خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
١٠٥
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

{ مَّا يَوَدُّ } أى: ما يحب، إذ الود محبة الشىء مع تمنيه، يقال: ود فلان كذا يوده وداً ومودة بمعنى أحبه وتمناه.
قال صاحب الكشاف: "ومن الأولى فى الآية للبيان، لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان، أهل الكتاب والمشركون، والثانية مزيدة لاستغراق الخير والثالثة لابتداء الغاية".
وقوله - تعالى -: { مَّا يَوَدُّ } .. إلخ الآية بيان لما يبيته الكافرون - خصوصاً اليهود - للمسلمين من حقد وكراهية وتحذير لهم من الاطمئنان إليهم، والثقة بهم.
وفى التعبير بقوله تعالى: { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } دون ما يود أهل الكتاب تنبيه إلى أنهم قد كفروا بكتبهم، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها لصدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم الذى أمرتهم كتبهم بتصديقه واتباعه.
وعطف عليهم المشركين ليدل على أن عبدة الأصنام - أيضاً - يضاهون كفرة أهل الكتاب، فى كراهة نزول أى خير على المؤمنين، وأن الجميع يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله عن طريق نبيه صلى الله عليه وسلم من دون قويم، وقرآن كريم، وهداية عظمى، وأخوة شاملة، وأمن بعد خوف، وقوة بعد ضعف.
والخير: النعمة والفضل، والمراد به فى الآية الكريمة النبوة وما تبعها من الوحى الصادق، والقرآن العظيم المشتمل على الحكمة الرائعة والحجة البالغة والبلاغة الباهرة والتوجيه النافع.
وأهل الكتاب قد كرهوا ذلك للمؤمنين لعنادهم وحسدهم، وكراهتهم أن تكون النبوة فى رجل عربى ليس منهم.
والمشركون كرهوا ذلك - أيضاً - لأن فى انتشار الإِسلام، وفى تنزيل الوحى على النبى صلى الله عليه وسلم ما يخيب آمالهم فى إبطال الدعوة الإِسلامية، وإضعاف شوكتها والنصر على أتباعها.
وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }.
رد عليهم بما يكشف عن جهلهم وجهل جميع الحاسدين، لأن الحاسد لغباوته يسخط على قدر الله، ويعترض عليه لإِنعامه - سبحانه - على المحسود والله - تعالى - هو صاحب التصرف المطلق فى الإِعطاء والمنع فكان من الواجب على هؤلاء الذين لا يودون أن ينزل أى خير على المؤمنين أن يريحوا أنفسهم من هذا العناء، وأن يتحولوا عن ذلك الغباء، لأن الله - تعالى - يهب خيره لمن يشاء.
والاختصاص بالشىء: الانفراد به، تقول: اختص فلان بكذا أى انفرد به، ويستعمل متعدياً إلى المفعول به، فتقول: اخصصت فلانا بكذا أى أفردته به وجعلته مقصوراً عليه.
وعلى هذا الوجه ورد الاختصاص فى الآية الكريمة.
وقيد - سبحانه - اختصاص رحمته بمن يشاء ليعلم الناس جميعاً، أن إفراد بعض عباده بالرحمة منوط بمشيئته وحدها، وليس لأحد كائناً من كان أى تأثير فى ذلك.
ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه. أى: يختص برحمته من يشاء اختصاصه بها، وهى تتناول النبوة. والقرآن، والنصر، وكل ذلك مما لا يود الكافرون إنزاله على المؤمنين.
وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } تذييل لما سبق أى كل خير يناله العباد فى دينهم أو دنياهم إنما هو من عنده - تعالى - يتفضل به عليهم، وفى ذلك إشعار للحاسدين بأن يقلعوا عن حسدهم، وتعريض باليهود وغيرهم ممن حسدوا محمداً صلى الله عليه وسلم على أن آتاه الله النبوة، فكأنه - سبحانه - يقول لهم: إنى أصطفى للنبوة من أشاء من عبادى وهى لا تدرك بالأمانى، ولكنى أهبها لمن هو أهل لها.
وبذلك تكون الآية الكريمة قد حذرت المؤمنين مما يبيته لهم الكافرون من حقد وبغضاء وبشرتهم بأن ما يبيتونه لن يضرهم ما داموا معتصمين بكتاب ربهم، وسنة نبيهم.
ثم انتقل القرآن إلى الحديث عن موضوع النسخ الذى أثار اليهود حوله الشبهات، وجادلوا فيه النبى صلى الله عليه وسلم.
لقد استنكر اليهود أن يبدل الله آية بآية، أو حكماً بحكم، وقالوا: ألا ترون إلى محمد صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غداً، ما هذا من شأن الأنبياء وما هذا القرآن إلا من كلام محمد، يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضاً.
ولم يترك القرآن الكريم تلك الشبهات التى أثارها اليهود حول شريعة الإسلام بدون جواب، بل أنزل الله - تعالى - آيات كريمة لدحضها وإزالتها من الصدور، ليزداد المؤمنون إيمانا، وهذه الآيات هى قوله تعالى:
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ...فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ }.