خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٨٩
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ورد فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبى حاتم عن أبى العالية قال: "بلغنا أن بعض الناس قالوا: يا رسول الله، لم خلقت الأهلة فنزلت".
والأهلة: جمع الهلال، وهو الكوكب الذى يبزغ فى أول كل شهر، ويسمى هلالا لثلاث ليال أو لسبع ليلا من ظهوره، ثم يسمى بعد ذلك قمرا إلى أن يعود من الشهر الثانى.
قال بعضهم: وهو مشتق من استهل الصبى إذا بكى وصاح حين يولد، ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، وسمى بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره أو بالتكبير، ولهذا يقال أهل الهلال واستهل.
والمواقيت: جمع ميقات بمعنى الوقت، وهو ما يقدر لعمل من الأعمال وقيل: الميقات منتهى الوقت.
والمعنى: يسألك بعض الناس عن الحكمة من خلق الأهلة، قل لهم - يا محمد - إن الله - تعالى - قد خلقها لتكون معالم يوقت ويحدد بها الناس صومهم، وزكاتهم، وحجهم، وعدة نسائهم، ومدد حملهن، ومدة الرضاع، وغير ذلك مما يتعلق بأمور معاشهم.
قال - تعالى -:
{ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وخص الحج بالذكر مع أن الأهلة مواقيت لعبادات أخرى كالصوم والزكاة للتنبيه على أن الحج مقصور وقت أدائه على الزمن الذى عينه الله - تعالى - وأنه لا يجوز نقله إلى وقت آخر كما كانت العرب تفعل، إذ كانوا ينقلون ما شاؤوا من الأشهر الحرم الأربعة التى من جملتها ذو الحجة إلى شهر آخر غير حرام، وهو النسىء المشار إليه بقوله - تعالى -: { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فى ٱلْكُفْرِ } وخص الشارع المواقيت بالأهلة وأشهرها دون الشمس وأشهرها، لأن الأشهر الهلالية تعرف برؤية الهلال ومحاقه، وذلك ما لا يخفى على أحد من الخاصة أو العامة أينما كانوا بخلاف الأشهر الشمسية. فإن معرفتها تنبنى على النظر فى حركات الفلك وهى لا تتيسر ألا للعارفين بدقائق علم الفلك.
هذا، ومن الروايات التى وردت فى سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس قال: نزلت فى معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم قالا: يا رسول الله. ما بال الهلال يبدو - أو يطلع - دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، لا يكون على حال واحد؟ فنزلت.
وعلى هذه الرواية يكون الجواب بقوله - تعالى -: { قُلْ هى مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } من قبيل أسلوب الحكيم، وهو إجابة السائل بغير ما يتطلبه سؤاله، بتنزيل سؤاله منزلة غيره، تنبيها له على أن ذلك الغير هو الأولى بالسؤال لأنه هو المهم بالنسبة له.
فأنت ترى هنا أن السائلين قد سألوا عن سبب اختلاف الأهلة بالزيادة والنقصان، فأجيبوا ببيان الحكمة من خلقها، فكأنه - سبحانه - يقول لهم: عليكم أن تسألوا عن الحكمة والفائدة من خلق الأهلة لأن هذا هو الأليق بحالكم وهو ما أجبتكم عليه، لا أن تسألوا عن سبب تزايدها فى أول الشهر وتناقصها فى آخره، لأن هذا من اختصاص علماء الهيئة، وأنتم لستم فى حاجة إلى معرفة ذلك فى هذا الوقت.
ولعلماء البلاغة كلام جيد فى مزايا ما يسمونه بأسلوب الحكيم، فقد قال السكاكى ما ملخصه: "ولهذا النوع - أعنى إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر - أساليب متفننة، ولكل من تلك الأساليب عرق فى البلاغة يتشرب من أفانين سحرها، ولا كأسلوب الحكيم فيها. وهو تلقى المخاطب بغير ما يترقب، أو السائل بغير ما يتطلب، كما قال - تعالى -: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ } الآية. قالوا فى السؤال, ما بال الهلال يبدوا دقيقاً.. ألخ فأجيبوا بما ترى. وإن هذا الأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقور، وأبرزه فى معرض المسحور، وهل ألان شكيمة "الحجاج الثقفى" لذلك الرجل الخارجى، وسل سخيمته، حتى آثر أن يحسن على أن يسىء غير أن سحره بهذا الأسلوب؟ إذ توعده الحجاج بالقيد فى قوله "لأحملنك على الأدهم" فقال الخارجى متغابيا: مثل الأمير بحمل على الأدهم الأشهب. مبرزاً وعيده فى معرض الوعد، متوصلا أن يريه بألطف وجه: أن رجلا مثله جدير بأن يعد لا أن يوعد".
وقوله - تعالى -: { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } هذا القول الكريم نهى لجماعة المسلمين عن عادة كانوا يفعلونها فى الجاهلية، وهى أنهم كانوا إذا عادوا من حجهم أو أحرموا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، بل كانوا يدخلون من نقب ينقبونه فى ظهور بيوتهم.
أخرج البخارى عن أبى إسحاق قال: سمعت البراء - رضى الله عنه - يقول: نزلت هذه الآية فينا. كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عير بذلك فنزلت: { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ } إلخ.
والمعنى: وليس من البر ما كنتم تفعلونه فى الجاهلية من دخولكم البيوت من ظهورها عند إحرامكم أو عودتكم من حجكم، ولكن البر الحق الجامع لخصال الخير يكون فى تقوى الله بأن تمتثلوا أوامره وتجتنبوا نواهيه، وإذا ثبت ذلك فعليكم أن تأتوا البيوت من أبوابها عند إحرامكم أو رجوعكم من حجكم.
وفى الأمر بأتيان البيوت من أبوابها إشعار بأن إتيانها من ظهورها باسم الدين غير مأذون فيه، وكل ما يفعل باسم الدين وليس له فى الدين من شاهد فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وفى الآية الكريمة تعريض بمن يسأل النبى صلى الله عليه وسلم عما هو ليس من العلم المختص بالنبوة، ولا تتوقف معرفته على الوحى، فهذا السائل فى سؤاله مثله كمثل من يدخل البيت من ظهره لا من بابه.
قال بعضهم: وذلك لأن العلم على ضربين: علم دنيوى يتعلق بأمر المعاش - كمعرفة الصنائع ومعرفة حركات ومعرفة المعادن والنبات، وقد جعل الله لنا سبيلا إلى معرفة ذلك غير لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
وعلم شرعى يتعلق بالعبادات والمعاملات والعقيدة ولا سبيل إلى أخذه إلا من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
فلما جاءوا يسألون النبى صلى الله عليه وسلم عما أمكنهم معرفته من غير جهته أجابهم. ثم بين لهم أن البر فى التقوى وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين".
قال صاحب الكشاف: فإن قلت. ما وجه اتصال قوله - تعالى -: { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ } إلخ بما قبله؟ قلت: كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة فى نقصانها وتمامها: إن كل ما يفعله الله - تعالى - لا يكون إلا عن حكمة ومصلحة لعباده فدعوا السؤال عنه وانظروا فى واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البر فى شىء وأنتم تحسبونها برا. ويجوز أن يكون ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج، لأنه كان من أفعالهم فى الحج. ويحتمل أن يكون هذا لتعكيسهم فى سؤالهم وأن مثلهم كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره. والمعنى: ليس البر وما ينبغى أن تكونوا عليه بأن تعكسوا فى مسائلكم، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله ثم قال: { وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } أى: باشروا الأمور من وجوهها التى يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا، والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب".
وقوله - تعالى -: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أمر بالتقوى التى تتضمن القيام بجميع الواجبات واجتناب البدع والمنكرات. أى: افعلوا ما أمركم الله به، واجتنبوا ما نهاكم عنه، لتكونوا من المفلحين، وهم الفائزون بالحياة المطمئنة فى الدنيا والنعيم الخالد فى الآخرة. وبذلك تكون الآية الكريمة قد رددت عقول الناس إلى النظر والتأمل فى سنن الله وفى خلفه على النحو الذى ينشئ التقوى فى النفوس، ويوجه إلى العمل الصالح الذى يرضى الله - تعالى -.
وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين بطاعته وتقواه، وحضهم على الجهاد فى سبيله إذ هو من أجل مظاهرها، وبصرهم بحكمته وآدابه فقال - تعالى -:
{ وَقَاتِلُواْ فى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ...إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }.