خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً
٧
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً
٨
قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً
٩
قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً
١٠
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً
١١
-مريم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال القرطبى: قوله - تعالى - { يٰزَكَرِيَّآ } فى الكلام حذف، أى: فاستجاب الله دعاءه فقال: { يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ... } فتضمنت هذه البشارة ثلاثة أشياء: أحدها: إجابة دعائه وهى كرامة. الثانى: إعطاؤه الولد وهو قوة. الثالث: أن يفرد بتسميته...".
وقد بين - سبحانه - فى آيات أخرى أن الذى بشر زكريا هو بعض الملائكة، وأن ذلك كان وهو قائم يصلى فى المحراب، قال - تعالى -:
{ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } وقوله - سبحانه -: { ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ } يدل على أن هذه التسمية قد سماها الله - تعالى - ليحيى، ولم يكل تسميته لزكريا أو لغيره، وهذا لون من التشريف والتكريم.
وقوله - تعالى -: { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } أى لم نجعل أحداً من قبل مشاركاً له فى هذا الاسم، بل هو أول من تسمى بهذا الاسم الجميل.
قال بعض العلماء: "وقول من قال: إن معناه: لم نجعل له من قبل سميا، أى: نظيرا يساويه فى السمو والرفعة غير صواب، لأنه ليس بأفضل من إبراهيم ونوح وموسى فالقول الأول هو الصواب، وممن قال به: ابن عباس، وقتادة، والسدى، وابن أسلم وغيرهم...".
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله زكريا بعد هذه البشارة السارة. فقال - تعالى -: { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً }.
فالجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال تقديره: فماذا قال زكريا عندما بشره الله - تعالى - بيحيى؟
ولفظ { أَنَّىٰ } بمعنى: كيف. أو بمعنى: من أين.
أى: قال زكريا مخاطباً ربه بعد أن بشره بابنه يحيى: يا رب كيف يكون لى غلام، وحال امرأتى أنها كانت عاقراً فى شبابها وفى شيخوختها، وحالى أنا أننى قد بلغت من الكبر عتيا، أى: قد تقدمت فى السن تقدماً كبيراً
يقال: عتى الشيخ يعتو عتيا - بكسر العين وضمها - إذا بلغ النهاية فى الكبر.
قال ابن جرير: "قوله: { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً } يقول: وقد عتوت من الكبر فصرت نحيل العظام يابسها، يقال منه للعود اليابس: عات وعاس. وقد عتا يعتو عتوا وعتيا ... وكل متناه فى كبر أو فساد أو كفر فهو عات...".
فإن قيل: "ما المراد باستفهام زكريا - عليه السلام - مع علمه بقدرة الله - تعالى - على كل شىء؟
فالجواب أن استفهامه إنما هو على سبيل الاستعلام والاستخبار، لأنه لم يكن يعلم أن الله - تعالى - سيرزقه بيحيى عن طريق زوجته العاقر، أو عن طريق الزواج بامرأة أخرى، فاستفهم عن الحقيقة ليعرفها.
ويصح أن يكون المقصود بالاستفهام التعجب والسرور بهذا الأمر العجيب حيث رزقه الله الولد مع تقدم سنه وسن زوجته.
ويجوز أن يكون المقصود بالاستفهام الاستبعاد لما جرت به العادة من أن يأتى الغلام مع تقدم سنه وسن زوجته. وليس المقصود به استحالة ذلك على قدرة الله - تعالى - لأنه - سبحانه - لا يعجزه شىء.
ثم حكى - سبحانه - ما رد به على استفهام زكريا فقال: { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }.
وقوله: { كَذٰلِكَ } خبر لمبتدأ محذوف، أى: الأمر كذلك.
قال الآلوسى: وذلك إشارة إلى قول زكريا - عليه السلام - وجملة { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } مفعول { قَالَ } الثانى وجملة "الأمر كذلك" مع جملة { قَالَ رَبُّكَ } إلخ مفعول { قَالَ } الأول...".
والمعنى: قال الله - تعالى - مجيباً على استفهام زكريا، الأمر كما ذكرت يا زكريا من كون امرأتك عاقرا، وأنت قد بلغت من الكبر عتيا، ولكن ذلك لا يحول بيننا وبين تنفيذ إرادتنا فى منحك هذا الغلام، فإن قدرتنا لا يعجزها شىء، ولا تخضع لما جرت به العادات.
وهذا الأمر وهو إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أى: يسير سهل.
ثم ذكر له - سبحانه - ما هو أعجب مما سأل عنه فقال: { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }.
أى: لا تعجب يا زكريا من أن يأتيك غلام وأنت وزوجك بتلك الحالة، فإنى أنا الله الذى أوجدتك من العدم، ومن أوجدك من العدم، فهو قادر على أن يرزقك بهذا الغلام المذكور.
فالآية الكريمة قد ساقت بطريق منطقى برهانى، ما يدل على كمال قدرة الله - تعالى - وما يزيد فى اطمئنان قلب زكريا - عليه السلام -.
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما التمسه زكريا - عليه السلام - من خالقه فقال: { قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِيۤ آيَةً ... }.
أى: اجعل لى علامة أستدل بها على وقوع ما بشرتنى به، لأزداد سروراً واطمئناناً. ولأعرف الوقت الذى تحمل فيه امرأتى بهذا الغلام فأكثر من شكرك وذكرك.
فأجابه الله - تعالى - بقوله: { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً }.
أى: قال الله - تعالى - لعبده زكريا: يا زكريا. علامة وقوع ما بشرتك به، أنك تجد نفسك عاجزاً عن أن تكلم الناس بلسانك، لمدة ثلاث ليال بأيامهن حال كونك سوى الخلق، سليم الحواس ليس بك من خرس، أو بكم ولكنك ممنوع من الكلام بأمرنا وقدرتنا على سبيل خرق العادة.
فقوله: { سَوِيّاً } حال من فاعل "تكلم" وهو زكريا أى: حال كونك يا زكريا سوى الخلق، سليم الجوارح، لا علة تمنعك من ذلك سوى قدرتنا. ثم بين - سبحانه - ما كان من زكريا بعد ذلك فقال: { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً }.
والمحراب: المصلى، أو الغرفة التى كان يجلس فيها فى بيت المقدس، أو هو المسجد، فقد كانت مساجدهم تسمى المحاريب. لأنها الأماكن التى تحارب فيها الشياطين.
أى: فخرج زكريا - عليه السلام - على قومه من المكان الذى كان يصلى فيه، { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ } أى: فأشار إليهم أو كتب لهم دون أن ينطق بلسانه { أَن سَبِّحُواْ } الله - تعالى - وقدسوه { بُكْرَةً } أى: فى أوائل النهار { وَعَشِيّاً } أى: فى أواخره.
وقد ذكر - سبحانه - فى آية أخرى، ما يشير إلى أن هذا المحراب الذى خرج منه زكريا - عليه السلام - على قومه. هو ذلك المكان الذى بشره الله - تعالى - فيه بيحيى.
قال - تعالى -:
{ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوبها البليغ جانباً من رحمة الله - تعالى - بعبده زكريا، ومن الدعوات التى تضرع بها إلى خالقه - عز وجل -، وأن الله - تعالى - قد أجاب له دعاءه، وبشره بيحيى، وعرفه بالعلامة التى بها يعرف وقوع ما بشره به، زيادة فى اطمئنانه وسروره.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن يحيى، فبينت ما أمره الله - تعالى به، وما منحه من صفات فاضلة. فقال - تعالى -: { يٰيَحْيَىٰ... }.