خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ
٤٧
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أعاد القرآن الكريم نداءهم، تأكيداً لتذكيرهم بواجب الشكر، واهتماماً بمضمون الخطاب وما يشتمل عليه من أوامر ومنهيات، وتفصيلا لما أسبغه الله عليهم من منن بعد أن أجملها فى النداء الأول، ليكون التذكير أتم والتأثير أشد، والشكر عليها أرجى.
وقد جرت سنة القرآن الكريم أن يكرر الجمل المشتملة على أمور تستوجب المزيد من العناية كما فى حال ذكر النعم، لأن تكرارها يغرى النفوس الكريمة بطاعة مرسلها، والسير على الطريق القويم.
وقوله تعالى: { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } عطف على نعمتى، أى واذكروا تفضيلى إياكم على العالمين، وهذا التفضيل نعمة خاصة، فعطفه على { نِعْمَتِي } من عطف الخاص على العام للعناية به، وهو - أى: التفضيل مبدأ تفصيل النعم وتعدادها، والمقصود منه الحض على الاتصاف بما يناسب تلك النعم، ويستبقى ذلك الفضل.
وقد ذكر الله - تعالى - بنى إسرائيل المعاصرين للعهد النيوى بهذه النعم مع أنها كانت لآبائهم. كما يدل عليه سياق الآيات؛ لأن النعم على الآباء نعم على الأبناء لكونهم منهم، ولأن شرف الأصول يسرى إلى الفروع، فكان التذكير بتلك النعم فيه شرف لهم، وحسن سمعة تعود عليهم، وتغريهم بالإِيمان والطاعة - لو كانوا يعقلون -.
ومن مظاهر، تفضيل الله لبنى إسرائيل على عالمى زمانهم، جمعه لهم من المحامد قبل بعثة النبى صلى الله عليه وسلم. ما لم يجمع لغيرهم. فقد حياهم بكثير من النعم، وبعث فيهم عدداً كبيراً من الأنبياء، ونجاهم من عدوهم، ولم يعجل العقوبة عليهم رغم عصيانهم واعتدائهم، واقترافهم شتى ألوان المنكرات عن تعمد وإصرار، ولم ينزل بهم قارعة تستأصلهم بذنوبهم كما استأصل غيرهم كقوم عاد وثمود.
ولكن بنى إسرائيل لم يقابلوا نعم الله بالشكر والعرفان. بل قابلوها بالجحود والطغيان فسلبها الله عنهم، ومنحها لقوم آخرين لم يكونوا أمثالهم.
ولقد حكى القرآن ألوانا من النعم التى منحها الله لبنى إسرائيل ولكنهم قابلوها بالبطر والكفران فأزالها الله عنهم. من ذلك قوله تعالى:
{ سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } أى: سل - يا محمد - بنى إسرائيل المعاصرين لك. سؤال تقريع وتوبيخ. كم آتاهم الله على أيدى أنبيائهم من النعم الجليلة، والمعجزات الباهرة، ولكنهم بعد أن جاءتهم هذه الآيات، وتمكنوا منها وعقلوها قابلوها بالعناد والاستهزاء، وجعلوها من أسباب ضلالهم مع أنها مسوقة لهدايتهم وسعادتهم، فكانت نتيجة ذلك أن ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة فى الدنيا، وتوعدهم بشديد العقاب فى الآخرة.
ومن الآيات التى صرحت بأن الله - تعالى - أعطى بنى إسرائيل نعماً وفيرة، ولكنهم لم يحمدوه عليها. قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ * وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم مِّنَ ٱلآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ } أى: ولقد نجينا بفضلنا وكرمنا بنى إسرائيل من العذاب المهين الذى كان ينزله بهم فرعون وجنده، بأن أغرقناه ومن معه أمام أعينهم؛ لأنه كان ظلوماً غشوماً، وفضلا عن ذلك فقد اصطفينا بنى إسرائيل - على علم منا بما يكون منهم - على عالمى زمانهم وآتيناهم من النعم والمعجزات. ما فيه اختبار لقلوبهم، وامتحان لنفوسهم. فكانت نتيجة هذا الاختبار والامتحان أن كفروا بنعم الله، وكذبوا برسله وقتلوهم. فتوعدهم الله فى الدنيا بأن يسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة. أما فى الآخرة فمأواهم جهنم وبئس المهاد.
- وأيضا - من الآيات التى ساقت أنواعاً من نعم الله على بنى إسرائيل ولكنهم لم يشكروه عليها قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } والمعنى: ولقد آتينا بنى إسرائيل التوراة لتكون هداية لهم ومنحناهم الحكمة والفقه فى الدين، وجعلنا النبوة فى عدد كبير منهم، ورزقناهم من طيبات الأغذية والأشربة، وفضلناهم على من عاصرهم من الأمم قيل بعثة النبى صلى الله عليه وسلم وفضلا عن ذلك فقد سقنا لهم على أيدى أنبيائهم الكثير من المعجزات والدلائل التى تقوى إيمانهم، وتهديهم إلى الطريق المستقيم ولكنهم لم ينتفعوا بهذه النعم. بل جعلوا علمهم بالدين الحق سبباً للخلاف والشقاق، والسير فى طريق الضلال، وسيعاقبهم الله بما يستحقونه جزاء جحودهم وعنادهم.
والعبرة التى نستخلصها من هذه الآيات وأمثالها. أن الله - تعالى - فضل بنى إسرائيل على غيرهم من الأمم السابقة على الأمة الإسلامية. ومنحهم الكثير من النعم، ولكنهم لم يقابلوا ذلك بالشكر. بل قابلوه بالتمرد والحسد والبطر. فسلب الله عنهم ما حباهم من نعم، ووصفهم فى كتابه بأقبح الصفات وأسوأ الطباع. كقسوة القلب، ونقض العهد، والتهالك على شهوات الدنيا، والتعدى على الغير. والتحايل على استحلال محارم الله، ونبذهم للحق واتباعهم الباطل... إلى غير ذلك من الصفات التى توارد ذكرها فى القرآن الكريم.
وهذا مصير كل أمة بدلت نعمة الله كفراً؛ لأن الميزان عند الله للتقوى والعمل للصالح، وليس للجنس أو اللون أو النسب.
قال الإِمام الرازى ما ملخصه: فإن قيل: إن تفضيلهم على العالمين يقتضي تفضيلهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا باطل. فكيف الجواب؟ قلنا: الجواب من وجوه أقربها إلى الصواب أن المراد: فضلتكم على عالمى زمانكم وذلك لأن الشخص الذى سيوجد بعد ذلك وهو الآن ليس بموجود لم يكن من جملة العالمين حال عدمه، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما كانت موجودة فى ذلك الوقت، فلا يلزم من كون بنى إسرائيل أفضل العالمين فى ذلك الوقت. أنهم أفضل من الأمة المحمدية. وهذا هو الجواب أيضاً عن قوله - تعالى -:
{ { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ } }. وعن قوله تعالى: { وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } وبهذا يتعين بطلان دعوى اليهود أنهم شعب الله المختار. استناداً إلى هذه الآية الكريمة وأمثالها، لأنها دعوى لا تؤيدها النصوص، ولا يشهد لها العقل السليم. ثم قال تعالى:
{ وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ... }