خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً
٩
إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً
١٠
فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً
١١
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً
١٢
-الكهف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى: "اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف، وسألوا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان، فقال - تعالى -: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }؟ لا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب فإن من كان قادرا على خلق السماوات والأرض، وعلى تزيين الأرض بما عليها من نبات وحيوان ومعادن، ثم يجعلها بعد ذلك صعيدا جرزا خالية من الكل، كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة من الناس مدة ثلاثمائة سنة وأكثر فى النوم ..".
وعلى ذلك يكون المقصود بهذه الآيات الكريمة، بيان أن قصة أصحاب الكهف ليست شيئاً عجبا بالنسبة لقدرة الله - تعالى -.
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قصة أصحاب الكهف روايات ملخصها: أن قريشا بعثت النضر بن الحارث، وعقبة بن أبى معيط، إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول. وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.
فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره صلى الله عليه وسلم فقالوا لهما سلوه عن ثلاث نأمركم بهن. فإن أخبركم بهن، فهو نبى مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول.
سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ماذا كان من خبرهم. فإنهم قد كان لهم حديث عجيب.
وسلوه عن رجل طواف طاف المشارق والمغارب ماذا كان من خبره؟ وسلوه عن الروح، ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبى فاتبعوه.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش. فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور.
ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أخبرنا، ثم سألوه عما قالته لهم يهود.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سأجيبكم غدا بما سألتم عنه ولم يستثن -: أى. ولم يقل إن شاء الله - فانصرفوا عنه.
ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة. لا يحدث الله إليه فى ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل - عليه السلام - حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمسة عشر قد أصبحنا فيها، لا يخبرنا بشئ عما سألناه عنه. وحتى أَحْزَن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحى عنه، وشق عليه ما تكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله - تعالى -
{ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } }. والخطاب فى قوله - تعالى - { أم حسبت ... } للرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من المكلفين.
و"أم" فى هذه الآية هى المنقطعة، وتفسر عند الجمهور بمعنى بل والهمزة، أى: بل أحسبت، وعند بعض العلماء تفسر بمعنى بل، فتكون للانتقال من كلام إلى آخر، أى: بل حسبت. ويرى بعضهم أنها هنا بمعنى الهمزة التى للاستفهام الإِنكارى أى: أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم.
والكهف: هو النقب المتسع فى الجبل، فإن لم يكن فيه سعة فهو غار، وجمعه كهوف.
والمراد به هنا: ذلك الكهف الذى اتخذه هؤلاء الفتية مستقرا لهم.
وأما الرقيم فقد ذكروا فى المراد به أقوالا متعددة منها: أنه اسم كلبهم، ومنها أنه اسم الجبل أو الوادى الذى كان فيه الكهف، ومنها أنه اسم القرية التى خرج منها هؤلاء الفتية.
ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن المراد به اللوح الذى كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم، فيكون الرقيم بمعنى المرقوم - فهو فعيل بمعنى مفعول - ومأخوذ من رقمت الكتاب إذا كتبته.
ومنه قوله - تعالى -
{ { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } }. أى مكتوب.
قال بعض العلماء: "والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم: طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين: أحدهما: معطوف على الآخر، خلافا لمن قال أن أصحاب الكهف طائفة، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى، وأن الله قص على نبيه فى هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف، ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم. وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدّت عليهم باب الكهف فدعوا الله بصالح أعمالهم فانفرجت، وهم البار بوالديه، والعفيف، والمستأجر، وقصتهم مشهورة ثابتة فى الصحيح، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد بعيد كما ترى".
والمعنى: أظننت - أيها الرسول الكريم - أن ما قصصناه عليك من شأن هؤلاء الفتية، كان من بين آياتنا الدالة على قدرتنا شيئا عجبا؟ لا، لا تظن ذلك فإن قدرتنا لا يعجزها شئ.
ثم حكى - سبحانه - ما قالوه عندما حطوا رحالهم فى الكهف فقال: إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا: { رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً }.
و"إذ" هنا ظرف منصوب بفعل تقديره: اذكر.
و{ أوى } فعل ماض - من باب ضرب - تقول: أوى فلان إلى مسكنه يأوى، إذا نزله بنفسه. واستقر فيه.
و{ الفتية }: جمع قلة لفتى. وهو وصف للإِنسان عندما يكون فى مطلع شبابه.
وقوله: { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا }: من التهيئة بمعنى: تيسير الأمر وتقريبه وتسهيله حتى لا يخالطه عسر أو مشقة.
والمراد بالأمر هنا: ما كانوا عليه من تركهم لأهليهم ومساكنهم، ومن مفارقتهم لما كان عليه أعداؤهم من عقائد فاسدة.
والرشد: الاهتداء إلى الطريق المستقيم مع البقاء عليه. وهو ضد الغى. يقال: رشد فلان يرشد رشدا ورشادا، إذا أصاب الحق.
أى: واذكر - أيها الرسول الكريم - للناس ليعتبروا، وقت أن خرج هؤلاء الفتية من مساكنهم، تاركين كل شئ خلفهم من أجل سلامة عقيدتهم فالتجأوا إلى الكهف، واتخذوه مأوى لهم، وتضرعوا إلى خالقهم قائلين: يا ربنا آتنا من لدنك رحمة، تهدى بها قلوبنا، وتصلح بها شأننا، وتردُّ بها الفتن عنا، كما نسألك يا ربنا أن تهيئ لنا من أمرنا الذى نحن عليه - وهو: فرارنا بديننا. وثباتنا على إيماننا - ما يزيدنا سدادا وتوفيقا لطاعتك.
وقال - سبحانه -: { إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ .. } بالإِظهار - مع أنه قد سبق الحديث عنهم بأنهم أصحاب الكهف لتحقيق ما كانوا عليه من فتوة، وللتنصيص على وصفهم الدال على قلتهم، وعلى أنهم شباب فى مقتبل أعمارهم، ومع ذلك ضحوا بكل شئ فى سبيل عقيدتهم.
والتعبير بالفعل { أوى } يشعر بأنهم بمجرد عثورهم على الكهف. ألقوا رحالهم فيه واستقروا به استقرار من عثر على ضالته، وآثروه على مساكنهم المريحة، لأنه واراهم عن أعين القوم الظالمين.
والتعبير بالفاء فى قوله - سبحانه - { فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً .. } يدل على أنهم بمجرد استقرارهم فى الكهف ابتهلوا إلى الله - تعالى - بهذا الدعاء الجامع لكل خير.
والتنوين فى قوله: { رحمة }: للتهويل والتنويع. أى: آتنا يا ربنا من عندك وحدك لا من غيرك. رحمة عظيمة شاملة لجميع أحوالنا وشئوننا. فهى تشمل الأمان فى المنزل، والسعة فى الرزق؛ والمغفرة للذنب.
قال القرطبى ما ملخصه: هذه الآية صريحة فى الفرار بالدين وهجرة الأهل والأوطان .. خوف الفتنة، ورجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين ...
ثم بين - سبحانه - ما حدث لهؤلاء الفتية بعد أن لجأوا إلى الكهف، وبعد أن دعوا الله بهذا الدعاء الشامل لكل خير. فقال: { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً }.
وأصل الضرب فى كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم، بظاهر جسم آخر بشدة.
يقال: ضرب فلان بيده الأرض إذا ألصقها بها بشدة، وتفرعت عن هذا المعنى معان أخرى ترجع إلى شدة اللصوق.
والمراد بالضرب هنا النوم الطويل الذى غشاهم الله - تعالى - به فصاروا لا يحسون شيئا مما حولهم، ومفعول ضربنا محذوف.
والمعنى: بعد أن استقر هؤلاء الفتية فى الكهف، وتضرعوا إلينا بهذا الدعاء العظيم، ضربنا على آذانهم وهم فى الكهف حجابا ثقيلا مانعا من السماع، فصاروا لا يسمعون شيئا يوقظهم، واستمروا فى نومهم العميق هذا { سنين } ذات عدد كثير، بينها - سبحانه - بعد ذلك فى قوله: { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً }.
وخص - سبحانه - الآذان بالضرب، مع أن مشاعرهم كلها كانت محجوبة عن اليقظة، لأن الآذان هى الطريق الأول للتيقظ. ولأنه لا يثقل النوم إلا عندما تتعطل وظيفة السمع.
"وقد ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم عندما علم أن رجلا لا يستيقظ مبكرا أن قال فى شأنه: ذلك رجل قد بال الشيطان فى أذنه" أى: فمنعها من التبكير واليقظة قبل طلوع الشمس.
والتعبير بالضرب - كما سبق أن أشرنا - للدلالة على قوة المباشرة، وشدة اللصوق واللزوم، ومنه قوله تعالى -
{ { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } أى: التصقتا بهم التصاقا لا فكاك لهم منه، ولا مهرب لهم عنه.
ثم بين - سبحانه - ما حدث لهم بعد هذا النوم الطويل فقال: { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً }.
وأصل البعث فى اللغة: إثارة الشئ من محله وتحريكه بعد سكون. ومنه قولهم: بعث فلان الناقة - إذا أثارها من مبركها للسير، ويستعمل بمعنى الإِيقاظ وهو المقصود هنا من قوله: { بعثناهم } أى: أيقظناهم بعد رقادهم الطويل.
وقوله { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } بيان للحكمة التى من أجلها أيقظهم الله من نومهم.
وكثير من المفسرين على أن الحزبين أحدهما: أصحاب الكهف والثانى: أهل المدينة الذين أيقظ الله أهل الكهف من رقادهم فى عهدهم، وكان عندهم معرفة بشأنهم.
وقيل: هما حزبان من أهل المدينة الذين بعث هؤلاء الفتية فى زمانهم، إلا أن أهل هذه المدينة كان منهم حزب مؤمن وآخر كافر.
وقيل: هما حزبان من المؤمنين كانوا موجودين فى زمن بعث هؤلاء الفتية، وهذان الحزبان اختلفوا فيما بينهم فى المدة التى مكثها هؤلاء الفتية رقوداً.
والذى تطمئن إليه النفس أن الحزبين كليهما من أصحاب الكهف، لأن الله - تعالى - قد قال بعد ذلك - { وكذلك بعثناهم } أى الفتية { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ .. }.
قال الآلوسى: { ثم بعثناهم } أى: أيقظناهم وأثرناهم من نومهم { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } أى: منهم، وهم القائلون { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ } والقائلون { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ }.
وقيل: أحد الحزبين الفتية الذين ظنوا قلة زمان لبثهم، والثانى أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم وكان عندهم تاريخ غيبتهم .. والظاهر الأول لأن اللام للعهد، ولا عهد لغير من سمعت.
والمراد بالعلم فى قوله { لنعلم .. } إظهار المعلوم، أى ثم بعثناهم لنعلم ذلك علما يظهر الحقيقة التى لا حقيقة سواها للناس.
ويجوز أن يكون العلم هنا بمعنى التمييز، أى: ثم بعثناهم لنميز أى الحزبين أحصى لما لبثوا أبدا.
فهو من باب ذكر السبب وإرادة المسبب، إذ العلم سبب للتمييز.
ولفظ { أحصى } يرى صاحب الكشاف ومن تابعه أنه فعل ماض، ولفظ { أمدا } مفعوله، و"ما" فى قوله { لما لبثوا } مصدرية، فيكون المعنى، ثم بعثناهم لنعلم أى الحزبين أضبط أمدا - أى مدة - للبثهم فى الكهف.
قال صاحب الكشاف: و{ أحصى } فعل ماض، أى: أيهم أضبط { أمدا } لأوقات لبثهم.
فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثى المجرد ليس بقياس .. والقياس على الشاذ فى غير القرآن ممتنع فكيف به ...
وبعضهم يرى أن لفظ { أحصى } صيغة تفضيل، وأن قوله { أمدا } منصوب على أنه تمييز وفى إظهار هذه الحقيقة للناس، وهى أن الله - تعالى - قد ضرب النوم على آذان هؤلاء الفتية ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، ثم بعثهم بعد ذلك دون أن يتغير حالهم، أقول: فى إظهار هذه الحقيقة دليل واضح على قدرة الله - تعالى - وعلى وجوب إخلاص العبادة له، وعلى أن البعث بعد الموت حق لا ريب فيه.
وبذلك تكون هذه الآيات قد ساقت لنا قصة أصحاب الكهف على سبيل الإِجمال والاختصار، ثم جاءت آيات بعد ذلك لتحكى لنا قصتهم على سبيل التفصيل والبسط، وهذه الآيات هى قوله - تعالى -: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ... }.