خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كۤهيعۤصۤ
١
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ
٢
إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً
٣
قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً
٤
وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً
٥
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً
٦
-مريم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

سورة (مريم) من السور القرآنية التى افتتحت ببعض حروف التهجى.
وقد سبق أن تكلمنا بشىء من التفصيل، عن آراء العلماء فى المراد بهذه الحروف التى افتتحت بها بعض السور، وذلك عند تفسيرنا لسور: البقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس..
ورجحنا أن هذه الحروف المقطعة، قد وردت فى افتتاح بعض سور القرآن، على سبيل الإيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن.
فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين فى أن القرآن من عند الله - تعالى -، هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون به كلامكم، ومنظوماً من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم، فإن كنتم فى شك من كونه منزلاً من عند الله فهاتوا مثله. أو عشر سور من مثله، بل بسورة واحدة من مثله، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم فى ذلك...
فلما عجزوا - وهم أهل الفصاحة والبيان - ثبت أن غيرهم أعجز، وأن هذا القرآن من عند الله
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } وقوله - تعالى -: { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } خبر لمبتدأ محذوف. أى: المتلو عليك ذكر رحمة ربك عبده زكريا.
ولفظ { ذِكْرُ } مصدر مضاف لمفعوله. ولفظ { رَحْمَةِ } مصدر مضاف لفاعله وهو ربك، و { عَبْدَهُ } مفعول به للمصدر الذى هو رحمة.
و { زَكَرِيَّآ } هو واحد من أنبياء الله الكرام، وينتهى نسبه إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليه السلام -.
والمعنى: هذا الذى نذكره لك يا محمد، هو جانب من قصة عبدنا زكريا، وطرف من مظاهر الرحمة التى اختصصناه بها، ومنحناه إياها.
وقوله: { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } ظرف لرحمة ربك. والمراد بالنداء: الدعاء الذى تضرع به زكريا إلى ربه - عز وجل -.
أى: هذا الذى قرأناه عليك يا محمد فى أول هذه السورة، وذكرناه لك، هو جانب من رحمتنا لعبدنا زكريا. وقت أن نادانا وتضرع إلينا فى خفاء وستر، ملتمسا منا الذرية الصالحة.
وإنما أخفى زكريا دعاءه، لأن هذا الإخفاء فيه بعد عن الرياء، وقرب من الإخلاص، وقد أمر الله - تعالى - به فى قوله:
{ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } ويبدو أن هذا الدعاء قد تضرع به زكريا إلى ربه فى أوقات تردده على مريم، واطلاعه على ما أعطاها الله - تعالى - من رزق وفير.
ويشهد لذلك قوله - تعالى -:
{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } ثم بين - سبحانه - ما نادى به زكريا ربه فقال: { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي... } والوهن: الضعف. يقال: وهن الجسم يهن - من باب وعد - إذا ضعف.
وخص العظم بالذكر، لأنه دعامة البدن، وعماد الجسم، وبه قوامه، فإذ ضعف كان غيره من أجزاء الجسم أضعف. وإفراد لفظ العظم لإرادة الجنس.
{ وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } والمراد باشتعال الرأس شيبا: انتشار بياض الشيب فيه. والألف واللام فى لفظ { ٱلرَّأْسُ } قاما مقام المضاف إليه.
والمراد: واشتعل رأسى شيباً، وهذا يدل على تقدم السن، كما يشهد له قوله - تعالى -
{ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً } وقوله - عز وجل -: { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ.. } قال صاحب الكشاف: "شبه الشيب بشواظ النار فى بياضه وإنارته وانتشاره فى الشعر... باشتعال النار، ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس، وأخرج الشيب مميزا ولم يضف إلى الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة...".
وقوله: { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } أى: ولم أكن فيما مضى من عمرى مخيب الدعاء وإنما تعودت منك يا إلهى إجابة دعائى، وما دام الأمر كذلك فأجب دعائى فى الزمان الآتى من عمرى، كما أجبته فى الزمان الماضى منه.
فأنت ترى أن زكريا - عليه السلام - قد أظهر فى دعائه أسمى ألوان الأدب مع خالقه، حيث توسل إليه - سبحانه - بضعف بدنه، وبتقدم سنه، وبما عوده إياه من إجابة دعائه فى الماضى.
