خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
١٧٢
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٧٣
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الطيبات من الأطعمة: المستلذات، ويجوز حملها على ما طاب من الرزق بتحليل الله له. وما رزقناكم: ما أوصلناه إليكم من الرزق، - وهو ما ينتفع به.
أى: يا من آمنتم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كلوا من ألوان الطيبات التى أحللناها لكم، ولا تتعرضوا لما حرمناه عليكم.
وكان الخطاب هنا للمؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأجدر بالعلم وأحرى بالاهتداء، وأولى بالتكريم والتشريف.
ومفعول { كُلُواْ } محذوف، أى: كلوا رزقكم حال كونه بعض طيبات ما رزقناكم.
ثم أمرهم - سبحانه - بشكره على هذه الطيبات التى أباحها لهم فقال: { وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }.
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على جملة { كُلُواْ }.
والشكر: هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم لموجدها، ووضعها فى الموضع الذى أمر به.
أى: تمتعوا بنعم الله، واعترفوا له بها على وجه التعظيم، بأن تمتثلوا ما أمر به، وتجتنبوا ما نهى عنه، إن كنتم تخصونه بالعبادة حقاً، وتفردونه بالطاعة صدقاً.
قال الآلوسى: وجملة { إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } بمنزلة التعليل لطلب الشكر، كأنه قيل: "واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة، وتخصيصكم إياه بالعبادة، يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه، وهى لا تتم إلا بالشكر، لأنه من أجل العبادات".
وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور والتقدير: إن كنتم إياه تعبدون فكلوا واشكروا لله.
ولقد أمر الله - تعالى - عباده أن يشكروه فى آيات كثيرة ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } }. وقال - تعالى -: { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } وفى الحديث الصحيح الذى رواه البخارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر" وروى الإِمام مسلم فى صحيحه عن أنس بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها" .
قال صاحب المنار: قال الأستاذ الإِمام: لا يفهم هذه الآية حق فهمهما إلا من كان عارفاً بتاريخ الملل عند ظهور الإِسلام وقبله، فإن المشركين وأهل الكتاب كانوا فرقاً وأصنافاً، منهم من حرم على نفسه أشياء معينة بأجناسها أو أصنافها كالبحيرة والسائبة عند العرب، وكبعض الحيوانات عند غيرهم وكان المذهب الشائع فى النصارى أن أقرب ما يتقرب به إلى الله - تعالى - تعذيب النفس، وحرمانها من الطيبات المستلذة، واحتقار الجسد ولوازمه، واعتقاد أنه لا حياة للروح إلا بذلك... ثم قال: وقد تفضل الله على هذه الأمة بأن جعلها أمة وسطاً تعطى الجسد حقه والروح حقها، فأحل لنا الطيبات لتتسع دائرة نعمه الجسدية علينا، وأمرنا بالشكر عليها ليكون لنا منها فوائد روحانية عقلية، فلم نكن جسمانيين محضاً كالأنعام، ولا روحانيين خلصا كالملائكة، وإنما جعلنا أناسى كملة بهذه الشريعة المعتدلة، فله الحمد والشكر والثناء الحسن".
وقوله - تعالى - { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } بيان لما حرمه الله - تعالى - علينا من المطاعم رعاية لمنفعتنا.
و{ ٱلْمَيْتَةَ } فى عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعه، فيدخل فيها: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما عدا عليها السبع، ويدخل فى حكم الميتة ما قطع من جسم الحيوان الحى للحديث الذى أخرجه أبو داود والترمذى عن أبى واقد الليثى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما قطع من البهيمة وهى حية فهو ميتة" .
وكان الأكل من الميتة محرماً، لفساد جسمها بذبول أجزائه وتعفنها، ولأنها أصبحت بحالة تعافها الطباع السليمة لقذارتها وضررها.
قال الآلوسى: وأضاف - سبحانه - الحرمة إلى العين - مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التى هى صفات فعل المكلف وليست مما تتعلق بالأعيان - إشارة إلى حرمة التصرف فى الميتة من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده، حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ، وخرج عن حكم الميتة السمك والجراد، للحديث الذى أخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال" وللعرف أيضاً، فإنه إذا ما قال القائل: أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافى وما مات من الجراد بغير سبب، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافاً لمن أباحه".
والدم المحرم: ما يسيل من الحيوان الحى كثيراً كان أم قليلا وكذلك يحرم من دم الحيوان ما جرى منه بعد تذكيته، وهو الذى عبر عنه القرآن بالمسفوح فى قوله - تعالى -:
{ قُل لاَّ أَجِدُ فى مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً... } والدم المسفوح: هو الدم الجارى المهراق من البهيمة بعد ذبحها.
أما الدم المتبقى فى أجزاء لحم البهيمة بعد تذكيتها فلا شىء فيه.
قال القرطبى: وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى. والذى تعم به البلوى هو الدم فى اللحم وعروقه... وقد روت عائشة - رضى الله عنها - قالت: كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره" لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة، والإِصر والمشقة فى الدين موضوع. وهذا أصل فى الشرع".
وقد عرف عن بعض العرب فى الجاهلية أنهم كانوا يأخذون الدم من البهائم عند ذبحها، فيضعونه فى أمعائها ثم يشوونها بالنار ويأكلونها ويسمون ذلك بالفصيد.
قال بعضهم: والحكمة فى تحريم الدم أنه تستقذره النفوس الكريمة، ويفضى شربه أو أكله إلى الإِضرار بالنفس، وفضلا عن ذلك فإن تعاطيه يورث ضراوة فى الإِنسان، وغلظة فى الطباع فيصير كالحيوان المفترس، وهذا مناف لمقصد الشريعة التى جاءت لإِتمام مكارم الأخلاق.
وحرمة الخنزير شاملة للحمه وشحمه وجلده. وإنما خص لحمه بالذكر، لأنه الذى يقصد بالأكل، ولأن سائر أجزاء الخنزير كالتابعة للحمه. وبعض الفقهاء يرى أنه لا بأس من الانتفاع بشعر الخنزير فى الخرازة - أى: خياطة الجلود وغيرها -، وبعضهم كره ذلك.
ومن الحكم فى تحريم لحم الخنزير قذارته، واشتماله على دودة تضر ببدن آكله وقد أثبت ذلك العلم الحديث.
وما يقوله قوم من أن وسائل العلم الحديث قد تقدمت، وصار فى الإِمكان التغلب على ما فى لحم الخنزير من أضرار هذا القول مردود بأن العلم الحديث قد احتاج إلى ثلاثة عشر قرناً ليكتشف آفة واحدة فى لحم الخنزير، فمن ذا الذى يجزم بأنه ليس هناك آفات أخرى فى هذا اللحم لم يعرفها العلم حتى الآن؟
إن الشريعة التى سبقت العلم الحديث بأكثر من ثلاثة عشر قرناً أولى بالاتباع، وأجدر بالطاعة فيما أحلته وحرمته مما يقوله الناس، لأنها من عند الله العليم بشئون عباده، الخبير بما ينفعهم وبما يضرهم.
وقوله: { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } معطوف على ما قبله من المحرمات. و{ أُهِلَّ } من الإِهلال، وهو رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقاً، ومنه إهلال الصبى، والإِهلال بالحج. وكانوا فى الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها - كاللات والعزى - ورفعوا بها أصواتهم، وسمى ذلك إهلالا.
فالمراد بما أهل به لغير الله: ما ذبح للأصنام وغيرها، ومنه ما يذبحه المجوسى للنار. ومنه عند جمهور العلماء: ذبائح أهل الكتاب إذا ذكر عليها اسم عزير أو عيسى، لأنها مما أهل به لغير الله.
وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقاً، لعموم قوله - تعالى - فى سورة المائدة وهى من آخر سورة نزولا:
{ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } أى ذبائحهم، وهو - سبحانه - يعلم ما يقولون.
وروى الحسن عن على - رضى الله عنه - أنه قال: إذا ذكر الكتابى اسم غير الله على ذبيحته وأنت تسمع فلا تأكل، فإن غاب عنك فكل، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
وقد روى البخارى
"عن عائشه - رضى الله عنها - قالت: إن قوماً قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندرى أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوه. قالت: وكانوا حديثى عهد بكفر" .
فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه، بل المحرم ما علم أن غير اسم الله من الأوثان والأنداد ونحو ذلك قد ذكر عليه.
فأنت ترى أن تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير كان لاستقذار الأكل من هذه الثلاثة، أى: لعلة ذاتية فيها، أما تحريم ما أهل به لغير الله فليس لعلة فيه، ولكن للتوجه به إلى غير الله. وهى علة روحية تنافى سلامة القلب، وطهارة الروح، ووحدة المتجه فما ذكر عليه سوى اسم الله من الذبائح ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية، وفى ذلك حض للناس على إخلاص العبادة لله - تعالى -، وزجر لهم عن التقرب إلى أحد سواه.
وقوله - تعالى -: { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } بيان لحالات الضرورة التى يباح للإِنسان فيها أن يأكل من تلك المحرمات.
و{ ٱضْطُرَّ } من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشىء. يقال: اضطره إلى هذا الشىء. أى: أحوجه وألجأه إليه مأخوذ من الإِضرار، وهو حمل الإِنسان على أمر بكرهه، وقهره عليه بقوة يناله بدفعها الهلاك.
و{ بَاغٍ } من البغاء وهو الطلب. تقول: بغيته بغاء وبغيا وبغية أى: طلبته.
و{ عَادٍ } اسم فاعل بمعنى متعد، تقول. عدا طوره إذا تجاوز حده وتعداه إلى غير فهو عاد، ومنه قوله - تعالى - فى شأن قوم لوط
{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } و{ غَيْرَ } منصوب على الحال من الضمير المستتر فى { ٱضْطُرَّ } وهى هنا بمعنى النفى ولذا عطف عليها لا.
والمعنى: فمن ألجأته ضرورة إلى أكل شىء من هذه المحرمات: حالة كونه غير باغ: أى غير طالب للمحرم وهو يجد غيره، أو غير طالب له لإِشباع لذته، أو غير طالب له على جهة الاستئثار به على مضطر آخر، أو غير ساع فى فساد { وَلاَ عَادٍ } أى: وغير متجاوز ما يسد الجوع، ويحفظ الحياة { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ } أى: فلا إثم عليه فى أكله من هذه المحرمات.
وبهذا نرى لونا من ألوان سماحة الإِسلام ويسره فى تشريعاته، التى أقامها الله - تعالى - على رفع الحرج، ودفع الضرر، قال - تعالى -
{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وقال - تعالى -: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل قصد به الامتنان. أى: إن الله - تعالى - موصوف بهذين الوصفين الجليلين، ومن كان كذلك كان من شأنه أن يعفو عن الخطايا، ويغفر الذنوب، ويشرع لعباده ما فيه يسر لا ما فيه عسر.
هذا، وظاهر هذه الآية الكريمة يقتضى أنه ليس هناك محرم من المطعومات سوى هذه الأربعة، لكنا نعلم فى الشرع أن هناك مطعومات أخرى قد حرم على المسلم تناولها كلحوم الحمر الأهلية، فعلى هذا تكون لفظة "إنما" متروكة الظاهر فى العمل - كما قال الإِمام الرازى - أى: أن الحصر فيها غير مقصود وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى سورة الأنعام:
{ قُل لاَّ أَجِدُ فى مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ثم تحدث القرآن عن سوء عاقبة الذين يكتمون ما أمر الله بإظهاره وتوعدهم بأقسى ألوان العذاب فقال - تعالى -:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ...لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }.