خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ
١٧٧
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

{ ٱلْبِرَّ }: اسم جامع لكل خير، ولكل طاعة وقرية يتقرب بها العبد إلى خالقه - عز وجل -.
قال الراغب: "البر - بفتح الباء - خلاف البحر، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر - بكسر الباء - بمعنى التوسع فى فعل الخير، وينسب ذلك إلى الله - تعالى - تارة نحو:
{ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } وإلى العبد تارة فيقال: بر العبد ربه، أى توسع فى طاعته فالبر من الله الثواب، ومن العبد الطاعة".
وتولية الوجوه قبل الشىء معناه: التوجه إليه بجعل الوجه متجها إلى جهته فلفظ "قيل" بمعنى جهة وهو منصوب على الظرفية المكانية.
و{ ٱلْمَشْرِقِ }: الجهة التى تشرق منها الشمس، والمغرب: الجهة التى تغرب فيها.
قال الإِمام الرازى: اختلف العلماء فى أن هذا الخطاب عام أو خاص. فقال بعضهم: أراد بقوله: { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ } أهل الكتاب لما شددوا فى الثبات على التوجه بنحو بيت المقدس فقال - تعالى - ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله. وقال بعضهم: بل المراد مخاطبته المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام وقال بعضهم: بل هو خطاب للكل، لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الاغتباط بهذه القبلة، وحصل منهم التشدد فى تلك القبلة حتى ظنوا أنه الفرض الأكبر فى الدين، فبعثهم الله - تعالى - بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات، وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقاً وغرباً، وإنما البر. كيت وكيت. وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخصيص فيه، فكأنه - تعالى - قال: ليس البر المطلوب هو أمر القبلة، بل البر المطلوب هو هذه الخصال التى عدها".
وهذا القول الثالث - الذى يرى أصحابه أن الخطاب للكل، والذى قال عنه الإِمام الرازى: هذا أشبه بالظاهر - هذا القول، هو الذى تسكن إليه النفس، لأنه لا يوجد نص صحيح يخصص الخطاب لطائفة معينة من الناس ولأن المقصود من الآية الكريمة إنما هو إفهام الناس فى كل زمان ومكان أن مجرد تولية الوجه إلى قبلة مخصوصة ليس هو البر الكامل الذى يعنيه الإِسلام، وإنما البر الكامل يتأنى فى استجابة الإِنسان لتلك الخصال الشريفة التى اشتملت عليها الآية، تلك الخصال التى تجعل المستمسكين بها على صلة طيبة بخالقهم وعلى صلة طيبة بغيرهم، - كما سنبين ذلك عند تعليقنا على هذه الآية الكريمة -.
والمعنى: ليس البر - الذى هو كل طاعة يتقرب بها الإِنسان إلى خالقه - فى تولية الوجه عند الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب، وإنما البر الذى يجب الاهتمام به لأنه يؤدى إلى السعادة والفلاح - يكون فى الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وفى انفاق المال فى وجوه الخير، وفى اتباع ما ذكرته الآية الكريمة من خصال جليلة.
هذا وقد قرأ حمزة وحفص عن عاصم { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ } بنصب البر على أنه خبر ليس، واسمها قوله - تعالى -: { أَن تُوَلُّواْ } أى: ليس توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب البر كله.
وقرأ الباقون { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ } برفع البر على أنه اسم ليس، وخبرها قوله - تعالى -: { أَن تُوَلُّواْ } أى ليس البر كله توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب.
قال الطبرسى: وكلا المذهبين حسن، لأن كل واحد من اسم ليس وخبرها معرفة، فإذا اجتمعا فى التعريف تكافآ فى كون أحدهما اسما والآخر خبراً كما تتكافأ النكرتان.
وقوله - تعالى -: { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ } إلخ بيان لما هو البر الذى يجب أن تتجه إليه الأفكار، وتستجيب له النفوس.
و{ وَلَـٰكِنَّ } حرف استدراك، البر: اسمها. وقوله { مَنْ آمَنَ } وقع فى اللفظ موقع الخبر عن قوله { ٱلْبِرَّ } والخبر فى المعنى لفظ مقدر مضاف إلى من آمن، يفهم من سياق الجملة، والمعنى مع ملاحظة المقدر: ولكن البر بر من آمن بالله.
وهذا اللون من الإِيجاز الذى حذف فيه المضاف معهود فى كلام البلغاء إذ تجدهم يقولون السخاء حاتم، والشعر زهير. أى السخاء سخاء حاتم، والشعر شعر زهير.
وقيل: إن البر هنا بمعنى البار فجعل المصدر فى موضع اسم الفاعل، كما يقال: ماء غور أى: غائر، ورجل صوم أى: صائم.
وقيل: إن المحذوف هو لفظ مضاف إلى البر. أى: ولكن ذا البر من آمن بالله.
وقد ابتدأت الآية حديثها عن خصال البر بالإِيمان بالله، لأنه أساس كل بر. وأصل كل خير، والإِيمان بالله: هو التصديق بأنه هو الواحد الفرد الصمد، الذى لا تعنو الوجوه إلا له، ولا تتجه القلوب بالعبادة إلا إليه، ومتى رسخ هذا الإِيمان فى النفوس ارتفع بها إلى مكانة التكريم التى أرادها الله - تعالى - لبنى آدم وصانها عن الذلة والاستكانة وأعطاها نبراس الهداية والسداد فى كل نواحى الحياة.
ثم ذكرت الإِيمان باليوم الآخر، وهو التصديق بالبعث وما يقع بعده من حساب وثواب وعقاب على الوجه الذى وصفته نصوص الشريعة بأجلى بيان.
والإِيمان باليوم الآخر من ثماره أنه يغرس فى النفوس محبة الخير، والحرص على إسداء المعروف وينفرها من اقتراف الشرور وارتكاب الآثام.
ولقد تحدث القرآن عن الإِيمان بالله واليوم الآخر فى عشرات الآيات، وأقام الأدلة الساطعة، والبراهين القاطعة على وحدانية الله وعلى أنه هو صاحب الكمال المطلق، كما أقام الحجج والبراهين على أن البعث حق وضرب الأمثال لذلك، وسفه عقول المنكرين له.
ثم ذكرت الإِيمان بالملائكة والملائكة: أجسام لطيفة نورانية، قادرون على التشكل فى صورة حسنة مختلفة، وصفهم القرآن بأنهم
{ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ووجه دخول التصديق بهم فى حقيقة الإِيمان، أن الله وسطهم فى إبلاغ وحيه لأنبيائه، وبين ذلك فى كتابه، وتحدث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عنهم فى كثير من أحاديثه، فمن لم يؤمن بالملائكة على هذا الوجه الذى جاءت به الشريعة فقد انكر الوحى، إذ الإِيمان بهم أصل للإِيمان بالوحى، فيلزم من إنكارهم إنكار الوحى، وهو يستلزم إنكار النبوة وإنكار الدار الآخرة.
ثم ذكرت الآية الإِيمان بالكتاب. والمراد به القرآن لأنه المقصود بالدعوة، ولأنه هو الأمين على الكتب قبله، فما وافقه منها كان حقاً وما خالفه كان باطلا.
والإِيمان به يستلزم الإِيمان بجميع الكتب المنزلة من عند الله على أنبيائه، لأنه هو الذى أخبرنا بذلك وأمرنا بذلك وأمرنا بأن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.
ثم ذكرت الإِيمان بالنبيين، أى: التصديق بأنهم رجال اصطفاهم الله - تعالى - لتلقى هدايته وكتبه وتبليعها للناس بصدق وأمانة وسلامة بصيرة.
والنبيون الذين يجب الإِيمان بهم: كل من ثبتت نبوته عن طريق القرآن الكريم أو الحديث الصحيح، وكل من أنكر نبوة نبى قد ثبتت نبوته فقد خرج عن طريق الإِيمان.
ولقد قام الدليل القاطع على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين، وكل من ادعى غير ذلك فهو من الضالين المضلين.
وقد جمعت هذه الأمور الخمسة التى ذكرتها الآية كل ما يلزم أن يصدق به الإِنسان، لكى يكون ذا عقيدة سليمة، تصل به إلى الفلاح والسعادة.
ثم ذكرت الآية بعد بيان أصول الإِيمان أصول الأعمال الصالحة فقالت. { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وفى ٱلرِّقَابِ } .
وهذه الجملة معطوفة على قوله - تعالى -: { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ }.
والضمير فى قوله { عَلَىٰ حُبِّهِ } يعود إلى المال، أى: أعطى المال وبذله عن طيب خاطره حالة كونه محباً له راغباً فيه. لأن الإِعطاء والبذل فى هذه الحالة يدل على قوة الإِيمان، وصفاء الوجدان، ويسمو بصاحبه إلى أعلا الدرجات. قال - تعالى -:
{ لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } وقد بين النبى صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصدقة ما كان فى حال الصحة، لأن الإِنسان فى هذه الحالة يكون مظنة الحاجة إلى المال فقد أخرج البخارى فى صحيحه عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم قال: "يا رسول الله، أى الصدقة أعظم أجراً؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا وكذا وقد كان لفلان" .
وقيل الضمير يعود إلى الله - عز وجل - أى: يعطون المال على حب الله وطلباً لمرضاته.
وقيل يعود إلى الايتاء الذى دل عليه قوله - تعالى - { وَآتَى ٱلْمَالَ } فكأنه قال: يعطى ويحب الاعطاء رغبة فى ثواب الله.
والمراد بذوى القربى: أقرباء المعطى للمال والمعنى: وأعطى المال مع محبته لهذا المال لأقاربه المحتاجبين لأنهم أولى بالمعروف، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم، ولذلك جاء ذكرهم فى الآية مقدماً على بقية الأصناف التى تستحق العطف والإِحسان.
روى الإِمام أحمد والترمذى والنسائى وغيرهم عن سليمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الصدقة على المسكين صدقة. وعلى ذى الرحم اثنتان: صدقة وصلة" .
{ وَٱلْيَتَامَىٰ }: جمع يتيم، وهو من فقد أباه بالموت ولم يبلغ الحلم. وهؤلاء اليتامى فى حاجة إلى الإِحسان إليهم بعد ذوى القربى متى كانوا محتاجين، لشدة عجزهم عن كسب ما يسد حاجتهم.
{ وَٱلْمَسَاكِينَ } جمع مسكين، وهو من لا يملك شيئاً من المال، أو يملك ما لا يكفى حاجاته وهذا النوع من الناس فى حاجة إلى العناية والرعاية؛ لأنهم فى الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل على إراقة وجوههم بالسؤال. وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ليس المسكين الذى يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان. قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال الذى لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئاً" .
{ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ }: هو المسافر المنقطع عن ماله. وسمى بذلك - كما قال الآلوسى - لملازمته السبيل - أى الطريق - فى السفر، أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه وأصحابه فهو أبدا يتوق إلى الجمع، ويشتاق إلى الربع، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه".
وهذا النوع من الناس فى حاجة إلى المساعدة والمعاونة حتى يستطيع الوصول إلى بلده، وفى هذا تنبيه إلى المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغى أن يكونوا فى التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة.
{ وَٱلسَّآئِلِينَ }: جمع سائل، وهو الطالب للإِحسان والمعروف. ويحمل حاله على أنه فى حاجة إلى المعاونة، لأن السؤال علامة الحاجة غالباً.
والرقاب: جمع رقبة وهى فى الأصل العنق، وتطلق على البدن كله كما تطلق العين على الجاسوس. فصح حمل الرقاب على الأسارى والأرقاء.
وقوله: { وفى ٱلرِّقَابِ } متعلق بآتى، أى: آتى المال على حبه فى تخليص الأسرى من أيدى العدو بفدائهم، وتخليص الأرقاء بشرائهم وإعتاقهم. وهذه الأصناف الستة التى ذكرت فى تلك الآية الكريمة { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ.. } إلخ.
ليس المقصود من ذكرها الاستيعاب والحصر، ولكنها ذكرت كأمثلة وخصت بالذكر لأنها أحوج من غيرها إلى العون والمساعدة.
والذى يراجع القرآن الكريم يجده قد عنى عناية كبرى بالفقراء والمساكين وجميع أصناف المحتاجين حتى لا تكاد سورة من سوره تخلو من الحث على الإِنفاق عليهم، وبذل العون فى مساعدتهم - وأيضا - هناك عشرات الأحاديث فى الحض على مد يد العون إلى ذوى القرابة والمعسرين، وذلك لأن المجتمعات تحيا وتنهض بالتراحم، وتذل وتشقى بالتقاطع والتدابر بين أبنائها.
ثم ذكرت الآية ألواناً أخرى من البر تدل على قوة الإِيمان وحسن الخلق فقالت: { وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ } وإقامة الصلاة أداؤها فى مواقيتها مستوفية لأركانها وسننها وخشوعها على الوجه الشرعى الذى أمر الله به، والمراد بالزكاة هنا، الزكاة المفروضة على الوجه الذى فصلته السنة المطهرة. وإبتاؤها: يكون بإعطائها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهم ممن ذكرهم الله فى قوله - تعالى -:
{ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفي ٱلرِّقَابِ وَٱلْغَارِمِينَ وفي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وفى ذكر الزكاة المفروضة بعد ذكر إيتاء المال على حبه لذوى القربى واليتامى.. إلخ دليل على أن فى الأموال حقوقا لذوى الحاجات سوى الزكاة، وذلك لأنه من المعروف بين أهل العلم أن الحاجة إذا بلغت بطائفة من أبناء الأمة حد الضرورة، يجب على الأغنياء منها أن يسعوا فى سدها ولو مما زاد على قدر الزكاة.
والأغنياء الذين يكتفون بدفع الزكاة، ولا يمدون يد المساعدة لسد حاجة المحتاجين، وتفريج كرب المكروبين، ودفع ضرورة البائسين، ليسوا على البر الذى يريده الله من عباده المتقين.
ومسألة "هل فى المال حق سوى الزكاة" من المسائل التى تناولها بعض العلماء بالشرح والتفصيل.
وقوله: { وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } معطوف على قوله { مَنْ آمَنَ } فإنه فى قوة قولك، ومن أوفوا بعهدهم، وأوثرت صيغة اسم الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء.
الوفاء بالعهد يشمل ما عاهد المؤمنون عليه الله من الإِذعان لكل ما جاء به الدين، ويشمل ما يعاهد به الناس بعضهم بعضاً مما لا يحل حراماً ولا يحرم حلالا.
والموفون بعهدهم هم الذين إذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا بروا فى أيمانهم، وإذا قالوا صدقوا فى قولهم، وإذا ائتمنوا أدوا الأمانة، وقد وعدهم الله على ذلك بأجزل الثواب، وأعلى الدرجات.
وفى قوله - تعالى -: { إِذَا عَاهَدُواْ } إشارة إلى أن إيفاءهم بالعهد لا يتأخر عن وقت حصول العهد.
ثم ختم - سبحانه - خصال البر بقوله: { وَٱلصَّابِرِينَ فى ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ }. البأساء من البؤس، وهى ما يصيب الناس فى الأموال كالفقر والاحتياج. يقال: بئس يبأس بؤساً وبأساً أى اشتدت حاجته.
والضراء من الضر، وهى ما يصيبهم فى أنفسهم كالأمراض والأسقام يقال: ضره وأضره وضاره وضراً، ضد نفع: والألف فى البأساء والضراء للتأنيث.
وحين البأس، أى: ووقت القتال فى سبيل الله لإِعلاء كلمته، يقال: بؤس ببؤس بأسا فهو بئيس، أى: شجاع شديد.
وقوله: { وَٱلصَّابِرِينَ } معطوف فى المعنى على { مَنْ آمَنَ } كقوله { وَٱلْمُوفُونَ } إلا أنه جاء منصوبا على المدح بتقدير - أخص أو أمدح - وغير سبكه عما قبله، تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على غيره من الفضائل حتى لكأنه ليس من جنس ما سبقه من فضائل، وهذا الأسلوب يسمى عند علماء اللغة العربية بالقطع، وهو أبلغ من الإِتباع. ولا ريب فى أن صفة الصبر على الشدائد والآلام وحين القتال فى سبيل الله، جديرة بأنه ينبه لمزيد فضلها، إذ هى أصل لكثير من المكارم كالعفاف عما فى أيدى الناس، والتسليم للقضاء الذى لا مرد له، والإِقدام الذى يحمى به الدين وتسلم به النفوس والأموال والأعراض:
وليس الصبر هو الخضوع والاستكانة والاستسلام من غير مقاومة ولا عمل وإنما الصبر جهاد ومحاولة للتغلب على المصاعب، ومع الاحتفاظ برباطة الجأش والثقة بحسن العاقبة.
وقد خصت الآية ثلاثة حالات بالصبر؛ لأن هذه الحالات هى أبرز الأشياء التى يظهر فيها هلع الهالعين وجزع الجازعين، كما يتميز فيها أصحاب النفوس القوية المطمئنة من غيرهم.
وجاءت كلمة "حين" فى قوله: { وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } مشيرة إلى أن مزية الصبر فى القتال إنما تظهر حين يلتقى الجمعان، وتدور رحى الحرب، لأن بعض الناس قد يكون قوياً فى بدنه، وقد يحشر نفسه فى زمرة الأبطال المقاتلين، ولكنه عندما يرى الأعناق تتساقط من حوله تخور قواه، ويلوذ بالفرار، أو يستسلم للعدو. وفى هذه الحالة تسلب عنه صفة الصابرين حين البأس. وتحق عليه صفة الضعفاء الجبناء.
وقد جاءت أنواع الصبر فى الآية على وجه الترقى من الشديد إلى الأشد، وذلك لأن الصبر على المرض أصعب من الصبر على الفقر، والصبر حين البأس أصعب من الصبر على المرض. ثم ختمت الآية حديثها عن هؤلاء الجامعين لهذه الخصال بقوله تعالى: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ }.
أولئك اسم إشارة للجمع، وقد أشير به إلى من تقدم ذكرهم من الجامعين لخصال البر. والصدق توصف به الأقوال المطابقة للواقع، وتوصف به الأعمال الواقعة على الوجه الذى يرضى الله - تعالى -.
والمتقون من الاتقاء وهو الحذر، ويطلق المتقى فى كلام الشارع على الانسان الذى صان نفسه عن كل ما يغضب الله، وامتثل لأوامره ونواهيه.
أى: أولئك الذين تقدم ذكرهم من المحرزين لخصال البر هم الصادقون فى إيمانهم وفى كل أحوالهم، وأولئك هم المتقون لعذاب الله - تعالى - بسبب امتثالهم لأوامره، واجتنابهم لما نهى عنه.
واسم الإِشارة { أُولَـٰئِكَ } جىء به لإِحضارهم فى أذهان المخاطبين وهم متصفون بتلك المناقب الجليلة.
وفى تكرير الإِشارة زيادة تنويه بشأنهم وفضلهم. وجاء الإِخبار عنهم بأنهم الصادقون المتقون، لتشيرهم بأنهم قد بلغوا بإحرازهم لتلك الخصال السابقة الغاية التى يطمح إليها أرباب البصائر المتنيرة، والنفوس المتقيمة، والقلوب السليمة، وهى مقام الصدق والتقوى الذى يرتفع بصاحبه إلى السعادة فى الدنيا، والنعيم الدائم فى الآخرة.
هذا وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة عشر نوعاً من أنواع البر الذى يهدى إلى الحياة السعيدة فى الدنيا، وإلى رضا الله - تعالى - فى الآخرة، وذلك لأنها قد أرشدت إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير: بر فى العقيدة، وبر فى العمل، وبر فى الخلق.
أما بر العقيدة فقد بينته أكمل بيان فى قوله - تعالى -: { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ }.
فقد جمعت فى هذه الجملة الكريمة مالا يتم الإِيمان إلا بتحققه.
وأما بر العمل فقد وضحته أبلغ توضيح فى قوله - تعالى -: { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وفي ٱلرِّقَابِ }.
ولا شك أن إنفاق المال فى تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم، ويكون مظهراً من أفضل مظاهر العمل الصالح الذى يرضى الله - تعالى -.
وأما بر الخلق فقد ذكرته بأحكم عبارة فى قوله - تعالى -: { وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ في ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ }.
وذلك لأن التمسك بهذه الفضائل. أداء الصلاة وإيتاء الزكاة. والوفاء بالعهود، والتذرع بالصبر - يدل على صفاء الإِيمان وطهارة الوجدان وحسن الخلق وكمال الاستقامة.
وهكذا تجمع آية واحدة من كتاب الله بين بر العقيدة وبر العمل وبر الخلق، وتربط بين الجميع برباط واحد لا ينفصم، ونضع على هذا كله عنواناً واحداً "البر" وتمدح من استجمع أنواعه بالصدق والتقوى.
فلله هذا الاستقراء البديع، وذلك التوجيه السديد، الذى يشهد أن هذا القرآن من عند الله
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } وبعد أن بين - سبحانه - أن البر الجامع لألوان الخير يتجلى فى الإِيمان بالله واليوم الآخر.. وفى بذل المال فى وجوه الخير، وفى المحافظة على فرائضه - سبحانه - وفى غير ذلك من أنواع الطاعات التى ذكرتها الآية السابقة بعد كل ذلك شرع - سبحانه - فى بيان بعض الأحكام العملية الجليلة التى لا يستغنى عنها الناس فى حياتهم، وبدأ هذه الأحكام بالحديث عن حفظ الدماء لماله من منزلة ذات شأن فى إصلاح العالم - فقال - تعالى -:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ...لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.