ثم حكى - سبحانه - بعض الأسباب الأخرى لإلحاح زكريا فى الدعاء فقال: { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ .. }.
والموالى: جمع مولى، والمراد بهم هنا: عصبته وأبناء عمومته الذين يلون أمره بعد موته، وكان لا يثق فيهم لسوء سلوكهم.
والعاقر: العقيم الذى لا يلد، ويطلق على الرجل والمرأة، يقال: أمراة عاقر، ورجل عاقر.
أى: وإنى - يا إلهى - قد خفت ما يفعله أقاربى { مِن وَرَآئِي } أى: من بعد موتى، من تضييع لأمور الدين، ومن عدم القيام بحقه { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً } لا تلد قط فى شبابها ولا فى غير شبابها، { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ } أى: من عندك { وَلِيّاً } أى: ولدا من صلبى، هذا الولد { يَرِثُنِي } فى العلم والنبوة { وَيَرِثُ } أيضاً { مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ابن إسحاق بن إبراهيم العلم والنبوة والصفات الحميدة { وَٱجْعَلْهُ } يا رب { رَضِيّاً } أى: مرضيا عندك فى أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته.
ففى هاتين الآيتين نرى زكريا يجتهد فى الدعاء بأن يرزقه الله الولد، لا من أجل شهوة دنيوية، وإنما من أجل مصلحة الدين والخوف من تضييعه وتبديله والحرص على من ريثه فى علمه ونبوته، ويكون مرضياً عنده - عز وجل -.
قال الآلوسى ما ملخصه: "وقوله { مِن وَرَآئِي } المراد به من بعد موتى، والجار والمجرور متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أى: خفت فعل الموالى من ورائي أو جور الموالى. وهم عصبة الرجل ... وكانوا على سائر الأقوال شرار بنى إسرائيل، فخاف أن لا يحسنوا خلافته فى أمته".
وفى قوله { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } اعتراف عميق بقدرة الله - تعالى - لأن مثل هذا العطاء لا يرجى إلا منه - عز وجل -، بعد أن تقدمت بزكريا السن، وبعد أن عهد من زوجه العقم وعدم الولادة.
وقد أشار - سبحانه - فى آية أخرى إلى أنه أزال عنها العقم وأصلحها للولادة فقال:
{ وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوَارِثِينَ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ... } أى: وجعلناها صالحة للولادة بعد أن كانت عقيماً من حين شبابها إلى شيبها..
والمراد بالوراثة فى قوله { يَرِثُنِي } وراثة العلم والنبوة والصفات الحميدة.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: "وقوله: { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي } قرأ الأكثرون بنصب الياء من الموالى على أنه مفعول، وعن الكسائى أنه سكن الياء ..
ووجه خوفه أنه خشى أن يتصرفوا من بعده فى الناس تصرفاً سيئاً. فسأل الله ولداً يكون نبيا من بعده ليسوسهم بنبوته.. لا أنه خشى من وراثتهم له ماله. فإن النبى أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى هذا الحد، وأن يأنف من وراثة عصبته له، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم.
وقد ثبت فى الصحيحين من غير وجه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا نورث ما تركنا صدقة" وفى رواية عند الترمذى بإسناد صحيح: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" .
وعلى هذا فتعين حمل قوله { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي } على ميراث النبوة ولهذا قال: { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } كقوله: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أى: فى النبوة، إذ لو كان فى المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان فى الإخبار بذلك كبير فائدة، إذ من المعلوم المستقر فى جميع الشرائع والملل، أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح فى الحديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة" .
وقال بعض العلماء ما ملخصه: ومعنى { يَرِثُنِي } أى: إرث علم ونبوة، ودعوة إلى الله والقيام بدينه، لا إرث مال، ويدل لذلك أمران:
أحدهما قوله: { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين.
والأمر الثانى ما جاء من الأدلة أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - لا يورث عنهم المال، وإنما يورث عنهم العلم والدين، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى بكر الصديق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا نورث ما تركنا صدقة" .
ثم بين القرآن الكريم أن الله - تعالى - قد أجاب بفضله وكرمه دعاء عبده زكريا. كما بين ما قاله زكريا عندما بشره ربه بغلام اسمه يحيى فقال - تعالى -: { يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ.... }.