خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً
٢٧
يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً
٢٨
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً
٢٩
قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً
٣٠
وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً
٣١
وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً
٣٢
وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً
٣٣
-مريم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ... } معطوف على كلام محذوف يفهم من سياق القصة.
والتقدير: وبعد أن استمعت مريم إلى ما قاله ابنها عيسى - عليه السلام - اطمأنت نفسها، وقرت عينها، فأتت به أى بمولودها عيسى إلى قومها. وهى تحمله معها من المكان القصى الذى اعتزلت فيه قومها.
قال الآلوسى: أى: جاءتهم مع ولدها حاملة إياه، على أن الباء للمصاحبة، وجملة { تَحْمِلُهُ } فى موضع الحال من ضمير مريم ... وكان هذا المجىء على ما أخرج سعيد بن منصور، وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوماً حين طهرت من نفاسها...
وظاهر الآية والأخبار "أنها جاءتهم به من غير طلب منهم ..".
ثم حكى - سبحانه - ما قاله قومها عندما رأوها ومعها وليدها فقال: { يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً }.
أى: قالوا لها على سبيل الإنكار: يا مريم لقد جئت أى فعلت شيئاً منكراً عجيباً فى بابه، حيث أتيت بولد من غير زوج نعرفه لك.
والفَرِى: مأخوذ من فريت الجلد إذا قطعته، أى: شيئاً قاطعاً وخارقاً للعادة، ومرادهم: أنها أتت بولدها عن طريق غير شرعى، كما قال - تعالى - فى آية أخرى:
{ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } ويدل على أن مرادهم هذا، قولهم بعد ذلك: { يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ }.
أى: ما كان أبوك رجلاً زانياً أو معروفاً بالفحش { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } أى: تتعاطى الزنا. يقال: بغت المرأة، إذا فجرت وابتعدت عن طريق الطهر والعفاف.
وليس المراد بهارون: هارون بن عمران أخا موسى، وإنما المراد به رجل من قومها معروف بالصلاح والتقوى، فشبهت به، أى: يا أخت هارون فى الصلاح والتقوى.
أو المراد به أخ لها كان يسمى بهذا الاسم.
قال الآلوسى ما ملخصه: "وقوله: { يٰأُخْتَ هَارُونَ } استئناف لتجديد التعيير، وتأكيد التوبيخ، وليس المراد بهارون أخا موسى بن عمران - عليهما السلام - لما أخرج أحمد، ومسلم، والترمذى، والنسائى، والطبرانى، وابن حبان، وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال: بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرأون: { يٰأُخْتَ هَارُونَ } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا. قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:
"ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم" .
. وعن قتادة قال: "هو رجل صالح فى بنى إسرائيل، والأخت على هذا بمعنى المشابهة، وشبهوها به تهكماً، أو لما رأوا قبل من صلاحها...".
وعلى أية حال فإن مرادهم بقولهم هذا، هو اتهام مريم بما هى بريئة منه، والتعجب من حالها، حيث انحدرت من أصول صالحة طاهرة، ومع ذلك لم تنهج نهجهم.
وهنا نجد مريم تبدأ فى الدفاع عن نفسها، عن طريق وليدها { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ }.
أى: فأشارت إلى ابنها عيسى، ولسان حالها يقول لهم: وجهوا كلامكم إليه فإنه سيخبركم بحقيقة الأمر.
ولكنهم لم يقتنعوا بإشارتها بل قالوا لها: { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً }.
والمهد: اسم للمضطجع الذى يهيأ للصبى فى رضاعه. وهو فى الأصل مصدر مهده يمهده إذا بسطه وسواه.
أى: كيف نكلم طفلاً صغيراً ما زال فى مهده وفى حال رضاعه.
والفعل الماضى وهو { كَانَ } ههنا بمعنى الفعل المضارع المقترن بالحال، كما يدل عليه سياق القصة.
ولكن عيسى - عليه السلام - أنطقه الله - تعالى - بما يدل على صدق مريم وطهارتها فقال: { قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ .. } أى: قال عيسى فى رده على المنكرين على أمه إتيانها به: إنى عبد الله، خلقنى بقدرته، فأنا عبده وأنتم - أيضاً - عبيده، وهذا الخالق العظيم { آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ } أى: سبق فى قضائه إيتائى الكتاب أى: الإنجيل أو التوراة أو مجموعهما.
وعبر فى هذه الجملة وفيما بعدها بالفعل الماضى عما سيقع فى المستقبل، تنزيلاً لتحقق الوقوع منزلة الوقوع الفعلى.
وهذا التعبير له نظائر كثيرة فى القرآن الكريم، منها قوله - تعالى -:
{ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } وقوله - سبحانه - { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } وقوله: { وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } أدعو الناس إلى عبادته وحده { وَجَعَلَنِي } أيضاً بجانب نبوتى { مُبَارَكاً } أى: كثير الخير والبركة { أَيْنَ مَا كُنتُ } أى: حينما حللت جعلنى مباركاً، فأينما شرطية وجوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه.
{ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ } أى: بالمحافظة على أدائهما { مَا دُمْتُ حَيّاً } فى هذه الدنيا.
وقوله: { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي }، أى: وجعلنى كذلك مطيعاً والدتى، وبارا بها، ومحسنا إليها، { وَلَمْ يَجْعَلْنِي } سبحانه - فضلاً منه وكرماً { جَبَّاراً شَقِيّاً } أى: ولم يجعلنى مغرروا متكبراً مرتكباً للمعاصى والموبقات.
{ وَٱلسَّلاَمُ } والأمان منه - تعالى - { عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ } مفارقا هذه الدنيا { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } للحساب والجزاء يوم القيامة.
فأنت ترى أن عيسى - عليه السلام - قد وصف نفسه بمجموعة من الصفات الفاضلة، افتتحها بصفة العبودية لله رب العالمين، لإرشاد الناس إلى تلك الحقيقة التى لا حق سواها. ولتحذير أعدائه من وصفه بأنه هو الله، أو هو ابن الله، أو هو مشارك له فى العبادة...
واختتمها برجاء الأمان له من الله - تعالى - فى كل أطوار حياته.
ثم ختم - سبحانه - هذه القصة ببيان وجه الحق فيها، وأنذر الذين وصفوا عيسى وأمه بما هما بريئان منه بسوء المصير. فقال - تعالى -: { ذٰلِكَ عِيسَى... }.