خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٢٤٣
وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٤٤
مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٤٥
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الآلوسى: قوله - تعالى -: { أَلَمْ تَر } هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتى - كالأحبار وأهل التواريخ - وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهرت فى ذلك حتى أجريت مجرى المثل فى هذا الباب، بأن شبه من "لم ير" الشىء بحال من رآه فى أنه لا ينبغى أن يخفى عليه وأنه ينبغى أن يتعجب منه، ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى، قصداً إلى المبالغة فى شهرته وعراقته فى التعجب. ثم قال: والرؤية إما بمعنى الإِبصار مجازاً عن النظر، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار، لأن النظر اختيارى دون الادراك الذى بعده. وإما بمعنى الإِدراك القلبى متضمناً معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت - أى الرؤية - بإلى فى قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ.. }.
والمعنى: قد علمت أيها الرسول الكريم أو أيها الإِنسان العاقل - حال أولئك القوم الذين خرجوا من ديارهم التى ألفوها واستوطنوها، وهم ألوف مؤلفة، وكثرة كاثرة، وما كان خروجهم إلا فرارا وخوفاً من الموت الذى سيلاقيهم - إن عاجلا أو آجلا -.
ومن لم يعلم حالهم فها نحن أولاء نعلمه بها ونحيطه بما جرى لهم عن طريق هذا الكتاب الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والمقصود من هذه الآية الكريمة حض الناس جميعاً على الاعتبار والاتعاظ وزجرهم عن الفرار من الموت هلعاً وجبناً، وتحريضهم على القتال فى سبيل الله فقد قال - تعالى - بعد ذلك: { وَقَاتِلُواْ فى سَبِيلِ اللَّهِ... } وإفهامهم أن الفرار من الموت لن يؤدى إلا إلى الوقوع فيه.
وقوله: { وَهُمْ أُلُوفٌ } جملة حالية من الضمير فى { خَرَجُواْ } و{ أُلُوفٌ } جمع ألف. والتعبير بألوف يفيد أنهم كانوا كثيرى العدد، ومن شأن الكثرة أنها تدعو إلى الشجاعة ولكنهم مع هذه الكثرة قد استولى عليهم الجبن فخرجوا من ديارهم هرباً من الموت.
وقيل إن معنى { وَهُمْ أُلُوفٌ } أنهم خرجوا مؤتلفى القلوب، ولم يخرجوا عن افتراق كان منهم، ولا عن تباغض حدث بينهم. وألوف على هذا القول جمع آلف مثل قاعد وقعود وشهود. قالوا: والوجه الأول أجدر بالاتباع لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمه يفيد مزيد اعتبار بحالهم، ولأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة.
وقوله: { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } أى خرجوا لحذر الموت وخشيته، فقوله: { حَذَرَ } منصوب على أنه مفعول لأجله. الجملة الكريمة تشير إلى أن خروجهم كان الباعث عليه الحرص على مطلق حياة ولو كانت حياة ذل ومهانة، وأنه لم يكن هناك سبب معقول يحملهم على هذا الخروج، ولذا كانت نتيجة ذلك أن عاقبهم الله - تعالى - بالموت الذى هربوا منه فقال:
{ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } أى: فقال لهم الله موتوا فماتوا ثم أحياهم بعد ذلك. فجملة { ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } معطوفة على مقدر يستدعيه المقام أى، فماتوا ثم أحياهم. وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده - تعالى - عن إرادته.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما معنى قوله: { فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ } قلت: معناه فأماتهم وإنما جىء به على هذه الصورة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشىء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف كقوله - تعالى -
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وأن الموت إذا لم يكن منه بد، ولم ينفع منه مفر، فأولى أن يكون فى سبيل الله.
وقال الجمل: "فإن قلت هذا يقتضى أن هؤلاء ماتوا مرتين وهو مناف للمعروف من أن موت الخلق مرة واحدة؟ قلنا فى الجواب: لا منافاة إذ الموت هنا عقوبة مع بقاء الأجل كما فى قوله فى قصة موسى:
{ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } وثم موت بانتهاء الأجل، وتلخيصه: أنه - سبحانه - أماتهم قبل آجالهم عقوبة لهم ثم بعثهم إلى بقية آجالهم، وميتة العقوبة بعدها حياة - أى فى الدنيا - بخلاف ميتة الأجل - فلا حياة بعدها فى الدنيا - .."
وبعد هذا البيان لمعنى الآية قد يقال: من هم أولئك القوم الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الموت؟ وهل الإِماتة والإِحياء بالنسبة لهم كانا على سبيل الحقيقة؟
للإِجابة على السؤال الأول نقول: لم يرد حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيه من هؤلاء القوم وفى أى زمن كانوا، وإنما أورد بعض المفسرين عن بعض الصحابة والتابعين روايات فيها مقال، وفيها تفصيلات نرى من الخير عدم ذكرها لضعفها. ومن هذه الروايات ما جاء عن ابن عباس أنه قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون، حتى إذا كانوا بموضع كذا أو كذا ماتوا.. ثم أحياهم الله بدعوة دعاها نبيهم.
ومنها أنهم - قوم من بنى إسرائيل - فروا من الجهاد حين أمرهم الله به على لسان نبيهم "حزقيل" وخافوا من الموت فى الجهاد فخرجوا من ديارهم فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شىء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد..".
قال القرطبى بعد أن ساق هذه الرواية: وقال ابن عطية: وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله - تعالى - أخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إخباراً فى عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فراراً من الموت فأماتهم الله ثم أحياهم ليروا هم وكل من جاء من بعدهم أن الإِماتة إنما هى بيد الله لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر. وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدى أمر المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد. وهذا قول الطبرى وهو ظاهر وصف الآية" والذى نراه أن الرواية الثانية التى تقول: إنهم قوم من بنى إسرائيل فروا من الجهاد حين أمرهم الله به.. معقولة المعنى، ويؤيدها سياق الآيات، لأن الآيات تحض الناس على القتال فى سبيل الله، وتسوق لهم قصة هؤلاء القوم لكى يعتبروا ويتعظوا ولا يتخلفوا عن الجهاد الذى هو باب من أبواب الجنة - كما قال الإِمام على بن أبى طالب - ولأن قوله - تعالى -: { وَهُمْ أُلُوفٌ } يشعر بأنهم مع كثرة عددهم قد نكصوا على أعقابهم، وفروا من وجوه أعدائهم وهذا شأن بنى إسرائيل فى كثير من أدوار تاريخهم وما قاله ابن عطية يشير إليها فهو يقول: وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدى أمر المؤمنين... بالجهاد. إلا أنه آثر وصفهم بأنهم قوم من البشر.
وللإِجابة على السؤال الثانى وهو - هل الإِماتة والإِحياء بالنسبة لهم كانا على سبيل الحقيقة - نقول: مبلغ علمنا أن المفسرين السابقين مجمعون على أن الموت كان موتاً حقيقياً حسياً لهم، وأن إعادتهم إلى الحياة بعد ذلك كانت إعادة حقيقية حسية.
وقد خالف الأستاذ الإِمام محمد عبده إجماع المفسرين هذا فرأى أن المراد بالموت فى الآية الموت المعنوى بمعنى أن موت الأمم إنما هو فى جبنها وذلتها وأن حياتها إنما تكون فى عزتها وحريتها، فقد قال -رحمه الله - ما ملخصه.
".. والمتبادر من السياق أن أولئك القوم خرجوا من ديارهم بسائق الخوف من عدو مهاجم لا من قلتهم، فقد كانوا ألوفاً أى كثيرين، وإنما هو الحذر من الموت الذى يولده الجبن فى أنفس الجبناء، فيريهم أن الفرار من القتال هو الواقى من الموت وما هو إلا سبب الموت بما يمكن الأعداء من رقاب أهله، قال أبو الطيب:

يرى الجبناء أن الجبن حزموتلك خديعة الطبع اللئيم

ثم قال: لقد خرجوا فارين { فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ } أى أماتهم بإمكان العدو منهم... فمعنى أولئك القوم هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم وأزال استقلال أمتهم حتى صارت لا تعد أمة، بأن تفرق شملها، وذهبت جامعتها، فكل من بقى من أفرادها بقى خاضعاً للغالبين ضائعاً فيهم، لا وجود له فى نفسه، وإنما وجوده تابع لوجود غيره.
ومعنى حياتهم هو عود الاستقلال إليهم، ذلك أن من رحمة الله فى البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديباً لهم، ومطهراً لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة. أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الخوف والجبن والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم، ووثقوا رابطتهم، حتى عادت لهم وحدتهم، فاعتزوا وكثروا حتى خرجوا من ذل العبودية التى كانوا فيها إلى عز الاستقلال فهذا معنى حياة الأمم وموتها".
فأنت ترى أن الأستاذ الإِمام يرى أن الموت والحياة فى الآية معنويان، بمعنى أن موت الأمم فى جبنها وذلتها، وحياتها فى استقلالها وحريتها.
ولعله -رحمه الله - قد اتجه هذا الاتجاه لأن الحض على القتال فى سبيل الله واضح فى هذه الآيات، ولأنه يرى أن واقع العالم الإِسلامى يومئذ وما أصابه من ظلم واستبداد واستلاب للحرية يدعوه إلى أن يحرض المسلمين على القتال فى سبيل حقهم المسلوب، وأن يحذرهم من سوء عاقبة الجبن والخنوع.
ومع أننا لا نشك فى الدوافع الطيبة والبواعث الكريمة التى جعلت الأستاذ الإِمام يتجه هذا الاتجاه، إلا أننا لا نتردد فى اختيار ما ذهب إليه المفسرون من أن الموت والحياة فى الآية حسيان حقيقيان، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة، ولأنه يتجه اتجاهاً أعم من اتجاه الإِمام محمد عبده، لأن المفسرين يرون أن الآية واضحة فى إثبات قدرة الله وفى صحة البعث، وفى الحض على القتال فى سبيل الله.
قال بعض العلماء: قوله - تعالى -: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ } الآية. كان المشركون يستفتون اليهود فى كثير من الأمور وكانت هذه القصة معلومة لليهود فى أسفارهم وتواريخهم، فنزل القرآن بالإِشارة إليها ليرتدع المشركون عما هم فيه من الضلال وإنكار البعث، ويعلموا أن دلائل القدرة على البعث مشهورة، وأن عند اليهود منها ما لو رجعوا إليهم فيه لعلموا أنه حق لا ريب فيه. وفى ذكر هذه القصة مع ذلك تشجيع للمؤمنين على الجهاد والتعرض للشهادة، وتمهيد لما بعد هذه الآية".
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } أى: إن الله - تعالى - لصاحب تفضل دائم على الناس حيث أوجدهم بهذه الصورة الحسنة، وخلق لهم عقولا ليهتدوا بها إلى طريق الخير، وسخر لهم الكثير مما فى هذا الكون. فمن الواجب عليهم أن يشكروه وأن يطيعوه، ولكن الذى حدث منهم أن أكثرهم لا يشكرون الله - تعالى - على ما منحهم من نعم.
وفى قوله: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } إنصاف للقلة الشاكرة منهم، ومديح لهم على استقامتهم وقوة إيمانهم.
ثم أمر الله - تعالى - عباده بالجهاد فى سبيله فقال: { وَقَاتِلُواْ فى سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
والسبيل: الطريق. وسميت المجاهدة سبيلا إلى الله لأن الإِنسان يسلكها فيصل إلى ما يرضى الله، ويعلى كلمته. ويعز دينه.
أي، قاتلوا أيها المسلمون فى سبيل إعلاء كلمة الله، والدفاع عن دينه، واعلمو أنه - سبحانه - عليم بكل أقوالكم صالحها وطالحها، عليم بكل ما يدور فى نفوسكم وخواطركم، وسيجازى المحسن بإحسانه، والمسئ بإساءته.
فالآية الكريمة تحريض للمؤمنين على القتال من أجل إظهار الدين الحق، وتحذير لهم من القعود عنه، وحث لهم على صدق النية وإخلاص العمل لله،
"فقد سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أى ذلك فى سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله" .
ثم أمر الله - تعالى - عباده بأن ينفقوا أموالهم فى الأعمال الصالحة التى من أعظمها الجهاد فى سبيله فقال - تعالى -: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً }.
قال القرطبى: "القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء. وأقرض فلان فلانا أى أعطاه ما يتجازاه. واستقرضت من فلان أى طلبت منه القرض فأقرضنى. واقترضت منه أى أخذت القرض. وأصل الكلمة القطع ومنه المقراض. وأقرضته أى قطعت له من مالى قطعة يجازى عليها... ثم قال: والتعبير بالقرض فى هذه الآية إنما هو تـأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغنى الحميد، لكنه - تعالى - شبه عطاء المؤمن فى الدنيا بما يرجو به ثوابه فى الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال فى أخذ الجنة بالبيع والشراء..".
والمعنى: من هذا المؤمن القوى الإِيمان الذى يقدم ماله فى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله، وفى غير ذلك من وجوه الخير كمعاونة المحتاجين، وسد حاجة البائسين، ومساعدة الأمة الإِسلامية بما يفيدها ويعلى من شأنها، { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } أى: فيرد الله - تعالى - إلى هذا الباذل المعطى المقرض بدل ما أعطى وبذل وأقرض أمثالا كثيرة لا يعلم مقدارها إلا الله أكرم الأكرمين. إذ المضاعفة معناها إعطاء الشخص أضعاف أى أمثال ما أعطى وبذل.
والاستفهام فى قوله: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ... } للحض على البذل والعطاء، وللتهييج على الاتصاف بالصفات الكريمة، حتى لكأن المستفهم لا يدرى من هو الأهل لهذه الصفات ويريد أن يعرف من هو أهل لها.
و{ مَّن } اسم استفهام مبتدأ، و{ ذَا } اسم إشارة خبره، والذى وصلته صفة لاسم الإِشارة أو بدل منه.
وقوله: { قَرْضاً حَسَناً } حث للناس على إخلاص النية، وتحرى الحلال فيما ينفقون، لأن الإِنسان إذا تصدق بمال حرام، أو قصد بنفقته الرياء أو المباهاة لا يكون عمله متقبلا عند الله، وإنما يتقبل الله العمل ويضاعفه لمن قصد به وجهه، وكن المتصدق به مالا حلالا خالصا من الشبهات. فالله - تعالى - طيب لا يقبل إلا ما كان طيبا.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.
القبض: ضد البسط. يقال: قبضه بيده يقبضه أى تناوله. وقبض عليه بيده أى أمسكه. ويقال لإِمساك اليد عن البذل قبض ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } أي يمتنعون عن الإِنفاق.
والبسط معناه المد والتوسعة. يقال بسط يده أى: مدها. وبسط المكان القوم. وسعهم.
والمعنى: والله - تعالى - بيده الإِعطاء والمنع فهو يسلب تارة ويعطى أخرى، أو يسلب قوما ويعطى آخرين، أو يضيق على بعض ويوسع على بعض حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكمة والمصلحة، وما دام الأمر كذلك فلا تبخلوا بما وسع عليكم كيلا تتبدل أحوالكم من الغنى إلى الفقر، ومن السعة إلى الضيق. وأنتم جميعا سترجعون إليه وحده، وسيجازى - سبحانه - الأسخياء بما يستحقون من كريم الثواب والبخلاء بما هم أهله من شديد العقاب.
فأنت ترى أن فى هذه الآية الكريمة ألوان من الحض على الإِنفاق فى وجوه الخير ومن ذلك التعبير بالاستفهام، لأنه للتنبيه وبعث النفوس إلى التدبر والاستجابة.
ومن ذلك - أيضاً - التعبير بقوله: { مَّن ذَا ٱلَّذِي.. } فقد جمع هذا التعبير بين اسم الإِشارة والاسم الموصول فى الاستفهام، ولا يستفهم بتلك الطريقة إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر، وكان المخاطب لعظم قدره من شأنه أن يشار إليه وأن يتحدث عنه ومن ذلك تسميته ما يبذل الباذل قرضا، ولمن هذا القرض إنه لله الذى بيده خزائن السماوات والأرض والذى سيرد للباذل أضعاف ما بذل، فكأنه - سبحانه - يقول لنا: إن ما تدفعونه لن يضيع عليكم بل هو قرض منكم لى، وسأرده لكم بأضعاف ما دفعتم وأعطيتم. ومن ذلك إخفاء مرات المضاعفة ووصفها بالكثرة فى قوله: { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } أى لا يعلم مقدارها إلا الله.
ومن ذلك التعبير بقوله { وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } لأنه ما دام العطاء والمنع من الله فلماذا يبخل البخلاء ويقتر المقترون؟ إن على الغنى أن يستشعر نعمة الله عليه وأن يتحدث بها بدون رياء وأن ينفق منها فى وجوه الخير حتى يزيده الله من فضله، وإلا ففى قدرة الله أن يسليها منه، ويحاسبه على بخله حسابا عسيراً.
هذه بعض وجوه المبالغة التى اشتملت عليها الآية لحض الناس على الإِنفاق فى الجهاد وفى وجوه الخير، ولقد استجاب السلف الصالح لهذه التوجيهات، وحكى لنا التاريخ أمثلة كريمة من سخائهم وبذلهم.
ومن خير الأمثلة على ذلك ما جاء عن عبد الله بن مسعود قال:
"لما نزلت: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } قال أبو الدحداح: يا رسول الله أو إن الله - تعالى - يريد منا القرض؟ قال نعم يا أبا الدحداح قال أرنى يدك. فناوله النبى صلى الله عليه وسلم يده. فقال أبو الدحداح: فإنى أقرضت الله - تعالى - حائطا فيه ستمائة نخلة. ثم جاء يمشى حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك قال: أخرجى قد أقرضت ربى حائطاً فيه ستمائة نخلة" .
وفى رواية لزيد بن اسلم "أن أبا الدحداح قال للنبى صلى الله عليه وسلم إن لى حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية والله لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضا لله - تعالى - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعل إحداهما والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك قال: فأشهدك يا رسول أنى قد جعلت خيرهما لله وهو حائط فيه ستمائة نخلة. قال: إذا يجزيك الله به الجنة، ثم انطلق أبو الدحداح إلى زوجته وهى مع صبيانها فى الحديثة تدور تحت النخل فأخبرها بما فعل. فأقبلت على صبيانها تخرج ما فى أفواههم وتنفض ما فى أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر" .
وبهذا نرى السلف الصالح قد امتثل ما أمره الله به من إنفاق فى سبيله ومن جهاد لإِعلاء كلمته فهل آن الأوان للمسلمين أن ينهجوا نهجهم لكى يسعدوا كما سعدوا، وينالوا أشرف حياة وأعزها؟ اللهم خذ بيدنا إلى ما يرضيك.
ثم ساق القرآن قصة من قصص بنى إسرائيل مع أنبيائهم، فيها العظات والعبر، وملخص هذه القصة: أن قوما من بنى إسرائيل كانوا قد انهزموا أمام أعدائهم هزيمة منكرة جعلتهم يولون الأدبار تاركين ديارهم وأبناءهم، فقالوا لنبى لهم بعد أن ذاقوا مرارة الهزيمة: أبعث لنا مالكا يقودنا للقتال فى سبيل الله، ففال لهم نبيهم بعد أن حذرهم من عاقبة الجبن والكذب: { إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } فاعترضوا على هذا الاختيار، ونقصوا من شأن من اختاره الله قائدا لهم، ولكن نبيهم ساق لهم من الحجج التى تدل على صلاحية طالوت لهذا المنصب ما أخرس ألسنتهم.. ثم سار طالوت بجنوده لقتال أعدائه، وفى الطريق قال لمن معه
{ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } ثم بعد هذه المخالفة جبن أكثرهم عن قتال أعدائهم وقالوا { لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } ولكن الفئة القليلة المؤمنة منهم استطاعت أن تنتصر على كل عقبة فى طريقها، وأن تقاتل أعداءها بشجاعة وصبر واعتماد على الله، فكانت النتيجة أن انتصرت الفئة القليلة المؤمنة بقيادة طالوت على الفئة الكثيرة الكافرة بقيادة جالوت. هذا تلخيص لتلك القصة العامرة بالعظات، ولعل من الخير قبل أن نبدأ فى تفسير آياتها أن نقرأها بتدبر وتأمل كما صورها القرآن بأسلوبة البليغ المؤثر.
قال - تعالى -:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ...يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }.