خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
١٨٨
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الخطاب فى الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين كافة فى كل زمان ومكان.
والمراد بالأكل مطلق الأخذ بغير وجه حق، وعبر عنه بالأكل، لأن الأكل أهم وسائل الحياة، وفيه تصرف الأموال غالباً.
والباطل فى اللغة: الزائل الذاهب، يقال: بطل يبطل بطولا وبطلانا. أى ذهب ضياعاً وخسراً. وجمع الباطل أباطيل. ويقال: بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو.
والمراد هنا: كل ما لم يبح الشرع فأخذه من المال وإن طابت به النفس، كالربا والميسر وثمن الخمر، والرشوة، وشهاد الزور، والسرقة، والغصب، ونحو ذلك مما حرمه الله - تعالى -.
والباء للسببية، والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله، وكذلك قوله: { بَيْنَكُمْ }.
والمعنى: لا يأخذ بعضكم مال بعض، ويستولى عليه بغير حق، متذرعاً بالأسباب الباطلة، والحيل الزائفة، وما إلى ذلك من وجوه التعدى والظلم.
وفى قوله - تعالى -: { أَمْوَالَكُمْ } - مع أن أكل المال يتناول مال الإِنسان ومال غيره - فى هذا القول إشعار بوحدة الأمة وتكافلها، وتنبيه إلى أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لما لك أنت، ففى هذه الإِضافة البليغة تعليل للنهى، وبيان لحكمة الحكم، إذا استحلال الإِنسان لمال غيره يجرئ هذا الغير على استحلال مال ذلك الإِنسان المتعدى، وإذا فشا هذا السلوك فى أمة من الأمم أدى بها إلى الضعف والتعادى والتباغض.
فما أحكم هذا التعبير، وما أجمل هذا التصوير.
وقوله:{ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } بيان لصورة أخرى قبيحة من صور أكل أموال الناس بالباطل وقوله: { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ } معطوف على { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ }.
والإِدلاء فى الأصل: إرسال الدلو فى البئر للاستقاء. ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء؛ ومنه أدلى فلان بحجته، أى: أرسلها ليصل إلى مراده.
والمراد بالإِدلاء هنا: الدفع والإِلقاء بالأموال إلى الغير من أجل الوصول إلى أمر معين.
والحكام: جمع حاكم، وهو الذى يتصدى للفصل بين الناس فى خصوماتهم وقضاياهم.
والفريق: القطعة المعزولة من جملة الشىء، ومنه قيل للقطعة من الغنم تشذ عن معظمها فريق.
والإِثم: الفعل الذى يستحق صاحبه الذم والعقاب. وجمعه آثام.
والمعنى: لا يأخذ بعضكم أموال بعض - أيها المسلمون - ولا يستولى عليها بغير حق، ولا تدلوا بها الحكام، أى ولا تلقوا أمرها والتحاكم فيها إلى القضاة لا من أجل الوصول إلى الحق، وإنما من أجل أن تأخذوا عن طريق التحاكم قطعة من أموال غيركم متلبسين بالإِثم الذى يؤدى إلى عقابكم، حال كونكم تعلمون أنكم على باطل، ولا شك أن إتيان الباطل مع العلم بأنه باطل أدعى إلى التوبيخ من إتيانه على جهالة به.
فعلى هذا الوجه يكون المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام طرحها أمامهم ليقضوا فيها، وليتوسل بعض الخصوم عن طريق هذا القضاء إلى أكل الأموال بالباطل حين عجزوا عن أكلها بالمغالبة.
وهناك وجه آخر تحتمله الآية احتمالا قريباً، وبه قال كثير من العلماء وهو أن المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام، إلقاؤها إليهم على سبيل الرشوة ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يحكموا لصالحهم بالباطل، وعليه يكون المعنى.
لا يأخذ بعضكم أموال بعض أيها المسلمون، ولا تلقوا ببعضها إلى حكام السوء على سبيل الرشوة، لتتوصلوا بأحكامهم الجائرة إلى أكل فريق من أموال الناس بغير حق. ولا غرابة فى أن يعنى القرآن فى سياسته الرشيدة بالتحذير من جريمة الرشوة؛ فإنها المعول الذى يهدم صرح العدل من أساسه وبها تفقد مجالس القضاء حرمتها وكرامتها، وتصير تلك المجالس موطنا للظلم لا للعدل.
وخص القرآن الكريم هذه الصورة بالنهى - وهى صورة الإِدلاء بالأموال إلى الحكام - مع أنه قد ذكر ما يشملها بقوله: { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ } لأنها على وجهى تفسيرها شديدة الشناعة، جامعة لمنكرات كثيرة، كالظلم، والتباغض والرشوة، والغصب وغير ذلك. والحق، أن هذه الآية الكريمة أصل من الأصول التى يقوم عليها إصلاح المعاملات، وقد أخذ العلماء منها حرمة أكل أموال الناس بالباطل، وحرمة إرشاء الحكام ليقضوا للراشى بمال غيره، وقد لعن النبى صلى الله عليه وسلم الجميع فى الحديث الذى أخرجه الترمذى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لعن الله الراشى والمرتشى والراءش" وهو الواسطة الذى يمشى بينهما.
كما أخذوا منها أن حكم الحاكم على ما يقتضيه الظاهر من أمر القضية لا يحل فى الواقع حراماً، ولا يحرم حلالاً، والدليل على ذلك ما أخرجه الشيخان عن أم سلمة - رضى الله عنها -
" "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم فقال:إنما أنا بشر. وإنه ليأتينى الخصم. فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه قد صدق، فأقضى له بذلك. فمن قضيت له بحق بحق مسلم فإنما هى قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها" .
قال الإِمام ابن كثير: فدلت هذه الآية الكريمة هذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشىء فى نفس الأمر، فلا يحل فى نفس الأمر حراما ولا يحرم حلالا، وإنم اهو ملزم فى الظاهر، فإن طبق فى نفس الأمر فذاك وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره. ولهذا قال - تعالى - فى آخر الآية { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }. أى تعلمون بطلان ما تدعونه وترجونه فى كلامكم".
وبذلك تكون الآية الكريمة قد رسمت طريق الحق لمن يريد أن يسير فيه
{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } ثم انتقل القرآن إلى الحديث عن الأهلة لما لها من صلة بالصيام وبالقتال فى الأشهر الحرم وبمواقيت الحج فقال - تعالى -:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هى مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ... }.