خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٢٦١
ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٢٦٢
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ذكر بعض المفسرين أن هاتين الآيتين نزلنا فى صدقة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وذلك "أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حث الناس حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك، جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم فقال: يا رسول الله كانت لى ثمانية آلاف فأمسكت لنفسى ولعيالى أربعة آلاف، وأربعة آلاف أفرضتها لربى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت" . وجاء عثمان بألف دينار فى جيش العسرة فصبها فى حجر الرسول صلى الله عليه وسلم قال عبد الرحمن بن سمرة - راوى الحديث - فرأيته صلى الله عليه وسلم يدخل يده فيها ويقلبها ويقول: "ماضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم اللهم لا تنس هذا اليوم لثعمان" وقال أبو سعيد الخدرى: رأيت النبى صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول: "يا رب عثمان إنى رضيت عن عثمان فارض عنه" .
ونزول هاتين الآيتين فى شأن صدقة هذين الصحابيين الجليلين لا يمنع من شمولهما لكل من نهج نهجهما، وبذل من ماله فى سبيل الله.
و "المثل"، الشبه والنظير. ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه لمورده الذى ورد فيه أولا. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، وعلى هذا المعنى يحمل المثل فى هذه الآية.
و "الحبة" كما يقول القرطبى - اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته، وأشهر ذلك البر فكثيرا ما يراد بالحب.
وسنبلة - بوزن فنعلة - من أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل، أى استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالاسبال. وقيل: معنه صار فيه حب مستور كما يستر الشىء بإسبال الستر عليه. والجمع سنابل.
والمعنى: مثل صدقة الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله، أى: فى طاعته، كمثل حبة ألقيت فى أرض طيبة، أصابها الغيث، فخرجت الحبة على هيئة زرع قوى جميل فأنبتت فى الوقت المناسب لإِنباتها سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة.
فأنت ترى أن الخالق - عز وجل - قد شبه حال الصدقة التى ببذلها المؤمن فى سبيل الله فيكافئه الله - تعالى - عليها بالثواب العظيم، بحال الحبة التى تلقى فى الأرض النقية فتخرج عودا مستويا قائما قد تشعب إلى سبع شعب، فى كل شعبة سنبلة، وفى كل سنبلة مائة حبة. وفى هذا التشبيه ما فيه من الحض على الإِنفاق فى وجه الخير، ومن الترغيب فى فعل البر ولا سيما النفقة فى الجهاد فى سبيل الله.
قال ابن كثير: "وهذا المثل أبلغ فى النفوس من ذكر عدد السبعمائة. فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله - تعالى - لأصحابها كما ينمى الزرع لمن بذره فى الأرض الطيبة".
وقال - سبحانه -: { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ } فأسند الإِنبات إلى الحبة، مع أن المنبت فى الحقيقة هو الله، وذلك لأنهاه سبب لوجود تلك السنابل المليئة بالحبات، ولأنها هى الأصل لما تولد عنها.
ثم قال - تعالى -: { وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } أى والله - تعالى - يضاعف الثواب والجزاء أضعافاً كثيرة لمن يشاء من عباده، فيعطى بعضهم سبعمائة ضعف، ويعطى بعضهم أكثر من ذلك، لأن الصدقة يختلف ثوابها باختلاف حال المتصدق، فمتى خرجت منه بنية خالصة، وقلب سليم، ونفس صافية، ومن مال حلال، ووضعت فى موضعها المناسب، متى كانت كذلك كان الجزاء عليها أوفر، والمضاعفة لها تزيد على سبعمائة ضعف. إذ عطاء الله لمن يشاء من عباده ليس له حدود، وثوابه ليس له حساب معدود.
ولذا ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أى والله - تعالى - عطاؤه واسع، وجوده عميم، وفضله كبير، وهو - تعالى - عليم بنيات عباده وبأقوالهم وبأفعالهم وبسائر شئونهم، فيجازى كل إنسان على حسب نيته وعمله.
وقوله - تعالى -: { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فى سَبِيلِ } استئناف جىء به لبيان كيفية الإِنفاق الذى يحبه الله، ويجازى عليه المنفقين بالجزاء العظيم.
وقوله: { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } تحذير للمتصدق من هاتين الصفتين الذميمتين لأنهما مبطلتان لثواب الصدقة.
والمن معناه: أن يتطاول المحسن بإحسانه على من أحسن إليه، ويتفاخر عليه بسبب ما أعطاه من عطايا. كأن يقول على سبيل التفاخر والتعبير: لقد أحسنت إليك وأنقذتك من الفقر وما يشبه ذلك.
قال الإِمام الرازى ما ملخصه: والمن فى اللغة على وجوه: فقد يأتى بمعنى الإِنعام. يقال: قد من الله على فلان. إذا أنعم عليه بنعمه. وقد يأتى بمعنى النقص من الحق والبخس له. قال - تعالى -:
{ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } أى غير مقطوع وغير ممنوع ومنه سمى الموت منونا لأنه يقطع الأعمار، ومن هذا الباب المنة المذمومة لأنها تنقص النعمة وتكدرها، والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة.
والمراد بالمن فى الآية المذموم الذى هو بمعنى "إظهار الاصطناع إليهم".
وقال صاحب الكشاف: المن: أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه، ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقاله، وكانوا يقولون: إذا صنعتم صنيعة فانسوها. ولبعضهم.

وإن أمرؤ أسدى إلى صنيعة وذكرنيها إنه للئيم

وفى نوابغ الكلم: صنوان: من منح سائله ومنَّ، ومن منع نائله وضن" والمراد بالأذى فى الآية: أن يقول المعطى لمن أعطاه قولا يؤذيه، أو يفعل معه فعلا يسئ به إليه، وهو أعم من المن، إذ المن نوع من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه.
وجاء العطف بثم فى الجملة الكريمة، لإِظهار التفاوت الشديد فى الرتبة بين الإِنفاق الذى يحبه الله، وبين الإِنفاق الذى يصاحبه المن والأذى، وللإِشعار بأن المن والأذى بغيضان عند الإِنفاق وبعده، فعلى المنفق أن يستمر فى أدبه وإخلاصه وقت الإِنفاق وبعده حتى لا يذهب ثوابه، إذ المنّ والأذى مبطلان للثواب فى أى وقت يحصلان فيه.
قال الشيخ ابن المنير مبيناً أن { ثُمَّ } هنا تفيد استمرار الفعل بجانب إفادتها للتفاوت فى الرتبة: وعندى فيها - أى فى ثم - وجه آخر محتمل فى هذه الآية ونحوها. وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول فى استصحابه. فهى على هذا لم تخرج عن الإِشعار ببعد الزمن، ولكن معناها الأصلى تراخى زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناها المستعار إليه دوام وجود الفعل وتراخى زمن بقائه. وعليه حمل قوله -:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } أى: داوموا على هذه الاستقامة دواما متراخيا ممتد الامد.. وكذلك قوله هنا { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } أى يدومون على تناسى الإِحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان والأذى..
وكرر - سبحانه - النفى فى قوله: { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى } لتأكيده وشموله لأفراد كل واحد منهما، أى يجب ألا يقع منهم أى نوع من أنواع المن ولا أى نوع من أنواع الأذى. حتى لقد قال بعض الصالحين: "لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه بنفقة تبتغى بها وجه الله، فلا تسلم عليه".
ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان عاقبة المنفقين بلا من ولا أذى فقال: { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أى: لهم جزاؤهم العظيم مكافأة لهم على أدبهم وإخلاصهم، عند مربيهم ومالك أمرهم، ولا خوف عليهم مما سيجدونه فى مستقبلهم، ولا هم يحزنون على ماضيهم، وذلك لأن الله - تعالى - قد أحاطهم برعايته فى دنياهم وأخراهم وعوضهم عما فارقوه خير عوض وأكرمه.
ثم كرر - سبحانه - التحذير من المن والأذى، مناديا المؤمنين بأن يجتنبوا فى صدقاتهم هاتين الرذيلتين، مبينا أن الكلمة الطيبة للفقير خير من إعطائه مع إيذائه، استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه المعانى وغيرها بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول:
{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن... وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }.