار، والثانى عند دخولهم فيها ...
ثم قال: وزعم بعضهم أن الكلام على المجاز، وذلك كما يقال للمنصرف عن أمر وهو خائب مهموم: انصرف على وجهه .. وإياك أن تلتفت إلى - هذا الزعم - أو إلى تأويل نطقت السنة النبوية بخلافه، ولا تعبأ بقوم يفعلون ذلك".
فإن قيل: كيف نوفق بين هذه الآية التى تثبت لهؤلاء الضالين يوم حشرهم العمى والبكم والصمم، وبين آيات أخرى تثبت لهم فى هذا اليوم الرؤية والكلام والسمع، كما فى قوله - تعالى -:
{ { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ .. } }. وكما فى قوله - سبحانه -: { { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } وكما فى قوله - عز وجل -: { { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } فالجواب: أن المراد فى الآية هنا أنهم يحشرون عميا لا يرون ما يسرهم، وبكما لا ينطقون بحجة تنفعهم، وصماً لا يسمعون ما يرضيهم ..
أو أنهم يحشرون كذلك، ثم تعاد لهم حواسهم بعد ذلك عند الحساب وعند دخولهم النار.
أو أنهم عندما يحشرون يوم القيامة، ويرون ما يرون من أهوال، تكون أحوالهم كأحوال العمى الصم البكم، لعظم حيرتهم، وشدة خوفهم، وفرط ذهولهم.
ثم بين - سبحانه - مآلهم بعد الحشر والحساب فقال: { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً }.
ومعنى: { خبت } هدأت وسكن لهيبها. يقال: خبت النار تخبو إذا هدأ لهيبها.
أى: أن هؤلاء المجرمين مأواهم ومسكنهم ومقرهم جهنم، كلما سكن لهيب جهنم وهدأ، بأن أكلت جلودهم ولحومهم، زدناهم توقدا، بأن تبدل جلودهم ولحومهم بجلود ولحوم أخرى، فتعود النار كحالتها الأولى ملتهبة مستعرة.
وخبو النار وسكونها لا ينقص شيئاً من عذابهم، وعلى ذلك فلا تعارض بين هذه الآية وبين قوله - عز وجل -
{ { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } }. وفى هذه الآية ما فيها من عذاب للكافرين تقشعر من هوله الأبدان، وترتجف من تصويره النفوس والقلوب، نسأل الله - تعالى - بفضله ورحمته أن يجنبنا هذا المصير المؤلم.
وقوله - عز وجل -: { ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } بيان للأسباب التى أفضت بهم إلى تلك العاقبة السيئة.
أى: ذلك الذى نزل بهم من العذاب الشديد، المتمثل فى حشرهم على وجوههم وفى اشتعال النار بهم، سببه أنهم كفروا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وقالوا بإنكار وجهالة: أئذا كنا عظاماً نخرة، ورفاتاً أى وصارت أجسادنا تشبه التراب فى تفتتها وتكسرها، أئنا بعد ذلك لمعادون إلى الحياة ومبعوثون على هيئة خلق جديد.
فالآية الكريمة تحكى تصميمهم على الكفر، وإنكارهم للبعث والحساب إنكاراً لا مزيد عليه، لذا كانت عقوبتهم شنيعة، وعذابهم أليماً. فقد سلط الله - تعالى - عليهم النار تأكل أجزاءهم، وكلما سكن لهيبها، أعادها الله - تعالى - ملتهبة مشتعلة على جلود أخرى لهم، كما قال - تعالى -
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ ... } }. ثم رد - سبحانه - على ما استنكروه من شأن البعث رداً يقنع كل ذى عقل سليم، فقال - تعالى - { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ... }.
والهمزة للاستفهام التوبيخى، وهى داخلة على محذوف، والمراد بمثلهم إياهم، فيكون المعنى: أعموا عن الحق، ولم يعلموا كما يعلم العقلاء، أن الله - تعالى - الذى خلق السماوات والأرض بقدرته، وهما أعظم من خلق الناس، قادر على إعادتهم إلى الحياة مرة أخرى بعد موتهم، لكى يحاسبهم على أعمالهم فى الدنيا.
إن عدم علمهم بذلك، وإنكارهم له، لمن أكبر الأدلة على جهلهم وانطماس بصيرتهم، لأن من قدر على خلق ما هو أعظم وأكبر - وهو السماوات والأرض فهو على إعادة ما هو دونه - وهو الناس - أقدر.
قال الشيخ الجمل ما ملخصه: قوله: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ .. } هذا رد لإِنكارهم البعث، ولما استبعدوه من شأنه، يعنى أن من خلق السماوات والأرض، كيف يستبعد منه أن يقدر على إعادتهم بأعيانهم .. وأراد - سبحانه -.. بمثلهم: إياهم، فعبر عن خلقهم بلفظ المثل كقول المتكلمين: إن الإِعادة مثل الابتداء، وذلك أن مثل الشئ مساو له فى حاله، فجاز أن يعبر به عن الشئ نفسه يقال: مثلك لا يفعل كذا، أى: أنت لا تفعله.
ويجوز أن يكون المعنى أنه - سبحانه - قادر على أن يخلق عبيداً غيرهم يوحدونه ويقرون بكمال حكمته، ويتركون هذه الشبهات الفاسدة، كما فى قوله - تعالى -
{ { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } والأول أشبه بما قبله.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } }. وقوله - سبحانه -: { { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ ... } }. وبعد أن أقام - سبحانه - الدليل الواضح على أن البعث حق، وعلى أن إعادة الناس إلى الحياة بعد موتهم أمر ممكن، أتبع ذلك ببيان أن لهذه الإِعادة وقتاً معلوماً يجريه حسب حكمته - تعالى - فقال: { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ }.
أى: وجعل لهم ميقاتاً محددا لا شك فى حصوله، وعند حلول هذا الميقات يخرجون من قبورهم للحساب والجزاء، كما قال - تعالى -:
{ { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } }. والجملة الكريمة وهى قوله: { وجعل لهم ... } معطوفة على قوله { أَوَلَمْ يَرَوْاْ .. } لأنه فى قوة قولك قد رأوا وعلموا.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت؛ علام عطف قوله: { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً }؟
قلت: على قوله: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } لأن المعنى: قد علموا بدليل العقل، أن من قدر على خلق السماوات والأرض، فهو قادر على خلق أمثالهم من الإِنس لأنهم ليسوا بأشد خلقاً منهن، كما قال:
{ { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ } }. وقوله - سبحانه -: { فَأَبَىٰ ٱلظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً } بيان لإِصرارهم على جحود الحق مع علمهم بأنه حق.
أى: فأبى هؤلاء الظالمون المنكرون للبعث، إلا جحوداً له وعناداً لمن دعاهم إلى الإِيمان به، شأن الجاهلين المغرورين الذين استحبوا العمى على الهدى.
ثم ختم - سبحانه - الآيات الكريمة بأمر النبى صلى الله عليه وسلم بأن يجابه هؤلاء الظالمين بما جبلوا عليه من بخل وشح، بعد أن طلبوا منه ما طلبوا من مقترحات متعنتة، فقال - تعالى -: { قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ وَكَانَ ٱلإنْسَانُ قَتُوراً }.
والمراد بخزائن رحمة ربى: أرزاقه التى وزعها على عباده، ونعمه التى أنعم بها عليهم.
و{ قتوراً } من التقتير بمعنى البخل. يقال: قتر فلان يقتر - بضم التاء وكسرها - إذا بالغ فى الإِمساك والشح.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الظالمين الذين أعرضوا عن دعوتك، وطالبوك بما ليس فى وسعك من تفجير الأرض بالأنهار، ومن غير ذلك من مقترحاتهم الفاسدة، قل لهم على سبيل التقريع والتبكيت: لو أنكم تملكون - أيها الناس - التصرف فى خزائن الأرزاق التى وزعها الله على خلقه، إذاً لبخلتم وأمسكتم فى توزيعها عليهم، مخافة أن يصيبكم الفقر لو أنكم توسعتم فى العطاء، مع أن خزائن الله لا تنفد أبداً، ولكن لأن البخل من طبيعتكم فعلتم ذلك.
قال بعضهم: قوله: { لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ } فيه وجهان: أحدهما: أن المسألة من باب الاشتغال. فأنتم مرفوع بفعل مقدر يفسره هذا الظاهر، لأن لو لا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمرا. فهى كإن فى قوله - تعالى -:
{ { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } }.. والأصل: لو تملكون، فحذف الفعل لدلالة ما بعده عليه - والثانى: أنه مرفوع بكان، وقد كثر حذفها بعد لو، والتقدير: لو كنتم تملكون ....
والمقصود بالإِمساك هنا: إمساكهم عن العطاء فى الدنيا، وهذا لا ينافى قوله - تعالى -:
{ { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ ... } لأن ذلك حكاية عن أحوالهم فى الآخرة عندما يرون العذاب، ويتمنون أن يفتدوا أنفسهم منه بأى شئ.
وقوله { إذاً } ظرف لتملكون. وقوله { لأمسكتم } جواب لو، وقوله { خشية الإِنفاق } علة للإِمساك والبخل.
وقوله: { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ قَتُوراً } أى: مبالغاً فى البخل والإِمساك.
قال الإِمام ابن كثير: والله - تعالى - يصف الإِنسان من حيث هو، إلا من وفقه الله وهداه، فإن البخل والجزع والهلع صفة له، كما قال - تعالى -:
{ { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } }. ولهذا نظائر كثيرة فى القرآن الكريم، وهذا يدل على كرمه - تعالى - وإحسانه. وقد جاء فى الصحيحين: يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما فى يمينه.
وقال الآلوسى: "وقد بلغت هذه الآية من الوصف بالشح الغاية القصوى التى لا يبلغها الوهم، حيث أفادت أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله - تعالى - التى لا تتناهى، وانفردوا بملكها من غير مزاحم، لأمسكوا عن النفقة من غير مقتض إلا خشية الفقر، وإن شئت فوازن بقول الشاعر:

ولو ان دارك أنبتت لك أرضها إبراً يضيق بها فناء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة ليخيط قد قميصه لم تفعل

مع أن فيه من المبالغات ما يزيد على العشرة، ترى التفاوت الذى لا يحصر ...".
ثم بين - سبحانه - ما يدل على أن العبرة فى الإِيمان، ليست بعظم الخوارق ووضوحها، وإنما العبرة بتفتح القلوب للحق، واستعدادها لقبوله، وساق - سبحانه - مثلاً لذلك من قصة موسى - عليه السلام - فقد أعطاه من المعجزات البينة ما يشهد بصدقه، ولكن فرعون وجنده لم تزدهم تلك المعجزات إلا كفراً وعناداً، فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً }.