خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
١٦٨
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
١٦٩
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

{ كُلُواْ } صيغة أمر واردة فى معنى الإِباحة.
و{ حَلاَلاً } ما أذن الله فى تناوله من مطعومات أو مشروبات.
قال الرازى: وأصله الذى هو نقيض العقد، ومنه حل بالمكان إذا نزل، لأنه حل شد الارتحال للنزول، وحل الدين إذا وجب لانحلال العقدة بانقضاء المدة، وحل من إحرامه، لأنه حل عقدة الإِحرام.. ثم قال: واعلم أن الحرام قد يكون حراما لخبثه - فى ذاته - كالميتة والدم ولحم الخنزير، وقد يكون حراما لوصف عارض كملك الغير إذا لم يأذن فى أكله - فحرمته لتعلق حق الغير به - فالحلال هو الخالى عن هذين القيدين.
{ طَيِّباً }: هو المستلذ المستطاب الذى تقبل عليه النفوس الطاهرة وتنبسط لتناوله، وإنما تنبسط النفوس الطاهرة لتناول طعام غير قذر ولا موقع فى تهلكة، إذ القذر ينفر منه الطبع السليم، والموقع فى تهلكة يمجه العقل القويم.
و{ من } فى قوله: { مِمَّا فى ٱلأَرْضِ } للتبعيض، لأن بعض ما فى الأرض كالحجارة - مثلا - لا يؤكل، ولأنه ليس كل ما يؤكل يجوز أكله فلذلك قال: { حَلاَلاً طَيِّباً.. }.
وقوله: { حَلاَلاً } مفعول به لقوله: "كلوا" أو حال مما فى الأرض، أى: كلوه حال كونه حلالا. أو صفة لمصدر محذوف، أى: كلوه أكلا حلالا.
وقوله: { طَيِّباً } صفة مقررة ومؤكدة لمعنى يستفاد من قوله: { حَلاَلاً } وهو طهارة المأكول وخلوه من القذارة، وعدم إيقاعه فى ضرر.
قال الآلوسى: "وفائدة وصف الحلال بالطيب تعميم الحكم كما فى قوله - تعالى -:
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فى ٱلأَرْضِ } ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالات فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم، بخلاف غير الموصوفة".
والمعنى: يأيها الناس لقد أباح الله لكم أن تأكلوا من كل ما تحويه الأرض من المطعومات التى أحلت لكم، والتى تستلذها النفوس الكريمة، والقلوب الطاهرة، فتمتعوا بهذه الطيبات فى غير سرف أو غرور، واشكروا الله - تعالى - على ما رزقكم من نعم.
ولقد أمر الله عباده فى كثير من الآيات أن يتمتعوا بما أحله لهم من طيبات ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وفى صحيح مسلم عن عياض المجاشعى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم فى خطبته: "ألا إن ربى أمرنى أن أعلمكم ما جهلتم مما علمنى، يومى هذا. يقول الله - تعالى -: كل ما نحلته - أى منحته - عبادى فهو لهم حلال، وإنى خلقت عبادى حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطاناً.." . وعن ابن عباس قال:" "تليت هذه الآية عند النبى صلى الله عليه وسلم { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فى ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً } فقام سعد بن أبى وقاص فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى مستجاب الدعوة، فقال: يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام فى جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به" .
وليس من الورع ولا الزهد المرضى عنه شرعا ترك بعض المباحاث، فإن الله سوى فى المباح بين الفعل والترك، ومن يجعل ترك المباح من الورع، والورع مندوب، فكأنه يقول: إن الترك راجح على الفعل، وهو غير ما حكم الله به.
وكان الحسن البصرى - وهو من أجل التابعين - يقوم عوج من يعدون من الزهد المحمود الامتناع عن تناول بعض المباحات كالأطعمة اللذيذة.
يحكى عنه أنه شهد يوما وليمة، فرأى رجلا يرفع يده عندما قدمت الحلوى فقال له الحسن: كل يا لكع فلنعمة الله عليك فى الماء البارد أعظم من نعمته فى هذه الحلوى.
ودخل عليه مرة أحد الزهاد فقال له الحسن: أتحب الخبيص - وهو طعام لذيذ - فقال الزاهد: لا أحبه ولا أحب من يحبه!! فأقبل الحسن على جلسائه وقال لهم: أترونه مجنونا.
والخلاصة: أنه لا ورع فى ترك المباح الذى أحله الله من حيث فيه متعة للنفس، فذلك هو التنطع فى الدين، وإنما الورع فى ترك الإِكثار من تناول تلك المباحات، لأن الإِكثار منها قد يؤدى إلى الوقوع فيما نهى الله عنه.
هذا، وقد أورد بعض المفسرين آثاراً تدل على أن هذه الآية نزلت فى قوم معينين.
قال الآلوسى: نزلت فى المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقيل نزلت فى قوم من ثقيف وبنى عامر ابن صعصعة وخزاعة وبين مدلج حيث حرموا التمر والاقط على أنفسهم.
والذى نراه أن الخطاب فى الآية لجميع المكلفين من البشر، وأنها واردة لتفنيد آراء الذين يحرمون على أنفسهم مطعومات لم يقم دليل من الشارع على تحريمها، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثم قال - تعالى -: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ }.
الخطوات: جمع خطوة كغرفة وقيل جمع خطوة كقبضة، وهى فى الأصل ما بين القدمين عند المشى، وتستعمل على وجه المجاز فى الآثار.
أى: كلوا أيها الناس من الطيبات التى أحلها الله لكم. ولا تتبعوا آثار الشيطان وزلاته ووساوسه وطرقه التى يحرم بها الحلال ويحلل الحرام والتى يقذفها فى صدور بعض الناس فتجعلهم يتنقلون من الطاعات إلى المعاصى.
وفى الجملة الكريمة استعارة تمثيلية، إذ أن السائر فى طريق إذا رأى آثار خطوات السائرين تتبع ذلك المسلك ظناً منه بأن ما سار فيه السائر قبله إلا لأنه موصل للمطلوب، فشبه المقتدى الذى لا دليل معه سوى المقتدى به وهو يظن مسلكه موصلا، بالذى يتبع خطوات السائرين، وشاعت هذه الاستعارة حتى صاروا يقولون هو يتبع خطا فلان بمعنى يقتدى به.
وقوله: { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تعليل للنهى عن اتباع الشيطان و "مبين" من أبان بمعنى بان وظهر، وقيل: من أبان بمعنى أظهر، أى: مظهر للعداوة.
والمعنى: "ولا تتبعوا خطواته لأن عداوته ظاهرة لكم بحيث لا تخفى على أى عاقل.
وقوله - تعالى -: { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَٱلْفَحْشَآءِ } استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيل لأنواع شروره ومفاسده.
والسوء فى الأصل: مصدر ساءه يسوءه سوءاً ومساءة إذا أحزنه، والمراد به هنا، كل ما يغضب الله - تعالى - من المعاصى، لأنها تسوء صاحبها وتحزنه فى الحال أو المآل.
والفحشاء والفاحشة والفحش: ما عظم قبحه مر الأقوال والأفعال.
وروى عن ابن عباس أنه فسر السوء بما لا حد فيه، والفحشاء بما فيه حد.
والأمر فى الأصل: الطلب بالقول، واستعمل فى تزيين الشيطان المعصية، لأن تزيينها فى معنى الدعوة إليها.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف كان الشيطان آمرا مع قوله
{ { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } }. قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتنى نفسى بكذا، وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه، ولذلك قال: { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ ٱلأَنْعَامِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ } وقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } لما كان الإِنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت".
وقوله: { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } معطوف على ما قبله.
أى: يأمركم الشيطان بالسوء والفحشاء، ويأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون.
والقول على الله بغير علم من مظاهره أن يقول قائل: لقد أحل الله كذا وحرم كذا بدون دليل شرعى يعتمد عليه.
قال الإِمام ابن القيم: "والقول على الله بغير علم يعم القول عليه - سبحانه - فى أسمائه وصفاته وأفعاله، وفى دينه وشرعه، وقد جعله - سبحانه - من أعظم المحرمات، بل جعله فى المرتبة العليا منها، فقال - تعالى -:
{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وقال - تعالى -: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فتقدم إليهم - سبحانه - بالوعيد على الكذب عليه فى أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام، ولما لم يحله: هذا حلال. وهذا بيان منه - سبحانه - أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أنه - سبحانه - أحله وحرمه".
وقال بعض العلماء: وقد يخطر على بالك أن تقرير الأئمة المجتهدين لبعض الوقائع أحكاماً من طريق الاستنباط، قد يستندون فى ذلك إلى دليل يفيد الظن بالحكم، ولا يصل إلى أن يفيد العلم به، فيكون إفتاؤه من قبيل القول على الله بغير علم، ويزاح هذا الخاطر بأنه قد انضم إلى ذلك الدليل الظنى أصل انعقد عليه الإِجماع وأصبح مقطوعاً به، وهو أن كل مجتهد بحق يكون حكم الشرع فى حقه أو حق من يتابعه هو الحكم الذى أداه إليه اجتهاده، وبمراعاة هذا الأصل المقطوع به لم يكن المجتهد المشهود له بالرسوخ فى العلم قائلا على الله ما لا يعلم".
هذا، ومن الآيات الكثيرة التى وردت فى القرآن الكريم فى التحذير من الشيطان ووساوسه قوله - تعالى -:
{ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } وقوله - تعالى -: { ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً } وقوله - تعالى -: { يَابَنِيۤ ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ } وقد أرشدنا النبى صلى الله عليه وسلم إلى أن الإكثار من ذكر الله خير معين للإِنسان للتغلب على وساوس الشيطان فقال فى حديثه الطويل الذى رواه الترمذى والنسائى وابن حبان عن الحارث الأشعرى: "وآمركم بذكر الله كثيراً، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً فى أثره، فأتى حصنا فأحرز نفسه فيه، وكذلك العبد لا ينجو من الشيطان إلا بذكر الله.
وبعد أن نهى - سبحانه - الناس عن إتباع خطوات الشيطان، وبين لهم مظاهر عداوته لهم، أردف ذلك ببيان حال طائفة من الناس لم يستمعوا لهذا النصح، بل اتبعوا خطوات الشيطان فقلدوا آباءهم فى الشرك والجهالة فقال - تعالى -:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا... }.