خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً
١٢
وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً
١٣
وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً
١٤
وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً
١٥
-مريم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } مقول لقول محذوف، والسر فى حذفه المسارعة إلى الإخبار بإنجاز الوعد الكريم.
والتقدير: وبعد أن ولد يحيى، ونما وترعرع قلنا له عن طريق وحينا: { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ } الذى هو التوراة { بِقُوَّةٍ } أى: بجد واجتهاد، وتفهم لمعناه على الوجه الصحيح، وتطبيق ما اشتمل عليه من أحكام وآداب، فإن بركة العلم فى العمل به.
والجار والمجرور { بِقُوَّةٍ } حال من فاعل خذ وهو يحيى، والباء للملابسة أى: خذه حالة كونك ملتبساً بحفظه وتنفيذ أحكامه بشدة وثبات.
وقوله: { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } أى: وأعطيناه بقدرتنا وفضلنا { ٱلْحُكْمَ } أى: فهم الكتاب والعمل بأحكامه، وهو فى سن الصبا.
قيل: كان سنه ثلاث سنين، وقيل سبع سنين.
قال الآلوسى: "أخرج أبو نعيم، وابن مردويه، والديلمى، عن ابن عباس، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فى ذلك:
"أعطى الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين" .
وقال الجمل فى حاشيته: "فإن قلت: كيف يصح حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا؟.
قلت: لأن أصل النبوة مبنى على خرق العادات. إذا ثبت هذا. فلا تمنع صيروة الصبى نبيا. وقيل: أراد بالحكم فهم الكتاب فقرأ التوراة وهو صغير...
والذى تطمئن إليه النفس وعليه جمهور المفسرين أن المراد بالحكم هنا: العلم النافع مع العمل به، وذلك عن طريق حفظ التوراة وفهمها وتطبيق أحكامها.
قال ابن كثير: { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } أى: الفهم والعلم والجد والعزم، والإقبال على الخير، والإكباب عليه، والاجتهاد فيه، وهو صغير حدث.
قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا. قال: فلهذا أنزل الله: { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً }.
وقوله - تعالى -: { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً } معطوف على { ٱلْحُكْمَ }.
أى: وأعطيناه الحكم صبياً، وأعطيناه حنانا...
قال القرطبى ما ملخصه: "الحنان، الشفقة والرحمة والمحبة، وهو فعل من أفعال النفس...
وأصله: من حنان الناقة على ولدها... قال طرفة:

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضناحنانيك بعض الشر أهون من بعض

والمعنى: منحنا { يٰيَحْيَىٰ } الحكم صبيا، ومنحناه من عندنا وحدنا رحمة عظيمة عليه، ورحمة فى قلبه جعلته يعطف على غيره، وأعطيناه كذلك زكاة أى: طهارة فى النفس، أبعدته عن ارتكاب ما نهى الله عنه، وجعلته سباقاً لفعل الخير { وَكَانَ تَقِيّاً } أى مطيعاً لنا فى كل ما نأمره به، أو ننهاه عنه.
ثم أضاف - سبحانه - إلى تلك الصفات الكريمة ليحيى صفات أخرى فقال: { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ } أى: وجعلناه كثير البر بوالديه، والإحسان إليهما.
{ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً } أى: مستكبرا متعاليا مغرورا { عَصِيّاً } أى: ولم يكن ذا معصية ومخالفة لأمر ربه.
ثم ختم - سبحانه - هذه الصفات ببيان العاقبة الحسنة التى ادخرها ليحيى - عليه السلام - فقال: { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } أى: وتحية وأمان له منا يوم ولادته { وَيَوْمَ يَمُوتُ } ويفارق هذه الدنيا { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } للحساب يوم القيامة.
وخص - سبحانه - هذه الأوقات الثلاثة بالذكر، لأنها أحوج إلى الرعاية من غيرها.
قال سفيان بن عيينة: أحوج ما يكون المرء فى ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه. ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم. ويوم يبعث فيرى نفسه فى محشر عظيم.
وبعد هذا الحديث عن جانب من قصة زكريا ويحيى - عليهما السلام -، انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن قصة أخرى أعجب من قصة ميلاد يحيى، ألا وهى قصة مريم وميلادها لابنها عيسى - عليه السلام - فقال - تعالى -: { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ... }.